رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلوى بكرى: الدولة المركزية من ملامح الشخصية المصرية عندما تنهض ينهض الوطن.. وغياب الشعور بعدم امتلاك «المال العام» أسوأ ما جرى

سلوى بكرى
سلوى بكرى

اقترحت الروائية والناقدة الأدبية سلوى بكر إنشاء وزارة واحدة لكل من التعليم والثقافة ومحو الأمية، إلى جانب الاستعانة بالمثقفين فى التدريس، معتبرة أن مدارسنا تُخرّج طلابًا «شبه متعلمين»، وهو ما أظهرته وسائل التواصل الاجتماعى فى الفترة الأخيرة.

ورأت الروائية، التى تعد واحدة من الكتاب المعاصرين البارزين فى الأدب العربى، ولديها مساهمات مهمة فى مجال الأدب الروائى، وتعتبر من أبرز الأصوات النسائية فى الوطن العربى، خلال استضافتها فى برنامج «الشاهد» للإعلامى الدكتور محمد الباز، على قناة «إكسترا نيوز»، أن المثقفين بعيدون عن الناس رغم جلوسهم على مقاهٍ شعبية، معتبرة أن اليسارى المتحول إلى اليمين مثل محمد عمارة، أخطر على الثقافة المصرية من المتشددين أنفسهم.

■ أين ذهبت قدرة الشخصية المصرية، وكيف يحمل كل مصرى بداخله هرمًا؟

- تاريخيًا ومنذ أيام القدماء المصريين، كان لا بد فى مصر من وجود «دولة مركزية» قابضة على نهر النيل، تكون مسئوليتها ضبط النهر منذ دخول المياه أول الجنوب حتى الشمال، وهو ما فرضه الوضع الجيوسياسى، لذا فإن الدولة فى حياة المصريين بالغة الأهمية.

والمتعمق فى التاريخ المصرى يجد أنه عندما تنهض الدولة تنهض مصر، والعكس صحيح، هذا قانون تاريخى، وأظن أنه ما زال يفعل مفعوله حتى الآن. فالدولة المركزية هى التى خلقت فكرة الهرم، ولا بد من وجود سلطة مركزية قابضة واعية، وهذا ملمح فى الشخصية المصرية.

على سبيل المثال، الناس تنظف البيوت من الداخل، لكن نظافة الطريق مسئولية الدولة، وهذا يُعيدنا إلى فكرة الدولة المركزية والهرم والشخصية المصرية، فمبادرات الناس أحيانًا تكون ضعيفة وسلبية، وإن وجدت لا تستمر. لكن كما أن الدولة هى المسئولة عن نظافة الشوارع، وهذا صحيح فى جانب، هناك جانب آخر يتعلق بالمواطنين أنفسهم هو: أين أنتم؟.. هذه مسألة بدأت تزيد فى الشخصية المصرية لأسباب متراكمة.

الشخصية المصرية لديها أشياء بالغة الإيجابية.. «لو عطلت عربية فى الشارع نجد ١٠ يساعدوا».. هى شخصية جماعية طوال الوقت، بسبب أن المصريين احتاجوا دائمًا للعيش فى تجمعات زراعية منذ فجر التاريخ، ونهر النيل جبار جدًا، يحتاج إلى عمل بشكل كبير، يحتاج إلى عمل جمعى، لذا عاش المصريون فى مشتركات جماعية، ما جعل الشخصية المصرية تميل إلى التماثل، أى التقليد، والعمل الجماعى.

■ ما الذى حدث لهذه الشخصية إذن؟

- الشخصية المصرية تعرضت لبعض المتغيرات التى تواكبت مع اتباع سياسة «الانفتاح الاقتصادى»، وهجرة المواطنين وعودتهم بقيم بعيدة عن طبيعة الشخصية المصرية، من بينها أن المال أصبح المتحكم فى كل شىء، حتى القيم. كما أن السكان قديمًا كانوا متقاربين، على عكس ما يحدث الآن. 

وأسوأ ما جرى للشخصية المصرية، أيضًا، هو غياب الشعور بأن كل ما هو عام هو مُمتلك للمواطن ذاته، وهذه ظاهرة خطيرة جدًا تؤثر على التنمية. على سبيل المثال، الناس «بتقطع كراسى الأتوبيسات الجديدة»، لأن المواطن فاقد الشعور بأن هذا الشىء ملكه، يعتبره ملك الحكومة.. كذلك ما تعرض له «ممشى أهل مصر» من تخريب وخسائر، عندما كان الدخول إليه بالمجان.

نتحدث هنا عن أعراض المرض وليس المرض، المرض هو غياب الشعور بالانتماء، الذى يجب أن يتحول إلى تفاصيل حياتية يومية لدى الناس، ولا يفعل ذلك إلا التعليم، ومن الضرورى جدًا أن تكون فلسفة هذا التعليم تعريف المواطن بحقوقه وواجباته وتاريخه وانتمائه للوطن.

