رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كل حاجة وعكسها

هل فكرت مرة فى جولة سريعة على صفحات المصريين بمواقع التواصل الاجتماعى؟!

نصيحتى.. لا تفعل، ولا تفكر ولو مجرد التفكير فى ذلك.

فعلتها مرة منذ سنوات غير بعيدة، وكانت النتيجة حالة من الضحك الممزوج بالدهشة والاستغراب، والحيرة، والارتباك، وعدم الفهم، والشك فى كل ما كنت أظن أننى أعرفه.

هى جولة سريعة، لا تزيد على أكثر من بضع ساعات، فقط لا غير، لكنها كفيلة بأن تطلعك على أحدث صيحات الموضة، ومستجدات العلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، وما وراء الطبيعة، فى الفيزياء والفلك، وسلق البطاطس، وعمل البيض «الأومليت»..

هنا، فى إحدى الصفحات، تشعر بأنك أمام شخص يساير القطيع، أو بالمعنى الشعبى «زياط»، يحب التحفيل على أى حد، يسخر من نفسه ومن الجميع، يدلى بدلوه فى كل شىء، وأى شىء، من الآخر.. «داخل فى أى حاجة»، وهناك، فى صفحة أخرى، «عبده الأليط»، ذلك الذى لا يعجبه العجب، ولا يقبل أى اختلاف مع ما يكتبه أو يقوله أو يفعله، ويهدد الجميع بالحظر الذى هو «البلوك»، والحرمان من متابعته، وغيرها من عظائم الأمور، إن استمروا على حالة عدم التفاعل مع ما ينشره، وإن استمروا على التفاعل بالاعتراض أو التقليل، أو حتى المناقشة، وثالث يقول الشىء وعكسه، يجمع فى قائمة أصدقائه حشدًا ممن يبدو أنهن جميلات يخجلن من الكشف عن أسمائهن الحقيقية، فيسبحن فى الفضاء الافتراضى بأسماء مستعارة، فهذه «قرص الشمس المضىء»، وتلك «جميلة الجميلات النائمة»، وثالثتهن «حسناء الربيع»، يعلق على كل ما يكتبنه، ويمتدح حسنهن الذى يشعر به فى أعماق حشاشته، ويملأ صفحته بالأدعية، ورسائل «جمعة مباركة».

ربما تشعر بيقين منذ الوهلة الأولى بأنك أمام شخص عدوانى، متنمر، متطاول، ومتحرش.. لا يقرأ، ولا يفهم ما يقرأه، متعجل لا يحب التفكير أو التأنى فى رد فعله.. ثم بعد دقائق قليلة، تظن أنه يعرف شيئًا عن كل شىء، وربما يفهم فى بعض الأمور بصورة جيدة، بل ربما أفضل من المتخصصين، فهو نجار إن كان موضوع الكلام عن النجارة، وهو بناء إذا حدثته عن العمارة، وسباك وكهربائى، وكيميائى ولا مندل «صاحب جدول العناصر المشهور»، وهو عالم فى الفيزياء النووية وغير النووية، ومتخصص أريب فى الرياضيات واللغة والفلك، لاعب كرة لا يشق له غبار.. عاشق لا يساوى روميو أو قيس ابن الملوح شيئًا فى تفانيه فى الحب والغرام، خائن ولا كازانوفا، قارئ لم يفته كتاب على مدار التاريخ، يتحدث كل لغات الأرض ويفهم قواعدها وكأنها لغته الأم.. هو عم الشباب، والرجولة، مثال الشهامة والجدعنة والذى منه، وهو ابن الأصول، الطيب، والمتسامح اللطيف الهين اللين، والمهضوم حقه كنتيجة مباشرة لهذه الطيبة، والنية الصافية.. هو الفاهم والفتاى، والذى لا يفوته ترند.. والحقيقة أنه بالفعل كل هذا، ولا شىء منه على الإطلاق.. فهو باختصار شديد، وبعبارته هو شخصيًا.. «كل حاجة وعكسها».

ربما يلعب تعداد السكان، الذى تجاوز المائة مليون منذ سنوات، دورًا فى تلك الحالة من التنوع، والاختلاف، و«السمك لبن تمر هندى».. فنحن بالفعل كثيرون، وكثيرون جدًا كمان.. ولك أن تتخيل أن واحدًا بالمائة فقط من المصريين يعنى مليون شخص، أى ما يزيد على عدد سكان الكثير من الدول حول العالم، ولك أن تعرف مثلًا أن هناك ما يزيد على المائة دولة حول العالم يقل عدد سكانها عن عشرة ملايين مواطن، فى مقدمتها المجر، والإمارات العربية المتحدة، والأردن، وسويسرا، والنمسا، وليبيا، ولبنان، والدنمارك، والنرويج، وفنلندا، والكثير منها يقل عدد سكانه عن خمسة ملايين، مثل أيرلندا، وبنما، والكويت، وسلطنة عمان، وقطر، والبحرين، وكرواتيا، وأوروجواى، وألبانيا، ولاتيفيا.. وكثير منها لم تصل بعد إلى واحد بالمائة من المصريين.

فإن بحثت عن المعتدلين دينيًا فى مصر، على سبيل المثال، فستجد الملايين، لكنهم ليسوا الأغلبية، وإن بحثت عن المتطرفين والمتشددين، أو المتعصبين، مسلمين ومسيحيين، ستجد ملايين أيضًا، لكنهم «برضه مش أغلبية».. هنا ملايين المتصوفة، وأحباء آل البيت، وملايين السُّنَة، وغير المتدينين من الأساس، وأصحاب نظرية «هذه نقرة وتلك دوحديرة».. هنا ملايين «الشبيحة»، ومن يسرقون الكحل من العين، والمتنطعين على النواصى «لا شغلة ولا مشغلة»، هنا ملايين المتعلمين، والمتفانين فى أعمالهم، ومن لا يفكون الخط.. الحواة، ومن يقضون أيامهم على المقاهى، ومن لا يطيقون قراءة صفحة فى كتاب.. هنا ملايين اللصوص، وسفراء النوايا الحسنة، والمدافعين عن الحقوق المدنية والشخصية، الراقصات والمنتقبات والمحجبات، والبين بين.. حتى متعاطى الخمور والمخدرات وتجارها ومروجيها، ستجدهم فى كل ركن وزاوية، بل ستجد لهم صفحات على مواقع التواصل الاجتماعى، يروجون من خلالها لبضاعتهم، كأى مُنتِج يجاهد بحثًا عن مستهلكين.. فإن أردت أن تقول إن مصر ليست شعبًا واحدًا، ستجد ما يدعم تصورك، وإن أردت أن تروج لمقولة إن المصرى متدين بطبعه، ستجد مئات الأمثلة التى تدعم رأيك هذا، فإن شئت تغيير الصفة من متدين إلى «هلاس» مثلًا، لن يعجزك العدد، ولا الأمثلة، ولا المواقف.

مَن نحن إذن؟!

ما الصفات الغالبة للمصريين اليوم؟!

ما الملامح المهيمنة على الشخصية المصرية فى هذا القرن الجديد؟! وما التغييرات التى طرأت عليها؟!

هل أثرت فيها مواقع التواصل الاجتماعى، أم أن تلك المواقع هى التى تأثرت بممارسات المصريين عليها؟!