رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حسنين.. العمر واحد.. والسر واحد.. عن أبناء الحرب والصبر.. وملاك الموهبة المطلقة

حسن عابدين وحسن حسني
حسن عابدين وحسن حسني

بعد أن قام الضباط الأحرار بثورتهم فى يوليو ١٩٥٢.. كان لا بد أن تمتلك روافد ثقافية ترسخ مبادئ تلك الثورة الوليدة فى نفوس الشعب الذى تفاجأ بما فعلته مجموعة من شباب لم تتعد أعمار معظمهم منتصف الثلاثينيات.. ومن ضمن تلك الروافد خرجت فكرة المسرح العسكرى الذى كان طرحها أحد ضباط حرب ٤٨ اسمه النقيب صلاح المصرى للترفيه على المقاتلين المصريين والعرب على الجبهة الفلسطينية ورفع الوعى الثقافى والفكرى أيضًا لهم.

لم تخرج الفكرة إلى حيز التنفيذ إلا بعد قيام ثورة يوليو بشهور قليلة، وكان من أهم أعمدتها ضابط آخر فى القوات المسلحة المصرية، لكنه معجون بالفن وحب المسرح، اسمه إبراهيم الشامى الذى كان محاربًا فى ٤٨ أيضًا.

اجتذب الشامى صديقًا قديمًا له وقف بجانبه فى غزة يحارب العصابات الصهيونية ويعشق المسرح مثله.. كان قد قفز من بنى سويف وهو شاب يافع ليقف فى خندق واحد مع الجيش المصرى المحارب على الجبهة الفلسطينية.. اسمه حسن عابدين.. وسريعًا أصبح عابدين واحدًا من أهم أعضاء المسرح العسكرى وتوطدت قدماه فيه لدرجة أنه كان بطل مسرحية كتبها الرجل الأول للثورة جمال عبدالناصر.. لكن لسوء حظه لم تُعرض المسرحية فى آخر لحظة بقرار من ناصر نفسه.

بعد سنوات قليلة من وجود حسن عابدين فى فرقة المسرح العسكرى انضم إليها شاب آخر أتى من شوارع الحلمية الجديدة اسمه حسن حسنى معجون بالفن مثله ومولود فى نفس سنة ميلاده.. من اللحظة الأولى بدا أن هناك كيمياء قدرية بين «الحسنين»، خاصة بعد أن عرف عابدين أن هناك عوامل مشتركة بينهما.. منها مثلًا دور حصة المحفوظات فى اكتشاف موهبته.. وهو ما حدث معه تمامًا فى مدرسة بنى سويف.. وكانت تلك الحصة السحرية طريق الاثنين إلى المسرح المدرسى الذى وضع فيهما اللبنة الأولى لموهبتين سوف تتدفقان بعد ذلك بسنوات.

وظل «الحسنان» يوطدان أقدامهما سويًا فى أرض المسرح العسكرى بروائع مسرحية صعبة وأخرجا كل ما يملكان من موهبة فطرية خلال تلك الفترة.. لكن، ولسوء الحظ، ظلت قماشة الجماهيرية والانتشار محدودة للغاية بقدر جمهور المسرح العسكرى المحدود بطبعه.. وظلا كذلك خلال الخمسينيات والستينيات حتى أتت النكسة على التجربة برمتها.. وهنا تفرق «الحسنان»، عابدين وحسنى، بين المسارح الخاصة، وهو ما منحهما حرية أكبر وانتشارًا أوسع لكنه أيضًا كان محكومًا فى معظمه بالعروض الحية دون تسجيل تلك المسرحيات.. وحتى السينما لم يسرقا منها غير أدوار بالغة الصغر لا تُذكر، مثل فيلم «الباب المفتوح» الذى ظهر فيه حسن حسنى ظهورًا خاطفًا.

