رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ليلة القتلة».. محاكمة عبثية للآباء

«ليلة القتلة» هو نص مسرحى للكاتب الكوبى «خوزيه تريانا»، كتبه عام ١٩٦٤ خلال فترة حكم «فيديل كاسترو» كوبا، وهو ما يعطى امتدادات دلالية قابلة للتأويل السياسى بالتوازى مع المضمون الاجتماعى الظاهر فيه، رغم ما قام به المخرج «صبحى يوسف» محاولًا فى إعداده أن يقصر تأويله داخل نطاق السياق الاجتماعى فقط.

ليس المقصود القتل المادى والجسدى بقدر ما يُقصَد به القتل المعنوى، فكما هو قتل للأحلام فيقابله قتل فى الأحلام، من خلال ثلاثة أبناء اعتادوا أن يلعبوا كل ليلة لعبة مواجهة الآباء ومحاكمتهم لعجزهم عن مواجهتهم فى الواقع، فيستحضرون الآباء ويمثلون شخصياتهم ويحاكمونهم عما اقترفوه تجاههم من تسلط وقتل لأحلامهم، فإذ بهم يحاكمون المجتمع كله بنظامه ومنظومته الساحقة إنسانية الفرد، فيصدرون الحكم باستحقاق قتل الآباء ثم يتمادى الابن فيقرر قتل العائلة كلها، بما يحمله ذلك من إدانة لكلا الطرفين، فكلنا قتلة وكلنا ضحايا.

وتبادل المواضع بين الأبناء والآباء فى اللعبة يخلق وجهتى نظر للموضوع، تمثلان قطبى صراع فى «ثنائية قطبية» ارتكز العرض عليها، فكانت البوصلة الرئيسية التى اتجه نحوها كل عناصر العرض فنيًا.

فبدأت الرؤية الإخراجية من ناحية التمثيل لتمد خط هذه الثنائية على استقامته، فيتبادل الممثلون أداء كل الأدوار، فالشخصية الدرامية فى العرض لا يقوم بها ممثل واحد، إنما تدور بين الممثلين، والأمر لا يقتصر فقط على تمثيل الأبناء أدوار الآباء، بل إن شخصيات الأبناء ذاتها يقوم بها ممثلان وليس ممثلًا واحدًا، وهو تكنيك تفكيكى لوحدة وبنائية الشخصية الدرامية، ليس على مستوى دراما النص واللغة، ولكن على مستوى التمثيل والعرض، وهنا يجب أن نشير إلى أن تكنيك التفكيك لا يحول العرض إلى عرض تفكيكى على مستوى المنهج الفنى، إنما هو عرض بنائى يعتمد على تكنيك التفكيك التحليلى للموضوع فقط، لكنه فى النهاية يبنى رؤيته الخاصة ويقدمها تراكميًا فى نهاية العرض، فبذلك يظل عرضًا بنائيًا على مستوى تصنيف المنهج الفنى.

جاءت السينوغرافيا «ديكور وملابس/ سماح نبيل- إضاءة/ إبراهيم الفرن» دالة أيضًا على فكرة الثنائية القطبية والانعكاس، فتم تقسيم الفراغ المسرحى إلى مساحتين متقابلتين لأماكن جلوس الجمهور، وكل مساحة ترى انعكاسها ذاتها فى جمهور المساحة الأخرى، وكأننا ننظر لانعكاس صورتنا فى المرآة، بل ليزيد تأكيد المعنى ويطوره تم استخدام المرآة فعليًا فى عكس الإضاءة على وجوهنا، فردًا فردًا، أثناء محاكمة الابن «القاتل/الضحية» بعدما كانت منعكسة على وجهه طوال المحاكمة، فكلنا ضحايا وكلنا قتلة للأحلام.

