رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الزحف على سيناء

فى بداية القرن كان المصريون يرفعون شعار «مصر والسودان لنا وإنجلترا إن أمكنا»، والمعنى أنهم كانوا يردون على رغبة بريطانيا فى الاستيلاء على مصر بإعلان أن المصريين لن يدافعوا فقط عن بلدهم، ولكن سيحتلون من يطمع فى احتلالهم.. واليوم يمكن أن أقول مازحًا «إن سيناء كلها لنا وتل أبيب إن أمكنا»!!.. لقد ذهب المصريون، أمس، إلى سيناء فيما يُشبه الزحف الرمزى ليخبروا من يطمع فى سيناء بأنها ليست قطعة أرض خالية، كما يحاول بعض الصهاينة أن يصوروا الأمر، ولكنها قطعة غالية من قلب مصر تنتظرها مخططات طموحة للبناء والتنمية بعد أن تعطلت خطط تنميتها لعشرات السنين.. إن سيناء مطمع كبير للأعداء فى كل مكان، لأن العدو فى الستينيات كان لديه هدف استراتيجى غير هدفه الآن.. ففى الماضى كانت إسرائيل تحارب العرب لفرض نفسها كأمر واقع سياسى، وللدفاع عن نفسها ككيان مزروع فى المنطقة يريد الجميع لفظه والتخلص منه، كما يفعل الجسم مع أى عضو غريب عنه.. لذلك كانت الأرض العربية المحتلة فى ١٩٦٧ بمثابة رهينة تحتجزها إسرائيل للضغط على الدول التى تحاربها، ولخلق مسافة عازلة بينها وبين شعوب وجيوش هذه الدول التى ترفضها.. لكن الأمر اختلف منذ التسعينيات، وعاش الإسرائيليون فى أحلام الاستيلاء على خيرات الشرق الأوسط الكبير وقيادته اقتصاديًا.. وألف شيمون بيريز كتابه «الشرق الأوسط الكبير» الذى بشر فيه بهذه الأفكار.. ورغم مضى السنوات وجد المخطط من العرب من يتحالف مع إسرائيل لتنفيذه، وبدأنا نسمع عن «ريفيرا فى البحر الأحمر» بتمويل خليجى وخبرة إسرائيلية تمتد إلى شواطئ عدة دول.. والمعنى أن طمع العدو فى سيناء هذه المرة طمع اقتصادى استعمارى.. فهم يحلمون أن يطردوا أهل غزة من أرضهم ليحولوها لمنطقة سياحية كبيرة فى المرحلة الأولى، ثم يكون وجود أهل غزة فى سيناء- وفقًا لأوهام البعض- ذريعة اشتباك جديد يترتب عليه الاستيلاء على شواطئ العريش الساخرة.. إنه مخطط لصوص أراضٍ، وباحثين عن المال، تعى به مصر دون أن تصرح.. وترد عليه بتنمية سيناء وكأنها فى سباق مع الزمن.. إن مصر التى تريد تدارك ما فاتها تنخرط فى بناء ميناء العريش الكبير؛ كى يكون نقطة وصل إضافية بين شرق العالم وغربه.. حيث تأتى البضائع من البحر الأحمر إلى طابا، وبالقطار تنتقل إلى العريش، حيث تتحرك السفن إلى أوروبا.. وهو ممر ملاحى يمثل إضافة قوية لقناة السويس المصرية، وينافس ممر «الهند- الخليج- إسرائيل» الذى يحلم به بعضهم، لذلك يضغطون على مصر كى تقبل تصفية القضية الفلسطينية، وأن تحول شمال سيناء لمعسكر إيواء كبير لأهلنا فى غزة، بدلًا من أن تصبح مركزًا لوجستيًا وسياحيًا عالميًا، وبدلًا من أن يسمحوا لأهل غزة بحقهم الطبيعى فى تنمية أرضهم وبناء ميناء