رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجواهرجى كرم مطاوع.. الثائر المسرحى وفنان المهام الصعبة فى السينما والتليفزيون

كرم مطاوع
كرم مطاوع

كرم مطاوع مخرج الروائع المسرحية، الجواهرجى الذى ظل طيلة حياته فى صحبة المعادن النفيسة، ففى حانوته لا تجد إلا هذه الأصناف، توفيق الحكيم، يوسف إدريس، عبدالرحمن الشرقاوى، شوقى عبدالحكيم، نجيب سرور، على أحمد باكثير، أبوالعلا السلامونى، والجواهرجى فى كل مرة يقدم تحفة نادرة غالبًا ما تثير الجدل يخطف بريقها الأبصار، بل ويصل الأمر إلى حد منعها من المشاهدة خوفًا على عقول الناس من الفتنة، والنتيجة مصادرتها لأسباب مختلفة! وفى كل عرض مسرحى أو تحفة فنية يقدمها يؤكد هذا الفنان أنه صاحب رؤية ومشروع ثقافى كبير وثائر مسرحى من العصر الذهبى لهذا الفن فى مصر، حين كانت لدى المسرح القدرة والعافية للإجابة عن أسئلة الواقع وإعادة صياغتها.

مُخرج يمتلك رؤية

بين المسرح والسينما والدراما التليفزيونية يأتى كرم مطاوع «٧ ديسمبر ١٩٣٣- ٩ ديسمبر ١٩٩٦» حالة خاصة جدًا ومتميزة، وأنت أمامه لا تستطيع أن تفرق بين حالتين من الهدوء التام والقلق العاصف يمكن أن يطرحهما عليك فى نفس اللحظة، من بحرٍ هادئ وجميل يتحول فى ثوانٍ إلى بركان فى حالة غليان دائم.. باختصار هو حالة درامية.. أو قل إنه يعيش الدراما أو الدراما تعيش معه وتسكنه ولا تفارقه طرفة عين، ومن البداية جاءت كل أعماله المسرحية مغامرة إبداعية يخوضها بنجاح، ويحقق نتائج خطيرة، فهو فنان المهام الصعبة كما وصفه د. على الراعى، كرم مطاوع مخرج مسرحى يحطم القواعد الجامدة والتقليدية ويخلق تكنيكًا خاصًا وجديدًا لكل عمل مسرحى يتعامل معه.. وما فعله فى مسرحية «حسن ونعيمة» للكاتب شوقى عبدالحكيم نموذج، وتناوله الخاص لمسرحية «الفرافير» ونص «شهرزاد» و«الوافد» و«ياسين وبهية»، يقف شاهدًا على مدى الجدية التى يتعامل بها كرم مطاوع مع العمل المسرحى الذى يخرجه.. ليقدم فى النهاية رؤية جديدة مختلفة ومغايرة تتناسب ومتناقضات العصر الذى نعيشه، فهو صاحب رؤية خاصة، فقبل سفره إلى البعثة للدراسة بأكاديمية الفنون فى روما قدم مسرحية «شعب الله المختار» لعلى أحمد باكثير، وحين عاد عام ١٩٦٤ من البعثة قدم مسرحية الفرافير ليوسف إدريس، التى كتبها نتيجة للجدل الذى أثير حول هوية المسرح العربى، وقدم لها بكلمة عنوانها نحو مسرح عربى، وجسدها كرم مطاوع على خشبة المسرح متصديًا لهذه المهمة الصعبة.

