رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح جاهين.. ميلاد يتجدد

لا أقول إننا توقفنا عند ذكرى عيد ميلادك ٢٥ ديسمبر، بل أقول إننا احتفلنا بعيد ميلادك، لأنك باقٍ معنا، ولذلك فتحت قلبى فى يوم ميلادك، فتراصت على جانبيه مقاعد بلا عدد لأناس يتوافدون بلا نهاية. جلسنا معك، ننصت إلى ضحكات ابن البلد المجلجلة، ونستعيد قصائدك الساحرة التى تشبه السهام التى لا تخيب، وأنت تشملنا بتلك البساطة العذبة، وبأسرار الوجدان المصرى الذى يبكى ويبتسم فى آن، ويستخلص بأسى ومحبة الحكمة كلها من المواقف والكلمات الصغيرة. 

كان لجاهين فضل شخصى علىّ، فقد بدأت أقرأ رباعياته فى الأهرام وأنا فى نحو الثالثة عشرة، أحرص على شراء الملحق الأدبى للأهرام فقط لأقرأ صلاح جاهين، ولم أكن بحاجة إلى حفظ الرباعيات، كنت أحفظها ما إن تقع عليها عينى. وفى تلك السنوات كنا محاصرين بالشعر الرسمى فى المدرسة من نوع: «أتانى أبيت اللعن أنك لمتنى»، ولم يكن أمامنا سبيل آخر للشعر إلى أن وجدت أنا وأبناء جيلى صلاح جاهين، الضاحك، السهل، العميق، فساق جيلًا كاملًا إلى حب الشعر. 

كنت أقرأ الروايات المترجمة بسهولة، أما الشعر فقد قادنى الشاعر الكبير إلى محبته. وقد التقيت الشاعر العظيم مرات قليلة، واحدة منها كانت فى موسكو بصحبة الصديق أبوبكر، خلال لقاء بين جاهين وصحفى روسى كبير هو أناتولى سافرونوف، وكان الصحفى الروسى بدينًا بشكل ملحوظ، وظل جاهين يشرح له شيئًا ما، ود. أبوبكر يترجم، إلى أن ملّ جاهين من الشرح فقال لبكر: «قل له أن يثق بما أقول لأن حديثى إليه حديث رجل بدين إلى رجل بدين»! أحببت جاهين دائمًا، خلافًا للكثيرين ممن تعرفت إليهم وأعجبتنى أعمالهم ولم أحبهم شخصيًا، فقد كانت فيه رحمة متصلة ومغفرة قلب شاعر كبير. 

ولا ننسى هنا موقف جاهين حين أدرج أحمد فؤاد نجم قصيدة للشاعر الكبير فؤاد حداد ضمن ديوان نجم، دون الإشارة إلى مؤلفها الحقيقى فؤاد حداد، ثم التقى «نجم» صلاح جاهين فى مجلة «صباح الخير» التى كانت تحتضن الشعراء الجدد، وقدم نفسه لجاهين، فرد عليه صلاح جاهين: «إنت الولد اللى سرق أشعار فؤاد حداد؟». ورغم ذلك ظل جاهين يساعد نجم ويقدم الدعم له فى كل مجال، كما فعل مع الآخرين: الأبنودى وسيد حجاب، وغيرهما. ويمثل صلاح جاهين فى مسيرة شعر العامية المصرى الحلقة الثالثة بعد بيرم التونسى، ثم فؤاد حداد، وعلى حين كان التونسى يراوح فى أعمال كثيرة بين الزجل والشعر، اجتاز جاهين منطقة الزجل بالكامل إلى الشعر الصافى. وعلى حين كان فؤاد حداد صاحب لغة مركبة، وأبنية شعرية مركبة عميقة، ولا تنس، كان جاهين صاحب لغة أسهل، وأبسط، مكنته من النفاذ إلى فئات المجتمع كافة. وبهذا الصدد قد أشبّه حداد بالروائى صانع الأبنية وأشبّه جاهين بكاتب القصة القصيرة الذى يختطف لحظة وينفذ منها إلى العالم. 

شىء أخير فى عيد ميلاد الرجل العظيم أنه- أى جاهين- اعتمد على الفصيحة العامية ولم يلجأ لاستخدام لهجات الأقاليم التى اعتمد عليها البعض. ومثال ذلك قصيدته الشهيرة: «على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء.. أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء»، ولو تأملت هذه الكلمات لن تجد بها كلمة واحدة من اللهجة، فكلها فصيحة. ويظل جاهين الشاعر الذى تقول عنه وأنت تقرأه: أنا أحب هذا الشاعر.. أحبه.. وسيبقى اسمه وشعره ما بقيت الثقافة العربية المصرية وما بقى الشعر العربى. 

كل سنة وأنت طيب يا عم صلاح، ومئة عام وعام من المحبة والفرح والشعر.