رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفكر سعيد توفيق: التراث ليس معناه العيش فى الماضى.. وعلينا تنقيحه وأن نأخذ منه ما يتناسب مع واقعنا «2»

سعيد توفيق
سعيد توفيق

قال الدكتور سعيد توفيق، رئيس قسم الفلسفة السابق فى كلية الآداب جامعة القاهرة، إن الفيلسوف الحقيقى هو من يقدم رؤية جادة لحل المشكلات، ويكون قريبًا من واقع المجتمع، ولا يعزل نفسه عن الناس، لافتًا إلى أن هؤلاء الفلاسفة أصبحوا قلة نادرة فى أيامنا الحالية.

وخلال الحلقة الثانية، من حواره مع الكاتب الصحفى الدكتور محمد الباز، فى الموسم الخامس من برنامج «الشاهد» المذاع على قناة «إكسترا نيوز»، انتقد «توفيق» طريقة ترقى أساتذة الجامعات، مشيرًا إلى أن الترقى يجب أن يكون مشروطًا بنشر بحوث باللغة الأجنبية وفى مجلات معتمدة دوليًا، لافتًا إلى أن جامعة القاهرة على سبيل المثال لديها أزمة فى أنه تقع أمامها جامعة موازية اسمها «جامعة بين السرايات»، تسببت فى تفريغ العملية التعليمية من محتواها.

وإلى نص الحوار..

■ ما تأثير الفكر الإخوانى على الشخصية المصرية ونمط التفكير المصرى؟

- أهم تأثير للفكر الإخوانى على الشخصية المصرية، هو تزييف الوعى الدينى نفسه، لأنهم لا يمتلكون هذا الوعى، وإنما يستخدمون الدين فقط للوصول للسلطة.

الدين لدى الإخوان لا يتعلق بجوهر الدين ولا بروحه، فجوهره أنه علاقة بين الإنسان وربه ولا ينبغى أن يتدخل فيها أحد، والوعى المزيف خطر على بناء الدولة، خاصة إذا كان هذا الوعى يفتقر لفكرة المعتقد.

المثال على ذلك أنه عندما كنت أقود سيارتى وقت حكم الإخوان، كنت أجد شعارات دينية على السيارات، وهذه المسألة زادت جدًا وقتها، وكأن الشخص يتصور أنه يتقرب بها لله، مستدلًا بحديث النبى عليه السلام: «الصَّلواتُ الخَمْسُ، والجُمُعةُ إِلى الجُمُعَةِ، كفَّارةٌ لِمَا بَيْنهُنَّ»، وكأن الإنسان يكتفى بفعل هذه الأشياء حتى يدخل الجنة، ولكن من يكتب الحديث لا يكمله، خاصة فى جملة «مَا لَمْ تُغش الكبَائِرُ»، أى ترتكب.

بعض المؤسسات عندما تدخلها لقضاء مصلحة تجد الموظفين غير موجودين بمكاتبهم، وإنما يصلون الظهر، ما يستغرق وقتًا قد يصل لساعة، وتتم إضاعة وقت المواطنين، وهذا الأمر من باب المتاجرة بالدين، وهذا مع انتشار ملصقات «هل صليت على رسول الله؟»، وهذه الظاهرة تزييف للواقع، ولم تكن موجودة بالمجتمع المصرى قبل ذلك، فالإخوان عملوا على خلق عداوة مع المسيحيين وإحداث فرقة، وهذه ظواهر جديدة على المجتمع المصرى بسبب تدنى الوعى الدينى.

■ هل كان الإخوان سببًا فى انتشار ظاهرة الإلحاد؟

- عندما يفقد الناس الصلة والوعى بروح الدين، يميلون للإلحاد.

ذات مرة كنت أصلى الجمعة بأحد المساجد بقرية سياحية، وكنا فى ذكرى الإسراء والمعراج، ووجدت الخطيب وقتها يقول للناس إن سيدنا جبريل له ٦ أجنحة كل جناح منها طوله ما بين السماء والأرض، وهذه خرافات، وعندما يعتلى المنابر أناس وعيهم الدينى مغيب ولا يستطيعون مواجهة عقل الشباب، ولا يفهمون الدين حق الفهم، فهذا يؤدى للإلحاد.

الشباب يميل للإلحاد وينفر من هذا الخطاب الدينى، والإخوان والسلفيون روَّجوا لهذا الخطاب الدينى الخرافى، وهذا كان يصدر من السلفيين أكثر من الإخوان.