حتى انتصفت السبعينيات وأعطت الحياة أخيرًا وجهها لهما.. والبداية بحسن عابدين عبر مسرحيتين نجحتا نجاحًا لافتًا هما «نرجس» و«عش المجانين»، ثم هبت الثمانينيات بالفرج كله وأصبح عابدين من رموزها فى التليفزيون والإعلانات والمسرح.. وفى نفس الوقت الذى بدأ صديقه حسن حسنى يلفت الأنظار خاصة فى فيلم «سواق الأتوبيس» إحدى روائع عاطف الطيب.. وبدا أن «الحسنين» الصديقين قد أخذا حق موهبتهما فى الدنيا أخيرًا.. لكن لم تنته الحقبة الزاهرة إلا بوفاة أحدهما، وهو حسن عابدين.. تاركًا ساحة الإبداع لحسن الآخر يرتع بموهبته المتدفقة فى سنوات التسعينيات والألفينيات ويتحوّل إلى أيقونة لا تتكرر فيما عرف بسينما الشباب التى بدأها محمد هنيدى أواخر التسعينيات وأصبح وجود حسن حسنى، وهو الرجل الستينى ثم السبعينى، حجر زاوية لأى نجم جديد يريد أن يقف على قدميه وصار ظهوره على الشاشة أو المسرح إيذانًا بدفقة إبداعية.. وظل العم حسن حسنى على هذا المنوال حتى مر عقدان من الألفية الجديدة ليلحق برفيق المسرح العسكرى وصديق السنوات العجاف حسن عابدين فى ٣٠ مايو ٢٠٢٠ بعد أن عاش ٣١ عامًا دونه عن سن جاوزت الثمانين بتسع سنوات.. وتتحوّل صفحات الجرائد ومواقعها إلى سرادق عزاء كبير للرجل الذى ظل يبدع حتى آخر نفس.

حسن عابدين.. كيف ربطت الأقدار بين ابن بنى سويف و«بلفور» صاحب الوعد المشئوم للصهاينة؟ 

«سأصل الإثنين المقبل لأمثل (نور الهدى).. صحتى كويسة.. مجرد إرهاق» 

كان هذا هو عنوان آخر حوار صحفى نُشر لـ«حسن عابدين» فى الصفحة الأخيرة من أهرام ٦ نوفمبر ١٩٨٩، والمفارقة أن قراء «الأهرام» وهم يقرأون هذا الحوار القصير كانت روح حسن قد فاضت إلى بارئها فى اليوم السابق لميعاد النشر.. وحقق حسن وعده فى العودة فعلًا، لكنه لم ينتظر للإثنين المقبل مثلما قال، حيث عاد فى اليوم التالى فى صندوق خشبى ونشرت نفس الصفحة الأخيرة فى أهرام ٧ نوفمبر ١٩٨٩ خبرًا بعنوان «وفاة الفنان حسن عابدين فى لندن أمس».

لندن وما أدراك ما لندن.. هى تلك البقعة من أوروبا التى وُلد فيها قبل هذا التاريخ بأكثر من ١٤٠ عامًا رجل يدعى «جيمس بلفور» يصفه المؤرخون المنصفون أنه رجل قبيح خُلقًا وليس خَلقًا.. ذلك لأنه صاحب أكثر الوعود «بجاحة» فى التاريخ الإنسانى.. الوعد الذى أعطاه مَن لا يملك لمَن لا يستحق.. الوعد الذى ترك أرض فلسطين الغالية نهبًا للعصابات الصهيونية التى تجمعت من شتاتها فى الكرة الأرضية لتطرد أصحاب البيت منه.

ومرت الأيام لتأتى بداية ثلاثينيات القرن العشرين بخبر موت بلفور فى بلاد الإنجليز بعد أن صار وعده المشئوم نقطة انطلاق لغرس خنجر فى قلب فلسطين.. وبعد وفاته بشهور قليلة كان هناك حادث آخر سعيد على مقربة من أرض فلسطين المسلوبة فى الخريطة فى بلدة «بنى سويف» على مدخل صعيد مصر، حيث حضر إلى الدنيا مولود جديد فى منزل واحد من أعيان البلدة يمتلك مساحة كبيرة من الأراضى الزراعية، لذلك يعرف قيمة الأرض جيدًا.. اسمه الحاج عبدالوهاب عابدين الذى سمى مولوده الجديدة «حسن» تيمنًا بسيد شباب أهل الجنة الحسن بن على بن أبى طالب حفيد الرسول «ص».

نشأ الفتى حسن عابدين فى كنف أبيه الذى كان شديد الحرص على إلحاق أولاده بالتعليم عكس السائد فى أرياف الثلاثينيات.. وذهب حسن إلى مدرسته الابتدائية لتكتشف معلمته وهو الطفل الصغير حبه الشديد حصة «المحفوظات»، التى كانت عبارة عن قصص حوارية بين الحيوانات وأفراد الأسرة الواحدة كنوع من تعليم النشء بطريقة مبتكرة، لذلك استهوت الطفل الصغير تلك القصص وكان يصر على أن يقرأها هو أمام زملائه، فكان يقلد الحيوانات وشخصيات كل قصة بشكل أبهر معلمته.. وهو ما جعلها تدفعه إلى المسرح المدرسى الذى كان، ويا للعجب، له دور فعال فى مدارس هذا الزمان.. فأظهر الفتى قدرات ومواهب فى التمثيل والتقمص أدهشت كل من حوله.. خاصة فى تلك النصوص التى تتحدث عن فلسطين والمسجد الأقصى.

