رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالغفور فى حوار لم يُنشر من قبل: المتطرفون منعوا خروج مسرحية «ثأر الله» للنور وهددوا بحرق مسرح العتبة

أشرف عبدالغفور
أشرف عبدالغفور

مَن يراجع أعمال الممثل الكبير أشرف عبدالغفور- رحمة الله عليه- سيكتشف بداهة أن هناك طاقة كبيرة مخزونة لدى هذا الرجل، وقدرة على التنوع فى تقديم الشخصيات والتقلب بين المواقف، حتى إنه يستطيع الغناء الحى وتقديم أكثر من شخصية فى عمل واحد، وتلك مسألة لا يستطيعها سوى قلائل خبروا الأداء التمثيلى وعندهم القدرة على الإقناع والتلون.

والمرة الأولى التى نبهتنى لكفاءة ذلك الرجل، الذى اعتز به كثيرًا سواء فى المواقف الإنسانية أو الأداء المسرحى أو حتى على المستوى الإدارى، كانت مع مسرحية «هنرى الرابع» لبيراندللو، والتى قدمها المسرح القومى فى فترة تولى الدكتورة هدى وصفى، فقد لعب شخصية الإنسان الذى صدق اللعبة المحبوكة بصدق كبير وتناغم غير مسبوق، للحد الذى يأخذ قلب المتلقى فيختلط عليه الأمر بين الوهم والحقيقة.

لا أنسى صوته وأداءه شخصية «ابن الأشرس» المقاوم لسلطة هارون الرشيد فى مسرحية «لعبة السلطان»، تأليف الدكتور فوزى فهمى، وإخراج نبيل الألفى، وهو يقول: «لست أطمع فى سلطة.. أريد لعقل الإنسان أن يتحرر.. فإيمانى قيمة تتخطى شخصى».

وهناك أكثر من عرض يمكن اتخاذها أدلة واضحة على قدراته غير العادية فى التعبير عن نفسه كأحد أعمدة الأداء التمثيلى المسرحى فى الخمسين سنة الأخيرة، مثل دور «جولستر» فى مسرحية «الملك لير»، إخراج أحمد عبدالحليم، ويكفى أن يعرف القارئ أن تلك المسرحية من فرط حب الجمهور لها استمرت على المسرح ثمانى سنوات.

وقد كان لى معه هذا الحوار، الذى لم يُنشر بجريدة من قبل، حين كنت أعد الكتاب الصادر عن المهرجان القومى للمسرح بمناسبة تكريمه فى عام ٢٠٢١.

■ ما بين «جلفدان هانم» أولى مسرحياتك و«المحاكمة» آخرها.. ما الذى اختلف فى أشرف عبدالغفور وعيًا وأداءً؟

- مسرحية «جلفدان هانم» قُدمت لأول مرة على مسرح الهوسابير فى ديسمبر ١٩٦٢، وكنت وقتها طالبًا فى بكالوريوس المعهد العالى للسينما قسم التمثيل، ومسرحية «المحاكمة» قدمت لأول مرة على المسرح القومى فى عام ٢٠١٤، أى أن بينهما أكثر من نصف قرن من الزمن، من العمل الجاد، ومحاولات الاجتهاد، تتقدم مرة وتتعثر أخرى.

«جلفدان هانم» قدمها عبدالغفور محمد، الطالب بالمعهد العالى للسينما المنشأ عام ١٩٥٩ فى عجالة، و«المحاكمة» قدمها أشرف عبدالغفور بعد سنوات طوال، قضى أغلبها على خشبة المسرح القومى، بعد أكثر من أربعين عملًا مسرحيًا، بعد العمل مع كرم مطاوع وسعد أردش وجلال الشرقاوى وعبدالرحيم الزرقانى وسمير العصفورى، وغيرهم من أساتذة الإخراج، وبعد شرف الوقوف على خشبة المسرح مع سميحة أيوب وسناء جميل وعبدالله غيث وتوفيق الدقن وعبدالمنعم إبراهيم وغيرهم وغيرهم.