وتم تقسيم المشهد الواحد إلى زاويتين منعكستين، وهو ما يستدعى تغيير المتلقى زاوية رؤيته، وهو أيضًا ما يتطابق مع فكرة النظر للموضوع الواحد من زاويتين، ويؤكد فكرة الثنائية والانعكاس، وكذلك عدم ثبات أو أحادية دلالة قطع الديكور والإكسسوارات، فالحبال استخدمت مرة بالتوازى فى إيحاء لحلبة المصارعة أثناء المحاكمة، ومرة بالتقاطع فى إيحاء للعزل بين الشخصيات وحصارها، وكذلك استخدام الكراسى مرة كمربعات شطرنجية، ومرة كشرفة منزل ومرة ككرسى سلطوى، ثم تتطور دلالتها فتصبح سجنًا للابن يبتلعه ويطمسه فى لحظة انهياره أمام المحكمة حتى تلك الشرائح الخشبية الطولية فى تصميم الكرسى أشبه بقضبان السجن، وكذك «البيجامات الكستور» الموحدة والمخططة بنفس الخطوط الطولية السوداء كدال مباشر على حالة السجن والأسر الجماعى للأبناء، وموتيفة السجن المعدنى متناهية الصغر يحملها الابن أثناء المحاكمة، فهو سجن ذاتى للروح نحمله بداخلنا، فهنا لا نتحدث عن سجن حقيقى، ولكننا نتحدث عن سجن رمزى «عبثى» معنوى، منتشر فى كل تفاصيل الحياة حولنا.

اتجه العرض إلى أجواء الخيال أكثر من ميله للواقعية، وهو ما يتناسب مع طبيعة اللعبة مستخدمًا المنهج العبثى الذى لا يلتزم بالتسلسل الزمنى للأحداث، بما يخدم بنائية الموضوع لا واقعية القصة أو الحبكة، واتجه أيضًا إلى البريختية فى كسر الإيهام الكامل للممثل فى أدائه الشخصية، فمجرد تفتيت الشخصية على ممثلين اثنين هو نوع من أنواع كسر التقمص الكامل للشخصية، وقيام الأبناء بلعبة تمثيل الأدوار هو تمثيل داخل التمثيل، وهو واقعى فى النص لكن تفتيت هذه الشخصيات هو ما أخرج التمثيل داخل التمثيل من سياق التقمص الواقعى لدرجة عدم الالتزام بجنس الشخصية الجندرى، ففى مشهد زواج الأب والأم قامت بدور الأب ممثلة وقام بدور الأم ممثل، وهو دمج موضوعى جدًا بين المنهج العبثى والمنهج البريختى الذى يتميز بمخاطبة العقل لا العاطفة، وهو اختيار لمنهج يتناسب جدًا مع طبيعة الطرح الموضوعى للعرض، ويدل على أن قصدية المزج بين المناهج لم تكن عشوائية أو صدفوية أو مجرد جمالية لكنها تحقق أهدافًا فنية وموضوعية بعينها، فالدمج بين عدة مناهج فنية وبعضها متضاد فنيًا هو مستوى شديد الصعوبة فنيًا يتطلب وعيًا فكريًا عالى المستوى، وحساسية فنية بالغة الدقة سواء من المخرج أو الممثلين «إميل شوقى، نشوى إسماعيل، مروج، ياسر مجاهد، لمياء جعفر، شيماء يسرى» حيث يتطلب ذلك تناغمًا شديدًا فى تسليم وتسلم الحالة التمثيلية بين الممثلين أثناء تأرجحها بينهما، دون خلل انفعالى أو صوتى رغم التفاوت النسبى المقصود فى أعمار الممثلين، فتتحقق حالة تأرجح وجهات النظر بين نقطتين وإنعكاسها المستمر بمرونة وسلاسة فيما يشبه حركة بندول الساعة وقد كانوا على هذا القدر من الوعى والحساسية الفنية.

كانت الموسيقى التصويرية «محمد حمدى رءوف» بالغة الحساسية فى التعبير عن الحالة الشعورية للمشهد المسرحى، دافعة ومدفوعة بها فى تجانس مبدع، لكن جاء نهج الأغانى «عوض بدوى» وألحانها خارج سياق العرض المنهجى، من حيث اعتمادها على الأغانى المسجلة، ولم تكن دافعة للدراما، بل كررت المعنى والرسالة الدرامية للمشهد رغم جودتها وثرائها الفنى، وكذلك بعض مواضع الإظلام أثناء تغيير الممثلين الملابس لأداء شخصيات درامية مختلفة لم يكن لها داعٍ وفقًا لمنهج العرض.

فى النهاية، هو عرض مبدع وممتع ذهنيًا ووجدانيًا، امتاز باتساق القالب الفنى مع المضمون والرؤية الإخراجية المبدعة الواضحة.

فلا يسعنا إلا أن نشكر ونثمن جهد وإبداع كل فنان شارك به، ونشكر إدارة مسرح الطليعة وعلى رأسهم الفنان عادل حسان، الذى يجيد اختيار العروض العالية المستوى فنيًا.