وتمر الأيام على حسن عابدين لتظهر عليه بوادر الرجولة الأولى التى ترافق سن المراهقة ويلتهم ما تقع تحت يديه من صحف وجرائد فى بلدته البعيدة عن القاهرة.. ويتشكل إدراكه من واقع تلك القراءات.. ويتعرف أكثر على تلك القطعة من القلب المسماة فلسطين التى منحها بلفور الإنجليزى الميت قبل ميلاد حسن بشهور إلى عصابات الصهاينة الذين يمارسون فى تلك الأثناء أحقر المذابح ليجبروا الفلسطينيين على ترك أراضيهم.

حسن عابدين الفتى اليافع ابن السابعة عشرة من عمره هزته تلك الأحداث ولمست قلبه توسلات أبناء فلسطين.. وعرف حسن أن باب المقاومة الشعبية قد فُتح للمشاركة فى حرب ١٩٤٨ التى هللت لها الصحف.

ذهب حسن بغير علم أهله مع آلاف الشباب الوطنى إلى الإسماعيلية، وأصبحوا تحت إمرة الجيش المصرى بقيادة البطل المصرى الشهيد أحمد عبدالعزيز، قائد القوات المصرية.. ومن الإسماعيلية ينتقل إلى غزة ليسطر بطولات كبيرة ضد العصابات المجرمة، لكن اندفاع الشباب، وهو الفتى الخارج من طور المراهقة لتوه، جعله لا يدرك مواطن الخطورة أثناء المعارك فيواجه متاعب كبيرة وصلت للحكم عليه بالإعدام.. لكنه يستطيع بمعجزة أن يهرب منه.. وعن هذه القصة تُتداول روايتان إحداهما تقول إنه هرب لما دخل أحد الفدائيين قاعة المحكمة وهدد بتفجيرها إذا لم يتم تهريب الأصدقاء، والرواية الأخرى تقول إن القائد البطل أحمد عبدالعزيز بنفسه قد توسط له لكى ينقذه من الحكم العسكرى بالإعدام.

وعلى أى حال.. عاد حسن عابدين إلى بلدته، بنى سويف، بعد سنتين من مقاومة المحتل الغاصب يائسًا من تغيير الوضع على الأرض بعد أن بدا أن حلم تحرير فلسطين يذوب تحت وطأة الخذلان العربى والتواطؤ الغربى.

بعد عودته صحت داخل الفتى جذوة الفن مرة أخرى بعد أن هدأت جذوة النضال، وبعد جولات من الفر والكر بينه وبين أبيه الذى كان يدفعه فى اتجاه البُعد عن التمثيل استطاع الشاب أن يقتنص فرصة الالتحاق بالمسرح العسكرى بعد محاولات كثيرة وحِيل أكثر، منها مثلًا أنه نقل عمله بقلم المحضرين التابع لمحكمة بنى سويف إلى القاهرة حتى يكون بعيدًا عن سطوة والده الحاج عبدالوهاب عابدين الرافض رفض التحريم أن يعمل ولده «مشخصاتى».

ومرت الأيام فى القاهرة ثقيلة بفعل خطواته البطيئة فى الفن، حيث ساعده رفيق حرب فلسطين الفنان الضابط «إبراهيم الشامى» لكى يلتحق بالمسرح العسكرى.. أحد الروافد الثقافية المنبثقة عن ثورة الضباط الأحرار سنة ١٩٥٢ الوليدة فى مصر، وأخذت الفرص تلاعبه.. تقترب وتقترب ثم فى لحظة تبتعد مرة أخرى وتتركه فنانًا مغمورًا على خشب المسارح المختلفة التى لجأ إليها بعد انتهاء تجربة المسرح العسكرى دون أن يعرفه الجمهور العريض.

وبعد سنوات من الصبر تأتى الفرصة العسيرة مع مسرحية «نرجس» سنة ١٩٧٥ رفقة سهير البابلى، نجمة المسرح اللامعة جماهيريًا حينها، ويتم تصوير المسرحية لتُعرض، ويبدأ الجميع يتعرف على هذا الممثل الثقيل الذى كان من المفترض أن يعتلى القمة منذ سنوات.