العالم كله حتى المرحلة الثانوية، يحصل فيه الجميع على ذات الجرعة التعليمية المعرفية. يتعلم كيف يقف فى إشارة مرور، وألا يلقى المناديل فى الشارع، ويحافظ على الممتلكات العامة، لكن للأسف لدينا حقوق وواجبات منبثقة عن الدستور معظمنا لا يعرفها، حتى المتعلمون تعليمًا جيدًا. والتعليم لا بد أن يعلم المساواة بين الناس، والمعارف والخبرات التى يحصل عليها الشخص من التعليم، يجب أن تمكنه من إدارة الحياة بشكل أفضل.

وهذا الكم الكبير من الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات سنويًا يمثلون عبئًا على المجتمع، وهذه مسألة تتعلق بمفاهيم ثقافية، مثل عدم قبول الزواج من شخص غير جامعى، لذا لا بد من وجود نمط وبرامج تعليمية محددة، تنتج فى النهاية مواطنًا يعرف كيف يتعامل مع الجماعة، ويتحدث مع الناس، ويستخدم الوسائل العامة، ولديه ثقافة.

■ ما المقصود بهذه الثقافة من وجهة نظرك؟

- المقصود بالثقافة هى كمية المعارف والخبرات التى أحصل عليها، سواء عبر التعليم أو من خلال جهودى الذاتية، التى تمكننى من إدارة حياتى على نحو أفضل، ومهمتى كمثقف أن أقول أفكارًا فى مجالى تدفع المجتمع إلى الأمام، فلو أنا فنان تشكيلى مهمتى تكون تقديم أفكار تدفع المجتمع إلى الأمام، وأن أقول ذلك للتلاميذ، وهذه نقطة أخرى مهمة، وهى أن المثقفين أو الحاصلين على مؤهلات يدرّسون للباحثين.

لذا أناشد أن تكون هناك وزارة للتعليم والثقافة ومحو الأمية، «التلاتة مع بعض»، لأن إحنا عندنا مشكلة أمية مبطنة وغير ظاهرة، بمعنى أن الأولاد الذين يذهبون إلى المدارس ثم يخرجون منها، شبه متعلمين.

الآن فى الجامعات هناك أعداد هائلة من الطلاب لا تعرف كتابة اللغة العربية، وهناك أيضًا كمية جهل مريعة، وهذا ما أظهرته وسائل التواصل الاجتماعى، فمثلًا شخص يكتب على «فيسبوك» أن زواج البنات فى سن مبكرة، ١٢ أو ١٣ سنة، «شىء كويس جدًا».. «ده تقوله إيه هو والمتفاعلين بشكل إيجابى مع هذا الكلام الفارغ؟».

هنا نقول التعليم، وطوال تاريخ مصر بها فقر وغنى وما بينهما، لكن كانت مستنيرة بفضل التعليم وسعيه لتنوير الناس، ومحمد على الكبير فعل شيئًا لم يكن يقصده، لكنه كان عظيمًا جدًا، وهو جعل التعليم إلزاميًا، والذى كرس فكرة المواطنة، لأن الجميع يجب أن يتعلم بشكل إلزامى، سواء البنات أو الأولاد، المسلمون والمسيحيون، حتى اليهود عندما كان هناك يهود فى مصر.

هذه الخطوة جسدت فكرة المواطنة بشكل عملى وليس تنظيميًا، فالجميع سواء ويحصلون على نفس الجرعة التعليمية، من خلال التعليم الإلزامى، ولذلك نجد أشخاصًا فى التاريخ القديم لديهم شهادة الابتدائية، لكنهم مستنيرون وخطهم جميل ويعرفون اللغة العربية، وقدرًا من اللغة الإنجليزية.

■ هل قيمة التعليم تراجعت فى المجتمع المصرى بسبب سطوة قيمة المال؟

- طبعًا، فمثلًا أسرة بها أشقاء، أحدهم درس وتفوق ودخل كلية الطب أو الهندسة، وبذل جهودًا كبيرة لكى يكون طبيبًا أو مهندسًا، ثم عمل فى التأمين الصحى أو إحدى المصالح الحكومية، وأخوه حصل على مؤهل محدود أو متوسط، سافر إلى دولة نفطية لمدة ١٠ سنوات ورجع، سيقول لشقيقه: «أنت دكتور؟!.. طظ.. خلى التعليم ينفعك».