فإذا كنت قد قطفت من كل بستان زهرة، ومن كل أستاذ ومضة، ومن كل عمل عبرة، ومن كل كتاب سطرًا أو جملة.. فقد صنع كل هذا وغيره فارقًا شاسعًا بين أدائى الأول وأدائى الأخير.. أما فيما يتصل بالاهتمام والالتزام واحترام المهنة، فهذه أشياء مرتبطة بالإنسان ذاته، لا تختلف.. فيبقى الإنسان مهما اختلف الزمن.

■ مَنْ المخرج الذى اكتشف أهمية أشرف عبدالغفور وأعطاه ما يستحق من أدوار؟ 

- كرم مطاوع فى «ليلة مصرع جيفارا» و«وطنى عكا» و«حدث فى أكتوبر» و«جاسوس فى قصر السلطان».

■ لك أدوار لم تكتمل مشاريعها ولم تخرج للنور.. ماذا عنها؟

- سؤال موجع، منذ حوالى نصف قرن ولم ولن أنسى مسرحية «ثأر الله.. الحسين ثائرًا وشهيدًا» لعبدالرحمن الشرقاوى، وكنت قد عملت للمرة الأولى والأخيرة مساعدًا للمخرج كرم مطاوع، بجانب اشتراكى بالتمثيل، ستة أشهر عمل، وخمس عشرة ليلة بروفات جنرال، ولم تخرج المسرحية للنور، بعد تهديد المتطرفين بحرق مسرح الأزبكية، إذا تجسدت شخصية الحسين فى العتبة، وكذلك مسرحية «هولاكو» للشاعر فاروق جويدة وإخراج جلال الشرقاوى.

■ توليت رئاسة نقابة المهن التمثيلية عقب ثورة يناير.. فكيف تصديت لقضايا الفن والفنانين فى تلك الفترة؟

- كان النصف الأول من الدورة النقابية من أقسى وأعنف الأيام التى قضيناها فى المهاترات والمشادات والمشاكسات والافتراءات والإفتاءات والتلاسن والقضايا. والمحاكم، ونحمد الله على أننا وقفنا وصمدنا وتصدينا وخرجنا بأقل الأضرار، وبما قدرنا الله عليه من منجزات. 

■ تعاملت مع مخرج نمساوى وآخر إيطالى.. هل هناك فارق بين أدائهما وأداء المخرج المصرى فى التعامل معك كممثل؟ 

- فى عام ١٩٧١، قمت ببطولة مسرحية موسيقية باسم «حياة فنان»، بالاشتراك مع الفنانة رتيبة الحفنى، ومن إخراج مخرج نمساوى اسمه «تونى نيسنر»، وفى عام ٢٠٠١ قمت ببطولة مسرحية «هنرى الرابع» لبيرانديللو من إخراج المخرج الإيطالى فالتر مانفرى، من خلال تبادل ثقافى بين مصر وإيطاليا، وإن كان هناك فرق بين مبدعينا ومبدعيهم، فهو نظام العمل «السيستم»، والذى نفتقده فى كل مناحى حياتنا، للأسف.

■ قدمت «المحاكمة» من إخراج طارق الدويرى صاحب الوعى الفارق والحداثى.. فهل توافقت مع ذلك؟

- «المحاكمة» عن نص مسرحى أمريكى باسم «ميراث الريح»، وهو نص فلسفى فكرى تقليدى، يقوم على الكلمة وما وراءها من معانٍ، وهو ما أقلقنى فى البداية من منهج تناول المخرج الشاب طارق الدويرى للعمل.

لقد مررت بأسلوب عبدالرحيم الزرقانى.. كل شىء مكتوب بالقلم والمسطرة ولا تغيير ولا تبديل، وعشت تجارب كرم مطاوع.. كل شىء داخل رأسه والإبداع وليد اللحظة والمكان، وخبرت العمل مع سمير العصفورى.. شلال متدفق لا ينضب من الخيال والإبداع المستمر إلى لحظة رفع الستار، وربما بعدها، أما منهج طارق الدويرى فكان شيئًا مختلفًا جديدًا، فقد كان يعمل بمنظار الصورة والزاوية المناسبة، من خلال قرص المسرح الداير، والانتقال السريع بالإضاءة من مكان لآخر مع استعمال البانوراما الخلفية، لكن لم يكن استخدامه للتكنولوجيا من أجل الجماليات فقط، بل كان يضع خطوطًا ويصنع أطرًا فكرية لتاكيد المعانى وآثارها.