وتفتح الدنيا ذراعيها لـ«حسن عابدين» ليصير واحدًا من أهم الوجوه التليفزيونية بجانب مسرحية أخرى بعد «نرجس» بأربع سنوات فى أواخر السبعينيات وهى مسرحية «عش المجانين» ودويتو أسطورى صنعه مع محمد نجم الذى ترسخ فى الوجدان الجمعى للمصريين بجملة «شفيق يا راجل».

وتأتى الثمانينيات فاتحة ذراعيها لابن بنى سويف ليصبح أيقونة من أيقوناتها عبر واحدة من أشهر وأجرأ الحملات الإعلانية عبر تاريخ الإعلانات فى مصر والمعروفة باسم «سر شويبس» وهى الحملة التى فرضت وجود حسن عابدين فرضًا على وجدان الشعوب العربية التى تعلقت بالحملة الجريئة التى ابتكرها شاب موهوب سيسيطر بعدها بسنوات على سوق الإعلانات المصرية بأفكاره غير التقليدية ومواهبه غير المحدودة واسمه طارق نور.

ومرت الأيام فى الثمانينيات عاصفة على حسن.. وأغلب الظن أن روح الفتى المناضل فى حرب ٤٨ لم تبرح نفسية الرجل الخمسينى حتى وفاته، وظل فى صراع نفسى دفعه فى ذروته إلى إعلان اعتزاله وهو فى أوج تألقه.. لولا تدخل الشيخ الشعراوى الذى أرجعه إلى الفن بجملة واحدة: «أمال أنا هتفرج على مين لو أنت اعتزلت!».. وعاد حسن عابدين وظل يمثل حتى أنهى مشواره برائعة أسامة أنور عكاشة «أنا وأنت وبابا فى المشمش» ليلقى ربه بعدها بشهور فى بلاد الإنجليز حيث موطن نفس الرجل القبيح «البجح» الذى منح ما لا يملك لمَن لا يستحق «جيمس بلفور».

وتستمر الأقدار فى ألعابها وتأتى ذكرى وفاة حسن عابدين الـ٣٤ بينما يعيش إخوانه الفلسطينيون نكبة جديدة ومحاولة تهجير أخرى فى نفس الأرض التى داسها الفتى البنى سويفى بقدمه فدائيًا مناضلًا سنة ٤٨.

.. وتلك هى الأقدار وألاعيبها.

حسن حسني.. ابن القلعة الذى واجه ضربات الموت المتتالية بالفن

قطار حسن حسنى كان قد انطلق متأخرًا بعد الخمسين مثل رفيق الصبر والمسرح وحصة المحفوظات حسن عابدين.. وإن كانت وفاة الأخير قد أوقفت القطار عنوة، فإن العم حسن لم يكن يملك إرادة إيقاف تدفق إبداعه وظل يطوى الأعمال الفنية دون حتى أن يحصى وأصبح منجم ذهب لكل المنتجين لقدرته الفائقة على التلون بين الشخصيات دون أن يعطل عملًا على حساب آخر إلا فى أضيق الحدود.

بالرغم من كل ما سبق فقد كانت قلة الظهور الصحفى هى السمة الغالبة على حسن حسنى على صفحات الجرائد الورقية ربما لأنه لم يكن يملك الوقت لذلك.. حيث كان أكثر أبناء جيله غزارة فى الإنتاج الفنى الذى جعله مثار دهشة كبيرة من زملائه من أصغرهم وحتى أكبرهم ممثلًا فى فنان بقيمة عمر الشريف العالمية الذى زامله حسن فى فيلم «المواطن مصرى» سنة ١٩٩٢.. وقال له: كيف تستطيع أن تصور أكثر من عمل فى وقت واحد.. دون أن تطغى شخصية على الأخرى؟

وإن كان كل هذا النجاح لم يُنسه معشوقه الأول المسرح، كما أنه ظل شاعرًا بالامتنان للأجيال الأكبر التى عاشرها فى الستينيات خاصة فى المسرح العسكرى ورأى مدى تماهيها مع الفن دون انتظار مقابل وظهر ذلك على سبيل المثال عبر حوار قصير نشرته «الجمهورية» فى عدد ١٤ سبتمبر ١٩٩٠ أجراه الصحفى عمرو الفار على هامش تصويره فيلم محمد خان «فارس المدينة» بعد أقل من عام على وفاة صديقه حسن عابدين، وقال بنص ما كتب فى الحوار: «مسرح الستينيات كان واجهة مشرفة للمسرح المصرى.. الناس القديمة تعبوا ولم يأخذوا فرصة مثلنا لم يكن أمامهم غير المسرح، كانوا أصدق منا».