مثل هذه الأمور خلقت العديد من القيم السلبية، وجعلت قيمة وثقافة العمل غائبة، هذه الثقافة التى تجعل اليابانيين يرفضون الإجازات طوال الوقت لرغبتهم فى العمل، لكن فى مصر الشخص يسافر بره يرجع «يحط فلوسه» فى البنك، وياخد فوائدها ويعيش عليها، و«بعدين يصحى من النوم الساعة ١٢ يطلب البيتزا ويقعد أمام التليفزيون»، هذه ثقافة، والسبب الرئيسى هو امتلاكه المال.. كما يمكن أن تجد طبيبة درست الكثير من سنوات عمرها، وتقولك: «أنا هتجوز وهقعد فى البيت ومش محتاجة شغل».

■ كيف تنظرين إلى موضوعية المثقف المصرى؟، ولماذا يتلقى دائمًا اتهامات من كل الجهات.. من السلطة والجمهور؟

- المثقف يجب أن يمتلك عينًا ناقدة لنقائص وعيوب المجتمع والدولة حتى تكتمل الرؤية، وهذا شىء إيجابى وصحى، لأن هذا الانتقاد يستهدف تغيير المجتمع إلى الأفضل، لكن الإشكالية تكمن فى أن معظم المثقفين خرجوا من معطف الحركة السياسية اليسارية فى مصر بكل أنواعها، منذ عقود تعود للقرن الماضى، وحملوا معهم أمراض ومشاكل هذه الحركة؛ بما فيها من خلافات وانقسامات وانشقاقات، وهذا توصيف للواقع.

ليس من المعقول خلال الفترة الناصرية أن تكون المشاكل: هل هذا طريق نمو رأسمالى أم برجوازية أم بيروقراطية دولة؟ وما التوصيف الأمثل لثورة يوليو؟.. خناقات ومقالات ودراسات عن ذلك، من المفترض أن نناقش تاريخ مصر المعاصر.. أم نعود إلى الخلف؟.. تحدثوا أيضًا عن نضال الطبقة العاملة فى أوروبا، حين كانت الرأسمالية ناضجة وقوية، وهذا كلام مختلف عن المجتمع المصرى، تنظير فحسب. ليست صدفة أن كل المبدعين ينتمون إلى اليسار، من جمال الغيطانى ونجيب محفوظ، وصولًا إلى يوسف إدريس، لكنهم حملوا هذه الأمراض والانقسامات.

عندما يتحدثون عن جيل الستينيات، كانوا يختصرونه فى ٥ أشخاص، رغم أنه ضم عشرات الكتّاب المهمين الذين قدموا إنجازات، وهذه المشاكل جعلت المثقفين أكثر بُعدًا عن الناس والمجتمع، رغم جلوسهم على المقاهى الشعبية مثل «البستان».

ولذلك عندما كتب أحمد فؤاد نجم: «يعيش المثقف على مقهى ريش»، كان محقًا بدرجة أو بأخرى، لأن ثقافته كانت شعبية، وهو كان شاعرًا شعبيًا مصريًا جوالًا، لذا نجح فى توصيف الوضع بشكل صحيح.

■ كيف عالجتِ تحولات المثقفين اليسار فى روايتك الأخيرة؟

- روايتى الأخيرة «فيلة سوداء بأحذية بيضاء» تتناول شخصية اليسارى خلال سبعينيات القرن الماضى، وهو متشدد ومعارض ويمتلك شعارات، حتى إنه عندما حدثت حرب أكتوبر المجيدة كان رافضًا لها.. تتناول شخصية «اليسارى المتشدد»، النموذج شديد التطرف فى يساريته، إن جاز التعبير، وسرعان ما تحول عند أول فرصة إلى أقصى «اليمين الدينى المتشدد»، الذى كان يبدو متحررًا، ثم دفع بزوجته وحبيبته إلى أن تنتقب فى لحظة فارقة.

وتعبر الرواية بذلك عن ظاهرة حدثت فى المجتمع، هى التحول من اليسار إلى أقصى اليمين، مثل محمد عمارة وعادل حسين وآخرين، الذين كانوا أخطر على الثقافة المصرية، حتى من المنتمين لتيار التشدد، لأنهم وظفوا الوعى اليسارى السياسى والاجتماعى، ولعبوا دورًا مهمًا فى ميلاد أفكار تواجه الأفكار الاجتماعية والثورية التى كانت سائدة.

هؤلاء لعبوا دورًا عظيمًا فى المجتمع المصرى قبل ١٩٥٢ وما بعدها، لكن عدم قدرتهم على تحليل السلطة التى جاءت بها ثورة يوليو، وعدم قدرتهم على العمل السياسى والثقافى من خلال ما هو موجود على الأرض، أنتج أمورًا شديدة السلبية، ولبسًا فى علاقة المثقفين بالسلطة، وبالتالى قالب من العلاقة غير الصحية بين المثقف والسلطة.