■ هل أدى تقديس التراث لفقدان الرؤية النقدية لدينا؟

- قديمًا كان من يترجم كتابًا يحصل على وزنه ذهبًا، وذلك تقييم كبير للمعرفة وتوسيع لاستخدامها فى واقعك وثقافتك، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة النقل ويقابلها الإبداع.

الغاية ليست فى أن أدرس «ابن رشد»، ولكن الأهم هو معرفة ما أنتجه، ابن تيمية كان يكفر «ابن سينا»، عالم الطب والفلسفة، وقال إنه تارك للصلاة، وإنه إما أن يستتاب أو يقتل، وهذا شىء دموى ليست له علاقة بالدين، لأن الله سبحانه وتعالى قال: «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، وكتب ابن تيمية قد تكون المرجع المقدس لبعض الجماعات المتطرفة، وكان هناك أناس يدرسون دكتوراه فى ابن تيمية حتى يسافروا إلى السعودية، مع العلم أن الأخيرة تجاوزت ذلك الأمر بكثير.

ومحمد عبدالوهاب، مؤسس الفرقة الوهابية، كان متطرفًا وشقيقه كتب كتابًا ضده حمل اسم «الصواعق الإلهية فى الرد على الوهابية».

■ ما سبب المجاهرة بالإلحاد والخروج به للعلن؟

- سبب المجاهرة بالإلحاد هو التفسيرات المنافية للدين والمجافية للعقل، وكذلك المؤثرات الخارجية التى خلقت نوعًا من الاهتزاز فى فكر الشباب.

والتعامل مع الإلحاد يجب أن يكون عبر التعليم والثقافة، ورأيت تصريحًا سابقًا للرئيس عبدالفتاح السيسى عن حرية الأديان، وأن الدين مساحة بين العبد وربه لقوله تعالى: «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، وأنه لن تتم مواجهة هذا الشخص الملحد ومعاقبته، بل تتم مواجهة الأمر بالفكر والوعى والتعليم والثقافة.

وتجب توعية الناس دينيًا فى المحاضرات، كما أن مَن يعتلون المنابر يجب أن يكونوا مؤهلين لذلك.

■ ما رأيك فى خطباء المساجد؟ 

- يوجد ضعف شديد فى خطباء المساجد، وأذكر عندما كنت صبيًا فى السيدة زينب كان الخطيب فى صلاة الجمعة يعلم الناس الفقه واللغة والبلاغة، وكان يدعى إبراهيم جلهوم، وكان هناك آخر يدعى إبراهيم الشعاعى.

والخطيب قديمًا كان يؤسس الأطفال، وعندما كان يتحدث خطيب عن «جبريل» وأن له ٦ أجنحة طول الواحد ما بين السماء والأرض، كانت الناس تقول له إن هذا مخالف للعقل لأن مصدره كتب صفراء.

■ من يجهز الدعاة ليكونوا مناسبين؟

- التعليم الأزهرى هو من يؤهل الخطيب للخطابة، ولكننا نحتاج لتطوير هذا، ليكون المتصدر للدعوة من المتميزين من الخريجين وليس أى شخص حاصل على الشهادة الأزهرية، ومثلما كان المطرب يخضع لامتحان فى الإذاعة، فالخطيب هو الآخر يجب إخضاعه لامتحان عسير لأنه يؤثر فى الآخرين.

■ هل يكتفى الواعظ بالعلوم الدينية؟

- يجب أن يدرس الفلسفة لأنها ترفع من عقله، وتعلمه معنى الوعى، وتفتح أفقه، وتعلمه كيف ينتقد الكتب الصفراء، ولا يأخذ منها، كلية دار العلوم مثلًا، الفلسفة فيها هى المتعلقة بالعلوم الدينية، وعلم الكلام، لكن أين فلسفة العلم المعاصرة ومناهج النقل والتأويل؟ كل هذا غير موجود.

■ ما دور الفيلسوف؟ ولماذا يكتب؟ 

- الفيلسوف لا بد أن يكتب ليقدم رؤيته، ولا يكون مجرد ناقل لما كتبه الآخرون، هذا النوع من الأساتذة أصحاب الرؤية الخاصة، أصبحوا قلة، نتيجة أن مستوى التعليم نفسه قل، كان لدينا جيل كبير من الأساتذة الفلاسفة، مثل زكى نجيب محمود، وعثمان أمين، وفؤاد زكريا، وتوفيق الطويل، ويحيى هويدى، وإبراهيم بيومى مدكور، وعبدالغفار مكاوى، وأسماء كبيرة، وكل أبدع فى مجاله، لم يكونوا مجرد ناقلين عن الآخرين.