فيها.. لذلك يتواصل الضغط على مصر حتى هذه اللحظة من الاتحاد الأوروبى وغيره عبر رسائل تعتبر مصر أنها والعدم سواء.. إنهم ببساطة يريدون أن يأخذوا من مصر شبكة صيد السمك مقابل إهدائها سمكة ستكون فاسدة وعديمة الطعم فى الغالب.. لقد ذهب الجميع إلى سيناء فى تشكيل رمزى للأمة المصرية «سياسيين وفنانين وإعلاميين ومؤيدين ومعارضين» لتصل رسالة للجميع بأن المصريين لن يتركوا سيناء.. وكانت المعلومات التى طرحت فى اللقاء بمثابة رسائل مفتوحة لجميع الأطراف.. ومن أهمها إعادة توطين أهل رفح المصرية بعد أن تم بناء مدينة عصرية تليق بهم.. والحقيقة أننى زرت رفح فى عام ٢٠٠٨ ولم تكن سوى قرية مصرية ذات بيوت بسيطة معظمها يحتوى على أنفاق للتهريب بين الجانب المصرى والجانب الفلسطينى.. ومع ظهور الإرهاب أصبحت الأنفاق تستخدم لتهريب السلاح والإرهابيين، بمعنى أنها أصبحت مصدرًا للشر لا للخير.. لذلك كان لا بد من إخلاء المنطقة وهدم البيوت البدائية وبناء مدينة عصرية حديثة.. وبعد القضاء على الإرهاب بات من الطبيعى أن يعود أهل رفح لبيوتهم، وفى هذا رد كاف على لجان الإخوان الصهيونية التى كانت تشيع أن أهالى غزة سيتم تسكينهم فى مدينة رفح الجديدة.. كان من الرسائل، أيضًا، ما قاله رئيس الوزراء من أن ساحل العريش لا يقل روعة عن الساحل الشمالى، كما نطلق على المنطقة من الإسكندرية لمطروح، والحقيقة أن شاطئ العريش جزء من الساحل الشمالى لمصر، وهو على وجه الدقة الساحل الشمالى الشرقى، وأنا أدعو لأن تبنى مصر مدينة علمين جديدة فى العريش، وأن تدعو كل شركات التطوير العقارى المصرى لبناء هذه المدينة لكى تصبح مركزًا استثماريًا وسياحيًا فى شمال سيناء على غرار العلمين ودبى وسنغافورة، وغيرها.. وستكون هذه أكبر رسالة للعالم بأن سيناء ليست صحراء خالية، يجب إلقاء أهل غزة فيها كما يحاول بعض الصهاينة أن يصوروا الأرض.. كان من الرسائل، أيضًا، رسالة القوات المسلحة المصرية فى الاحتفال بأن أرض سيناء ثمنها دماء المصريين وأرواحهم، وكان من الرسائل أيضًا أن أهل سيناء شركاء أساسيون فى التنمية، وأن شركاتهم سيكون لها نصيب فى كل المشاريع الكبرى، وهذا إصلاح لخطأ تم ارتكابه فى عقود سابقة، وأدى لشيوع شعور بالمظلومية استغله الإرهابيون فى تضليل بعض أبناء سيناء.. زيارة رئيس الوزراء وما صاحبه من مظاهر الزحف الرمزى للمصريين على سيناء، رسالة سياسية كبيرة للداخل والخارج، تقول إن الدولة المصرية واعية لكل ما يدور حولها، ومدركة لكل المخططات، وأن موقفها فى الدفاع عن المصلحة الوطنية المصرية موقف صلد كالحجر، وأننا ندرك أن الأمن القومى له أبعاد اقتصادية تمامًا، كما أن المطامع الاستيطانية لها أبعاد اقتصادية.. والحقيقة أننا يجب ألا نقلق على المستقبل ما دامت الدولة المصرية لديها كل هذا الوعى والطموح والإرادة.