ونحن أنفقنا مبالغ هائلة ودماء كثيرة من خيرة الشباب، سواء فى الجيش أو خارج الجيش، لمواجهة الإرهاب، وكان من الممكن أن تكون جماعات المثقفين حائط صد حقيقيًا ضد الأفكار الرجعية والمتخلفة، لو أُتيح لها سلاح أقوى.

■ السلطة والمثقف.. من يخطو فى اتجاه الثانى؟

- ثورة يوليو أنتجت ما يسمى «أهل الثقة»، كان هذا موجودًا فى الثقافة أيضًا، وكان جيدًا جدًا عندما كان أهل الثقة لديهم خبرات، فمثلًا عندما جاء ثروت عكاشة وزيرًا للثقاقة، وهو ضابط فى الجيش، أنتج أهم ثقافة فى مصر، إلى جانب مؤسسة السينما والمسرح وأكاديمية الفنون، وعشرات الأشياء العبقرية التى دفعت ثقافة مصر إلى الأمام، وبالتالى دفعت المجتمع للأمام، وتسببت فى حالة من «الاستنهاض».

فى المقابل، عندما يكون أهل الثقافة ليسوا أهل الخبرة تصبح هناك مشكلة كبيرة، فى ظل أن المثقفين لديهم كم من العقد التاريخية تجاه السلطة. فاروق حسنى أعتبره وزير ثقافة منجزًا حقًا، وكان لديه مشروع، وعلى المستوى الشخصى هو راقٍ جدًا ويتصرف بنهج الفنان والمثقف، فقالوا عنه: يريد أن يدخل المثقفين «الحظيرة».

وبالنسبة للسؤال، أرى أنه يجب أن تخطو الدولة الخطوات الأوسع فى اتجاه المثقف، لأن الدولة فى حاجة له، وهو فى حاجة لها، وهذا يصب فى الصالح العام، على المجتمع والدولة، خاصة أن لدينا مثقفين لديهم خبرات هائلة فى مجالات متباينة، من المفترض ألا نتركهم يجلسون على المقاهى ونهدر طاقتهم.

الثقافة فى مصر الآن تُدار بالموظفين ولا تُدار بالمثقفين، رغم أن الدولة تواجه كمًا من الضغوط الخارجية، و«مصر مستهدفة» فكرة حقيقية، وأى شخص لديه ذرة من الفهم والعقل سيرى الضغوط هائلة وبأشكال متعددة.

مصر تشكل حائط صد فى مواجهة كم من المؤامرات الدقيقة والخبيثة، وعندما ترى المحيط للخريطة المصرية وما جرى فيه، نجد أنه طوال الوقت الدولة تطفئ النار فى كل مكان، فى الشرق والغرب والجنوب، إلى جانب ضغوط اقتصادية، ومع ذلك نتحرك إلى الأمام ولا نعود إلى الخلف، يوجد غلاء و«الناس تعبانة»، لكن أنجزنا أشياءً مهمة فى البنية التحتية.

وأعتقد أن تفكير العديد من الشباب فى الهجرة إلى الخارج لا يعود لكون وضعهم سيئًا، ولكن لأنهم يريدون أن يعيشوا كما الخارج، بسبب عدم امتلاكهم جرعات وعى كافية. جيلى لم تكن لديه الامتيازات الموجودة للشباب الآن، ولا التفاصيل الحياتية، وحياتنا لم تكن سهلة وكانت ظروفنا أصعب، ومن الممكن أن تدفع الشباب للتفكير بالهجرة فى ذلك الوقت، لكننا لم نفكر يومًا فى الهروب من البلد، بل تحملنا كل شىء، لأنه كان لدينا وعى، عكس الوقت الحالى، لذا يجب استخدام المثقفين فى عملية الوعى.

■ ما رأيكِ فى الحوار الوطنى؟

- الحوار الوطنى جيد، وكل من حضروا كانوا جيدين، لكن فكرة الحوار «فوقية»، وقبل إجراء حوار وطنى كان علينا البدء من الأسفل، من الناس، فمن الممكن إجراء حوار فى مدينة أو محافظة، ثم نرتفع إلى مستوى أعلى، حتى يكون هذا الحوار أكثر فاعلية.

■ هل ما ينتج الآن فى مصر من فكر وإبداع قادر على خلق حراك وتحسين سلوك الناس؟

- المثقفون يحتاجون لمساحات تعبيرية فى منطقة الثقافة، ليس حرية تعبير، ولكن مساحة من الثقة، وأرى أن المجتمع منذ فترة يتحدث فى الأفكار التى استُهلكت منذ قرون، وبالتالى نحن نعيش فى الماضى، وهذا خطر، لأنه لا توجد أفكار جديدة، وهذه الأفكار الجديدة تُخلق بمساحات من التعبير.