رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغة يحيى حقى فى يوم اللغة

فى يوم اللغة العربية العالمى ١٨ ديسمبر، لا بد من التوقف عند لغة يحيى حقى الأدبية، التى طرحت مفهومًا مبدعًا لقضية اللغة. كل الأدباء قبل ومع وبعد يحيى حقى قاموا بتطوير اللغة القائمة بالفعل، حذفوا منها، وأضافوا إليها، لكن يحيى حقى طرح شيئًا جديدًا تمامًا لم يصل إليه سواه، حين سعى بدأب لوصل لغة الحياة بلغة المعاجم، واكتشاف لغة المعاجم فى اللهجة العامية، فخلق همزة وصل بين عالمين يبدوان كأنهما على طرفى نقيض.

انظر إليه مثلًا حين يقول: «تباهى القرعاء بشعر بنت أختها»، وهى عبارة صحيحة فصيحة مئة بالمئة، ولكن روحها كاملة مأخوذة من العامية، أو حين يستخدم بمطلق الثقة والتمكن عبارة مثل: «عقله فسافيسى»، وهى الجملة التى تبدو عامية تمامًا، بينما هى فصيحة، لأن المعاجم تشتمل على: رجل فسفاس أى شديد الحماقة. ويقول: «حياة فلان سبهللا» وهى من روح العامية، لكنها فصيحة أيضًا، لأن المعاجم تقول: مشى الرجل سبهللا، أى مختالًا يروح ويجىء بلا عمل! وهو يكتب: «كلامه فاشوش فى فاشوش»، وفى المعاجم سنقرأ أن الفاشوش من الأشياء هو ما لا فائدة منه. 

يقوم يحيى حقى بكشف الفصيح فى العامية، ورفع العامية إلى اللغة الفصيحة، ومد همزة وصل بين العالمين، وهو هنا يرى أن اللغة تخضع للحياة وتتبعها وتخدمها، فإذا كان الناس فى الحياة يقولون «تليفون» فلا ترغمهم على قول «مسرة»، وإذا كانوا يقولون «تليفزيون» فلا تجرهم بالقوة إلى عبارة «المرئى»، إذ لا بد للغة من أن تشرب وجودها من الحياة، لكن بحيث لا نفقد لغتنا فى الوقت نفسه. ولا يكون الحفاظ على اللغة، مع جريان حيويتها، إلا باكتشاف الصلة القوية بين العامية منها والفصيحة. لقد كان أقصى جهد توفيق الحكيم فى ذلك المجال هو الدعوة إلى الكتابة بلغة فصيحة بسيطة بعيدة عن المهجور والمكرور، وكان كل جهد نجيب محفوظ فى اللغة هو تطوير اللغة القائمة بالفعل، أى تفادى القديم منها وما لم يعد له معنى، حتى إن محفوظ ظل يكتب «النادل» زمنًا طويلًا إلى أن كف وراح يكتب «الجرسون»، وكان حتى الثلاثية يلجأ إلى السجع مثل قوله: «لكن الزمان عدو لدود للورود»، والسجع أحد أقدم الأساليب البلاغية التى توارت. 

أما حقى فكان مبدعًا حقًا فى إصراره على اكتشاف الصلة أدبيًا ولغويًا بين العامية والفصيحة. انظر على سبيل المثال قوله فى مجموعة «دماء وطين»: «تقول ورق المطبخ ينفع فى المطبخ وللدواليب، وتسد به الخروق»، ستجد أنك تقرأ هذه الكلمات كأنك تستمع إلى امرأة من البيت أو فى الشارع، ومع ذلك فإن كل الكلمات فصيحة. وهذا الكاتب العظيم يستخدم بوعى كلمة شهيرة عندنا هى «الجعيص» التى تقال إشارة للرجل القوى الشديد، ويقولون فى ذلك «قاعد مجعوص»، وما شابه، فإذا فتشت فى المعاجم ستجد أن الكلمة هناك من صميم اللغة الفصيحة وهى فى المعجم الوسيط: «الجعيس» أى الشخص الغليظ الضخم!

لقد وازن يحيى حقى بعبقرية بين ضرورة الحفاظ على اللغة العربية وضرورة الإنصات لما تمليه علينا الحياة من كلمات واستخدام، فخلق ضفيرة لا تتكرر، وأعطى درسًا لم نحظَ به من غيره. وبهذه المناسبة فإن هناك كلمات بلا عدد ننطقها ونحن نتوهم أنها عامية، رغم أنها من صميم اللغة الفصيحة مثل: باسها «بمعنى قبّلها»، وبص «بمعنى نظر»، وخس «قل وزنه»، وخش المكان «دخله»، وزعل «بمعنى غضب» وغير ذلك. فى يوم اللغة العربية نحن فى أمس الحاجة إلى الارتكاز على مفهوم اللغة عند يحيى حقى المبدع العظيم.