والمفارقة أن نفس الجريدة «الجمهورية» قد نشرت موضوعًا بعد هذا الحوار بسبع سنوات فى عددها الصادر ١٨ أكتوبر تطالب بعودة المسرح العسكرى بقلم الناقد المسرحى أحمد عبدالحميد ودلل على أهميته بما فعله جيل «الحسنين»، عابدين وحسنى، فى الخمسينيات والستينيات ودورهما فى زيادة الوعى القومى عند الجنود والمشاهدين.

الموت كانت له صولات وجولات مع حسن حسنى ولم يكن وداع الأصدقاء مثل حسن عابدين شيئًا يذكر بجوار مقالبه الأخرى الأكثر قسوة التى بدأت منذ طفولته المبكرة بفقدان الأم وهو لم يتعد سن السادسة بعد.. ويجرى فى حوارى القلعة قبل أن ينتقل للحلمية، ولم يدرك بعد معنى أن تفقد أقرب إنسان لك فى لحظة وهو ما أسبغ عليه مسحة حزن ظلت ملازمة له فترة طويلة. 

واللافت فى شخصية العم حسن حسنى أنه تصالح قبل وفاته بشكل كامل مع الموت، وكأنه كان ينتظره راضيًا عن سنوات عمره الغزيرة، كمًا وكيفًا، التى طواها خلفه متمسكًا بشغف الفتى الذى كان ماهرًا فى حصة المحفوظات ما أهله ليكون نجمًا فى المسرح المدرسى، الذى خرج منه على المسرح العسكرى ليقابل أشخاصًا يشاركونه الحلم والشغف وعلى رأسهم بالطبع رفيقه حسن عابدين.

وليس أدل على تصالحه مع الموت من سخريته الدائمة على الملأ من شائعات وفاته التى لازمته فى سنواته الأخيرة نتيجة قلة ظهوره وهو الأمر غير المعتاد.. حيث سخر مثلًا فى حوار مع «اليوم السابع» قبل وفاته بعام من تلك الشائعة قائلًا للزميلة زينب عبداللاه بنص ما كتبته: «أيوه يا زينب يا بنتى دى المرة الكام اللى بيموتونى فيها، هما مستعجلين ليه أنا لسه ما أكلتش الكحك».

الأغرب أن حسن حسنى قد واجه الموت كمدًا قبل موته الحقيقى بسنوات عندما غادرته ابنته متأثرة بالسرطان، وهو الأمر الذى جعله يخالف طبيعته قليلًا، ويبدأ مرحلة الانزواء الجزئى لأنه كان متعلقًا بابنته تعلقًا تامًا، وبدأ حتى ظهوره فى الأفلام يكون بشكل أقل إبهارًا من ذى قبل وكأنه فقد شغفه الذى لازمه منذ حصة المحفوظات فى مدرسة الحلمية فى ثلاثينيات القرن العشرين.. وعلى ما يبدو أن هذا الشغف قد دُفن مع ابنته وأصبح معتادًا أن يكون وجوده فى أفلام الشباب مجرد ضيف شرف غير مؤثر بعد أن كان الأيقونة التى تميز أفلامهم مثل دوره فى فيلمى «البدلة» و«كابتن مصر» وغيرهما من الأدوار.

ولم تكن تلك هى ألعاب الموت فقط مع حسن حسنى، حيث كان موت علاء ولى الدين من كبرى الصدمات فى حياته، كما حكى هو بنفسه، لأن الموت كان صادمًا ومفاجئًا بشكل عصى على التصديق، حيث كان علاء فى عز توهجه الفنى وشبابه، وكان علاء تحديدًا من كل أبناء جيله الذين يقدسون العم حسن حسنى ويحتل قدرًا كبيرًا من قلبه، وكان يعتبره نجله بشكل حقيقى ويتعامل معه على هذا الأساس، لذلك لم يكن غريبًا على هذا الرجل القوى الذى لا يثنيه شىء عن ممارسة عشقه الأول التمثيل أن يفكر حينها فى الاعتزال النهائى ويعتكف خارج مصر ٣ أشهر، ولكنه استسلم فى النهاية لإلحاح باقى الجيل الذى شعر بحاجته له أكثر من ذى قبل بعد وفاة علاء.

وظل هكذا يلاعب الموت ويلاعبه حتى غلبه بطبيعة الحال فى نفس سنة كورونا، الوباء الذى سيطر على العالم وحبسهم فى بيوتهم، فذهب العم حسن حسنى إلى براح العالم الآخر لعله يكون أكثر راحة من خنقة عالم ملعون بوباء جديد لا يعرف أحد ماهيته.