رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الحب.. والكتابة

الحب والكتابة هما أشد العمليات النفسية مشقة وإنهاكًا للروح، فيهما تنكسر الروح وتلتئم، تتحطم وتنهض ملايين المرات فى كل مرة على أمل أن تسكن الروح قلب محبوب أو تسكن قلب كلمة.

الكتابة عملية منهكة، يعلم ذلك كل من اشتغل بها، ولذلك يقول جورج أورويل صاحب الرواية الشهيرة «العالم ١٩٨٤»: «إن الكتابة شىء مرعب، صراع مرهق، مثل نوبة طويلة من نوبات مرض مؤلم». ويقول فرانك أوكونور، صاحب كتاب «الصوت المنفرد»: «لقد أعدت كتابة معظم قصصى أكثر من عشر مرات، وأعدت كتابة بعضها خمسين مرة»! 

فى الكتابة يظل الأديب يطارد اللغة، والمعنى، والبناء الفنى، ربما يصل إلى ما ينشده، وفى ذلك المجال فإن النقطة، أو الفاصلة، تمثل شيئًا مهمًا، وفى ذلك يقول أوسكار وايلد: «لقد قضيت طوال النهار لكى أضع فاصلة، وطوال الليل لكى أحذفها»! ويتعذب الكاتب أثناء الإبداع ليس فقط بالبحث عن المعنى، بل وبالشك المؤلم فى قيمة ما يكتبه، وجدواه، وأهميته، ويتعذب بخمود الإلهام ثم اشتعاله، وفى المقابل قد لا يحصد الكاتب مقابل كل ذلك إلا المتاعب والمطاردة كما حدث حين هاجت فرنسا كلها فى مواجهة فلوبير بعد أن نشر رائعته «مدام بوفارى»، فوصفته الصحف بأنه «خطر على الأخلاق»، وألقى القبض عليه بتهمة «الترويج للأدب الخليع»! وربما تكون المؤثرات الخارجية الاجتماعية أقل إرهاقًا بكثير من المشاق النفسية العصبية فى عملية الكتابة التى تستدعى تركيزًا وتوترًا عصبيًا للإمساك بالصورة الأدبية والمعنى وغير ذلك. 

ولا تضارع مشقة الكتابة النفسية إلا مشقة الحب، هذا الشعور المذهل الذى يظل الإنسان يفتش عنه منذ مولده وحتى النهاية. فى الحب، وربما فقط فى الحب، يصبح الإنسان أكبر من ذاته، إذ يتضخم وجوده فى محبوبته، وهو لا يتضخم فحسب لكنه فى الوقت ذاته يحلو، ويكتسب طعمًا آخر، فكأن الحب هنا ميلاد جديد، لكائن من اثنين، وقلب من قلبين. 

وفى الحب مثلما فى الكتابة تتمزق الروح أشد ما يكون التمزق، ما بين الإحباط، وخيبة الأمل، والخيانة، وفروغ الصبر، وسوء الفهم، وعدم توافق الظروف أو الأعمار، وتعدد مستويات الحب التى لا تكتمل، فقد يكون الحب مرة حسيًا فى الأساس، ومرة عاطفيًا، لكنه نادرًا ما يجمع كل مستويات الشعور والعقل، فإذا جمع كل شىء قامت فى وجهه اعتبارات أخرى تهدمه، أو تؤجله، أو تبيده. 

وحسب تصورى فإن هناك علاقة وثيقة بين الإبداع بكل أشكاله والحب، ذلك أن الشعر والرواية والموسيقى كلها طرق لتعويض الحب بخلقه فى الفن، لكى نرى فى الخيال ما لا نراه فى الواقع. الفن تعويض، وحين يعثر الفنان على الحب فإنه يندفع إلى خلق الجمال، كل الجمال الذى انبعث بداخله من نظرة امرأة محبة ومن نبرة صوتها واختلاجة جفونها. 

فى الحالتين ليس هناك ما هو أشد مشقة من الكتابة، والحب، ولا أشد متعة وعذوبة من تلك المشقة وذلك الأمل.