ورغم اختلافه مع المؤلف، وقتذاك، الذى وصل إلى توقف المسرحية بعض الوقت، فإن العمل أثار جدلًا كبيرًا، وتلاه فى نفس العام بعرض «ياسين وبهية» لنجيب سرور، وفى العام التالى قدم للكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى مسرحية «الفتى مهران»، وأدى فيها دور البطولة، ثم قدم لنفس المؤلف بعد ذلك مسرحية وطنى عكا، وأيضًا «ثأر الله» المأخوذة عن مسرحيتى «الحسين ثائرًا والحسين شهيدًا»، وقد تم منع عرضها بعد أن اكتملت على خشبة المسرح وصودرت ليلة الافتتاح! ولكن ظل الجمهور يشاهدها كبروفة أخيرة على مدى أيام من بطولة عبدالله غيث، وفى عام ١٩٦٦ وبعد عودته من البعثة بعامين والنجاح الكبير الذى حققه سافر إلى مرسى مطروح ليؤسس فرقة مسرحية هناك، واختار لها نص «الوافد» لميخائيل رومان، وحققت الفرقة نجاحًا كبيرًا يليق بهذا المغامر كرم مطاوع، الذى حاول فى كل أعماله أن يقدم مسرحًا مصريًا، سواء من خلال نصوص توفيق الحكيم أو نجيب سرور وشوقى عبدالحكيم وسواهم، حيث تناول عروضًا تعتمد على تراثات مختلفة «فرعونية- وتراث شعبى مصرى وعربى» فى نص «إيزيس» ثم «شهرزاد» لتوفيق الحكيم أو «ياسين وبهية» لنجيب سرور أو «حسن ونعيمة» لشوقى عبدالحكيم، وأيضًا عروضًا لا تعتمد على التراث، بل تعتمد على تيمات معاصرة.. لقد قدم من خلال هذه الأعمال رؤية مغايرة تتناسب ومتناقضات العصر الذى نعيشه، فكان دائمًا يمتلك روح التجريب والمغامرة، وهذا ما دفعه للتعرض لنصوص من تراثات مختلفة، وصولًا إلى آخر عروضه ١٩٩٥ مسرحية «ديوان البقر» التى استلهمها مؤلفها أبوالعلا السلامونى من كتاب «الأغانى» للأصفهانى، وتم تقديمها على مسرح الهناجر فى فترة صعبة من عمر هذا الوطن حين صعدت الأفكار الظلامية للجماعات المتطرفة وانتشرت بين بعض شرائح المجتمع، فعاد إلى التراث ليستعين بحكاية مشابهة سيطرت فيها أيضًا جماعات التطرف والظلام على المجتمع، منذ أكثر من ألف عام، وحاولت إلغاء العقول، وكأن الناس مجموعة من الأبقار، طمعًا فى الجنة واتقاءً للنار.

وفى هذه المسرحية يبنى الكاتب الحبكة الأساسية حول مقولة «من يستطيع أن يلعق أرنبة أنفه بلسانه سوف تغفر ذنوبه»، وهى عن فقيه كان يتناول غذاءه على قارعة الطريق، فعلق أحدهم على هذا الفعل مستنكرًا! فسخر الفقيه من لومه ولوم الناس، وحاول أن يثبت له أنه على حق فى سخريته من الناس، فكان كل من يمر يقول له الفقيه إنه روى فى الأثر أن من يلمس أرنبة أنفه بلسانه يغفر له، فأسرع الكل بإخراج ألسنتهم على أن يلمس اللسان أرنبة الأنف.. هنا نظر الفقيه إلى الرجل وقال له ألم أقل لك إنهم بقر؟ وبالطبع تصدى لها كرم مطاوع الذى شعر بأنها جزء من مشروعه المسرحى، وأثار العرض جدلًا كبيرًا حال تقديمه فى مسرح الهناجر.

 

هكذا تكلّم المغامر 

 

كنت محظوظًا بلقائه عام ١٩٩٤ فى حوار حول المسرح والتراث، حملت أسئلتى والتقيته، وذلك أثناء إقامة الدورة الأولى لملتقى المسرح العربى والأخيرة أيضًا، وسألته فى البداية: هل هناك اختلاف حين يتعامل المخرج مع هذه الأعمال المتباينة؟، وهل لكل نوع منها تكنيك خاص فى الإخراج؟.. وهل التراث ضرورة مهمة لكى نتعامل معه بهذه الهواجس؟.. وما مبرر التعامل مع التراث الشعبى؟ سألته وأنا أستعرض أمامى عناوين المسرحيات سالفة الذكر التى قدمها، فهذه أسئلة لا يجيب عنها سوى كرم مطاوع من واقع مشروعه، وكنت أسأل نفسى قبل لقائه: كيف قدم هذه الاتجاهات المتباينة لرموز المسرح المصرى الذين عملوا على التراث الشعبى؟ 

قال لى: سوف أرد بسؤال آخر وأقول لك: ما مبرر عدم التعامل مع التراث الشعبى؟ لأن المسرح شأنه شأن كل الثقافات، وهو مصدر تراكم كمى لمجموعة مفردات تاريخية إنسانية واجتماعية تنصهر كلها فى حالة من حالات الإدراك والوعى لمتطلبات الواقع وأحلام المستقبل. إذن مفردات الهوية وتأكيد ملامح ذاتية تكمن فى البعد الإنسانى التاريخى والجغرافى الذى يكون مفهوم مسرح اليوم مع إرهاصات الأمس، التى تأصلت كى ترقى إلى مستوى دعائم الشخصية أو الهوية المحددة، وليست العبرة بالارتداد إلى الخلف كى لا يفهم ما سبق فهمًا خاطئًا. ولكن العبرة بعدم التنكر لدروس الماضى، وفى نفس الوقت العبرة بمنطق التواصل وهو مفهوم عميق، وبلغة الثقافة يشكل ديناميكية حركة الفكر فى المجتمع وفى النهاية من ليس له جد لن يكون له مستقبل.