أما عبدالرحمن بدوى، فكان ناقلًا فى كثير من كتاباته، لكن بعض كتاباته إبداعية وفيها رؤية عظيمة جدًا.

■ عبدالرحمن بدوى لا يلقى حالة ارتياح وتفاعل مع ما أنتجه بالنظر إلى أريحية التفاعل مع إنتاج زكى نجيب محمود.. لماذا؟

- زكى نجيب محمود أُعير للكويت فترة طويلة، وعندما سافر هناك حاول نقل فكرة الفلسفة الوضعية فى الغرب، وعكف فى الكويت على قراءة التراث من خلال منظور نقدى، فتفاعل هذا مع ذاك، وأخرج لنا زكى نجيب صاحب الرؤية الفلسفية، أما عبدالرحمن بدوى فمعظم كتاباته نقل باحترافية شديدة، وكان يُشاهد فى المكتبة وعلى يساره كتاب أجنبى وعلى يمينه أوراق بيضاء، معظم كتبه لم يذكر فيها المصادر، كأنها من إنتاجه.

وعبدالرحمن بدوى كان صداميًا ومتعاليًا يحتقر الجميع، لا يرى فيلسوفًا غيره لا فى مصر ولا خارج مصر، وهذا أثار حفيظة الأساتذة وأخذوا يفتشون فى كتاباته التى هى نقولات، لكن من الخطأ أن نكتفى بذلك، عبدالرحمن بدوى له كتابات عظيمة، وآخر كتاباته كان دفاعًا عن القرآن وعن سيدنا محمد، كتب «الدفاع عن الرسول ضد منتقديه» وكتب «رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهى»، وهى إبداعات خالصة، حتى الكتابات التى فيها نقولات لا يمكن أن نستعلى عليها، لأنها عرفتنا على الثقافة الغربية والأوروبية.

■ وصلنا لمرحلة أنه لا توجد حركة فلاسفة.. لماذا؟

- كان لدينا فلاسفة كبار وكانت لهم تلامذة، محمود رجب، كان تلميذًا مباشرًا لعبدالرحمن بدوى، والتلميذ كان يخرج حصيفًا ودارسًا وفيلسوفًا صغيرًا، مثل محمود رجب الذى كتبت عنه أنه الفيلسوف المجهول، أما الآن فلا يوجد فلاسفة لأن الأساتذة ليسوا موجودين إلا فيما ندر، محمود رجب كتب كتاب «فلسفة المرآة»، لو كتب فى الغرب لصنعوا منه فيلسوفًا، كتابه أهم من كتاب «عن المرآة» لريتشارد روسو، لكن الآلية الإعلامية فى الغرب جبارة.

■ ما سبب سوء الفهم الذى لحق بالفلاسفة وأنهم مركبون ومعقدون رغم أن مهمة الفيلسوف هى تبسيط الحياة؟

- كتابات زكى نجيب محمود كانت بالفعل تصل للناس، وخاض معارك فى الصحف، أما الآن فالناس لا تحب الفلسفة وتردد عبارات مثل «بلاش فلسفة»، و«هيتفلسف»، يعنى «يتكلم كلامًا فارغًا»، رغم أن أستاذ الفلسفة يعمق من فهمنا للحياة والوجود وكل شىء، لكن يسود فهم مشوش للفلسفة.

■ كان لزكى نجيب محمود رؤية استشرافية وكتب «مجتمع جديد أو الكارثة» حتى لا نتعرض لأزمة.. لكن ماذا يجب أن نفعل الآن؟

- حتى لا نصل للكارثة التى حذر منها زكى نجيب محمود فى كتابه «مجتمع جديد أو الكارثة»، نحتاج للتركيز على الإنتاج والتعليم، التركيز على الإنتاج ضرورى لأنه يقلل الاستيراد، ويمكن أن تشارك الدولة الشباب فى مشروعات، ولم تتقدم أى دولة إلا بنهضة التعليم، حتى دول شرق آسيا نهضت من خلال التعليم، والتعليم الجامعى بصفة خاصة يحتاج لسياسات أكثر ما يحتاج لتمويل، بعكس التعليم الأساسى.