■ فى رأيك ما الذى ميز كرم مطاوع عن غيره من المخرجين؟

- المخرج كرم مطاوع هو بحق مؤلف العرض المسرحى؛ ليس مخرجًا تقليديًا ولكنه جرىء ومغامر وعنيد، يحترم النص المكتوب ولكنه يخضعه لتفسيره الخاص ورؤية إبداعية، وبدأت علاقتى به بالشد والجذب وانتهت باللقاء والوفاق.

حين بدأ كرم مطاوع فى تنفيذ «الفرافير» ليوسف إدريس، وكان بالمسرحية جوقة أى كورس، فكر المخرج طبعًا فى الاستعانة بشباب المسرح وأنا منهم، ولكننا تمردنا ورفضنا العمل فى الكورس، وعرضت «الفرافير»، وقدم كرم مطاوع نفسه أفضل تقديم لمخرج جديد ومتطور، تمرد على كل ما هو تقليدى فى الحركة والأداء، وحين قدم «الفتى مهران» كم من ليالٍ قبعت فيها منكمشًا فى صالة المسرح فى ظلام دامس مخيف، وصوت عبدالله غيث يجلجل فى العتمة بمونولوج «يا أيها السلطان»، وأنا أترقب أن يكون لى حظ اللقاء مع هذا المخرج الموهوب المتجدد.

وجاءت الفرصة من خلال صديق مشترك، هو الموسيقى كمال بكير، يبلغنى بأن كرم مطاوع يريدنى معه فى مسرحية «ليلة مصرع جيفارا» فى دور قائد الكورس!، كورس تانى.. ولكن لا.. لن أفوت الفرصة، وإذا بقائد الكورس «على الورق» وبإبداع المخرج بطلًا بارزًا فى العرض.. يتساوى مع أبطاله الثلاثة سناء جميل ومحمود يس وسعد أردش.

■ دورك فى «هنرى الرابع» كان مركبًا.. فكيف استقبل الجمهور الشخصية الدرامية؟

- حضر المخرج الإيطالى فالتر مانفرى من جهةٍ تُعادل الثقافة الجماهيرية عندنا، وشاهد صور الممثلين فى مكتبة المسرح القومى، فقالوا له عنى: «هذا ممثل كبير»، وكانوا يقصدون «أننى قدير»- شكرًا لهم-، وفهمها هو أننى «كبير فى العمر»، وعندما تقابلنا دهش، لأنه وجدنى أصغر سنًا من عمر الشخصية «لاحظ أن هذا منذ عشرين عامًا».

ولكننا بدأنا العمل.. مخرج متمكن من أدواته يتناول بيرانديللو بوعى وفهم وتركيز شديد، وأنا ممثل أعشق الأدوار المركبة، التى تساعدنى على الغوص فى أعماق الشخصية والبحث عن مكنوناتها وأدق تفاصيلها، فالتقينا وتفاهمنا وتجاوبنا، وعندما أراد أن أنزل إلى الصالة فى أثناء العرض سألنى وخيرنى إذا كنت أستطيع وأرغب فى ذلك أم لا؟.

وعندما حفظت سطور الفصل الأول، أرسل إلىّ مساعده يشكرنى على اجتهادى.. إنسان بسيط.. متواضع.. فنان، وكانت تجربة مثمرة فى مشوارى، استقبلها الجمهور بشغف المشتاق، ليتها تكررت.

■ ما رأيك فى راهن الأعمال المسرحية فى مصر؟.. وهل تستجيب للمستجد من قضايا المجتمع؟ 

- سؤال شائك.. إجابته ليست صعبة ولكنها طويلة ومستعرضة، ويكفى أننا فى القرن الحادى والعشرين وما زلنا نتغنى بعالم الستينيات من القرن الماضى، لدينا شباب كفء واعد.. لدينا مخرجون مجتهدون.. لدينا ممثلون عباقرة، ولكن ينقصنا الوعى بأهمية المسرح وخطورة الكلمة.