وعُدت أسأله عما كان يشغلنى فى مشروع المخرج كرم مطاوع، وأقصد.. هل هناك رؤية ما أو تكنيك يطرحه المخرج المسرحى حين يتعامل مع عروض مسرحية تستلهم التراث؟ وبالطبع كنت أقصد مسرحية «الفرافير». وأذكر أنه لم يفكر كثيرًا وأخبرنى فى كلمات واضحة قائلًا: التراث لن يتم تقديمه كما كان فى الماضى مهما كانت الأحوال وتحت أى ظروف سيظل التراث فى أفضل أحواله أن نستفيد منه.. ولكن هناك سؤال لا بد من أن يطرحه المخرج على نفسه حين يتعامل مع عمل يستلهم التراث، وهو: لماذا استلهام التراث وهذه التجربة بالذات منه والهدف المرجو من إعادة إحيائه مرة أخرى؟ «فالتراث كائن» كان حيًا فى وقت ما واستعادته تعنى محاولة إعادة إكسابه حيوية جديدة تتواءم بداهة مع متناقضات العصر وماهية الذوق العام الحالى ممزوجة بتطلعات المستقبل. وأهمية استلهام التراث تكمن فى التفسير الجديد أو المعاصر الذى نتناوله به وليس إعادة تقديم نسخة خالية من النبض والحياة.

خارج الحدود

الآن حين أستعيد كلمات كرم مطاوع منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، أعرف لماذا كان هذا الجيل عظيمًا، وكيف أسس نهضة مسرحية قوامها العلم والمعرفة والوعى بالهوية المصرية بكل مفرداتها. لعب كرم مطاوع دورًا مؤثرًا فى تاريخ المسرح المصرى ليس فقط كمخرج وممثل على خشبة المسرح بل كرئيس للبيت المسرحى، ومدير عام للمسرح القومى، وأيضًا كرئيس للمركز القومى للسينما، وعمل منذ عودته من بعثة الدراسة فى إيطاليا أستاذًا للدراما بمعهد الفنون المسرحية، بل وسافر لتدريس المسرح خارج مصر، حيث خاض تجربتين مسرحيتين الأولى فى الجزائر والثانية ما بين العراق والكويت، حاول فى الأولى أن يزرع بذرة مسرحية فى هذه الأرض العربية، وفى الثانية عمل محاضرًا وقدم برامج تليفزيونية عن المسرح ومارس الإخراج المسرحى.. ربما كان يطمح إلى خلق مسرح عربى رغم اختلاف البيئات والتراثات. وسافر إلى الجزائر بعد الأزمة الشهيرة التى عُرفت باستقالة الأربعة عام ١٩٧٠ «كرم مطاوع مدير المسرح القومى، سعد أردش مدير (الغنائى)، أحمد عبدالحليم مدير الجيب، جلال الشرقاوى مدير (الحكيم)» وذلك اعتراضًا على إلغاء مهرجان الربيع، وأيضًا إقالة عبدالمنعم الصاوى من قطاع الموسيقى، وظل كرم مطاوع فى الجزائر ثلاث سنوات محاضرًا ومخرجًا، وغادر مصر مرة أخرى عام ١٩٧٧ بعد اتفاقية كامب ديفيد مع نخبة كبيرة من المثقفين اعتراضًا على السلام مع إسرائيل، وتنقل ما بين العراق والكويت ولم يعد إلا عام ١٩٨١. 

مغامرة صاحب الفرجة المسرحية 

كرم مطاوع الذى قدم عروضًا مسرحية تعتمد على التراث الشعبى كان يقول: أنا ضد السلفية فى استلهام التراث، وإنه لا مسرح عربيًا بشكل مطلق دون التأكيد على الذاتية، وإنه دائمًا يفكر فى كيفية تواءم التراث مع متناقضات العصر، وإنه على قناعة أن إبداع اليوم، وكان يقصد نهضة الستينيات، حصاد إخصاب الأزمنة الماضية. هو الذى قدم مغامرة إبداعية حول فنون الفرجة فى «الفرافير»، وغيرها، وكان آخر أعماله السينمائية فى فيلم «المنسى» مع عادل إمام، وفى الدراما التليفزيونية مسلسل «أرابيسك»، وكما كان فى المسرح لا يتنازل عن كونه الجواهرجى أيضًا حافظ على هذه الصفة فى السينما والدراما التليفزيونية، فعلى الرغم من قلة أعماله فى السينما فإن دوره فى فيلم سيد درويش، الذى جسد فيه شخصية الموسيقار خالد الذكر، سيظل من الأدوار الخالدة على شاشة السينما. بالإضافة إلى فيلم «إضراب الشحاتين»، حيث استطاع من خلال هذه الأدوار أن يؤسس أسلوبًا متميزًا فى الأداء لا يخص سوى كرم مطاوع وحده لا ينفصل عن مشروعه فى الإخراج المسرحى.