و«مينفعش فى اللجان العلمية محكمين يكونوا متهمين بالسرقة العلمية»، ما يحدث شىء بشع، ويجب أن نضع معيارًا لضمان جودة الأستاذ، مثل اشتراط أنه كى يترقى يجب أن يكون له بحثان على الأقل باللغة الأجنبية، وبقية البحوث منشورة فى دوريات علمية مرموقة، وليس إشرافًا بالنقود، لتتم الترقية، لا بد من رؤية ومعايير حقيقية للنهوض بالتعليم.

■ فى أحدث إصداراتك «الخاطرات» كنت مشغولًا بشكل أساسى بأسئلة الوجود وجدوى الحياة، مثل هذه الاهتمامات تدفع الناس بعيدًا عن الفكر الفلسفى.. هل الفيلسوف فى مجتمعنا منعزل عن الواقع؟

- الفيلسوف يجب ألا يكون منعزلًا عن الواقع، بل يتحدث عن واقع المعيشة للناس فى مقالاته أو غيرها، وكتابى «الخاطرات» لا يقدم أفكارًا فلسفية مجردة، وإنما يقدم ما تعلمته من الفلسفة، ورؤيتى الفلسفية مشخصة فى الواقع والتجربة والحياة والأشخاص، ومواقف وأحداث عن وضعنا الراهن، والسينما الآن وما كانت عليه، والغناء الآن وما كان عليه، الفلسفة حاضرة فى الخلفية.

■ كيف نُزيل اللبس عن الفلاسفة ونضعهم فى المكان الصحيح ونقدمهم كمفكرين يقدمون رؤى كلية وحلولًا للمشاكل؟

- إزالة اللبس عن الفلاسفة ووضعهم فى المكان الصحيح، وأنهم ليسوا عبارة عن شخص يقول «كلامًا فارغًا»، يحدث عندما يوجد فيلسوف بالمعنى الحقيقى، والفيلسوف الحقيقى موجود لكن هناك قلة نادرة، لا يكون مجرد أستاذ فلسفة ومعلم للفلسفة بمذكرات تافهة، نادرًا ما تجد كتابًا فيه رؤية وإبداع وفكر ونقد للفلسفة الغربية، وعلى العكس من ذلك نجد جامعة موازية لجامعة القاهرة اسمها جامعة «بين السرايات»، كل جامعة فى مصر أمامها جامعة موازية، فرغت العملية التعليمية من محتواها.

أنا حزين لعدم الاهتمام بالبحث العلمى وعدم الاهتمام بتكوين الأستاذ الحقيقى، نتيجة التساهل فى منح الدرجات العلمية، أتذكر أن أحدهم افتخر بإشرافه على ٥٠٠ رسالة دكتوراه، بينما زكى نجيب محمود أشرف على رسالتين فقط، وهذا التساهل فى منح الدرجات العلمية ظاهرة مخيفة تخلق أجيالًا من الأساتذة الضعاف.

أذكر فى مرة كنت أُدرس لطلبة فى جامعة القاهرة فى قاعة زكى نجيب محمود، وقررت عليهم كتابه «موقف من الميتافيزيقا»، لنحلله، وقفت طالبة فى «رابعة فلسفة»، وقالت زكى نجيب محفوظ، وكأنها لا تعرف الفرق بين زكى نجيب محمود، ونجيب محفوظ، وهذا هو مستوى التعليم الذى وصلنا له.

■ كيف يتم التعامل مع بعض الكتب التراثية التى تحتوى على أشياء مغلوطة؟

- الحل مع الكتب التراثية التى يلجأ إليها بعض الدعاة ويروجون لها على المنابر، لا يكون بإعدامها ولكن بتقديم وعى مستنير يواجه هذه الكتب، وما تحتويه من خرافات، بكتب ومؤتمرات وبرجال دين حقيقيين، يستطيعون مواجهة ذلك بتقديم رؤية تحليلية وعقلانية.

والسلفيون يعبدون التراث، ودائمًا المرجع لديهم هو نقطة غائبة من الماضى، وهى كلها نقاط حالكة السواد، فالتراث ليس معناه العيش فى الماضى، وإنما رفعه وتنقيحه، ونأخذ منه ما يتناسب مع واقعنا، بحيث يكون قابلًا للتنقيح وفيه الشروط التى أوجدت اللحظات المضيئة فى هذا التراث.