رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«شريك الخيانة خائن»

تعود تفاصيل هذه الواقعة إلى أواخر عصر «كافور الإخشيدى»، أحد أبرز حكام الدولة الإخشيدية التى حكمت مصر بعد زوال دولة أحمد بن طولون وأولاده. كثيرون كانوا يضعون أعينهم على مصر فى ذلك الوقت، بسبب ما سادها من اضطرابات نتيجة الصراعات على الحكم، بالإضافة إلى تراجع الأحوال الاقتصادية، بسبب مبالغة «كافور» فى الإنفاق على نزواته ورغبته العارمة فى تمجيد اسمه، ومعالجة ما كان يشعر به من عقد، نتيجة أصله كعبد خصى، تحوّل فى ظرف تاريخى معين إلى أمير للبلاد، من ذلك على سبيل المثال المبالغ الكبيرة التى أنفقها على الشعراء المادحين له وعلى رأسهم المتنبى.

كان الفاطميون فى الغرب هم أكثر من يحلمون بالسيطرة على مصر، وقد فكروا فى غزوها أيام «كافور»، لكن حذرهم «حزب الشيعة» المتخفى فى البلاد من ذلك، وأرسلوا إلى المعز فى المغرب يقولون له: «إذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعز الدنيا كلها». وكانوا يقصدون بالحجر الأسود كافور الإخشيدى. ويؤشر ذلك إلى عدم دقة الأحاديث التى يمكن أن تقرأها فى بعض الكتابات التى تؤرخ لهذه الفترة، وتؤكد أن الرسائل بدأت تتدفق إلى المعز من أعيان البلاد تستنجد بالمعز ليأتى ويملك مصر بعد وفاة «كافور» بسبب ما أصابها من اضطراب. فالمسألة لم تكن طلبًا لنجدة سياسية، بل كانت «استنجادًا مذهبيًا»، من جانب حزب شيعى كامن فى مصر، يفهم أوضاع البلاد جيدًا، ويريد أن يحوّلها إلى دولة شيعية المذهب، لكنه علم أن ذلك لن يكون إلا بموت «كافور»، وما إن حدث ذلك حتى أرسلوا إلى «المعز»، ليأتى ويقوم بالمهمة.

ويشير «ابن تغرى بردى» إلى أن خيانة حدثت داخل «البيت الإخشيدى» كان بطلها «الحسن بن عبيد الله بن طغج»، أمير الشام، الذى كان شقيقه أميرًا على مصر، وكان كافور يحكم باسم الأميرين، وهو أمر كان يثير حنق «الحسن» كثيرًا، يضاف إلى ذلك أنه كان ذا هوى شيعى واضح، بل دخل رسميًا مع الشيعة فى الدعوة، ما أثار حفيظة الجند الإخشيد عليه، فكرهوه وكرههم، الأمر الذى استغله أحد دعاة الشيعة فى مصر حينذاك، وهو أبوجعفر بن نصر، فقال للحسن: «هؤلاء القوم طمعوا فيك، والمعز لك مثل الوالد، فإذا شئت كاتبته ليشد منك، ويكون من وراء ظهرك». تنهد الأمير لحظتها وقال: «إى والله قد أحرقوا قلبى». أرسل الأمير «الحسن» إلى «المعز» فوافاه الأخير بقائده «جوهر الرومى» على رأس ١٠٠ ألف مقاتل دخلوا مصر.

ولم يكن دخول الفاطميين إلى مصر سهلًا، كما يصور بعض المؤرخين، فأمام «جيب الخيانة» الذى قاده الحسن الإخشيدى، كان هناك جمع أكبر من الإخشيديين الرافضين الوجود الفاطمى فى مصر، وقد احتشد هؤلاء بجندهم وأسلحتهم أمام جيش القائد جوهر، وقاتلوه بشراسة، لكن الكثرة الفاطمية، حينها، غلبت الشجاعة الإخشيدية، فانتهى الأمر بكسرة الإخشيد، ودخول القائد جوهر إلى مصر، والغريب أن «جوهر» ألقى القبض على الأمير «حسن» بعد أن استولى على البلاد، وبعث به إلى «المعز»، فلما دخل الأول عليه بش له «المعز» وقربه إليه وخاطبه قائلًا: «أنت ولدى، وكاتبتنى على دخول مصر، وإنما بعثت إليك جوهرًا لينصرك».

لم يدرك «الحسن» أن «شريك الخيانة خائن» وأن «المعز» يلين له فى القول، لأنه كان يريد منه معلومات، وليس كما صوّر له خياله أن الرجل يستهدف إجلاسه على عرش مصر والشام كما يحلم. سأل «المعز» الأمير «حسن» عن أسماء وجهاء وأغنياء البلاد وحجم ثرواتهم، فأملاه أسماءهم جميعًا. لم يكذّب «المعز» خبرًا، وأرسل كشف الأسماء إلى «جوهر»، وأمره بالقبض عليهم جميعًا، ومصادرة ما لديهم من أموال ومجوهرات. لم يكتف «جوهر» بذلك، بل أرسل بكل من قبض عليهم إلى «المعز» فى الغرب، فحبسهم مع الأمير «الحسن»، الذى وشى بهم، فى غرفة، وكان ذلك آخر العهد بهم. ويشير «ابن تغرى بردى» إلى أن «الذهبى» ذكر أن هذا القول منكر، وأن كل ما فى الأمر أن الحسن بن عبيد أخرج من مصر وبايع للمعز، ثم قدم بعد ذلك ووقعت بينهم الوحشة.

وحقيقة الأمر أن المتأمل للسنوات الأولى من تجربة الحكم الفاطمى يجد أن قادتهم، بدءًا من «جوهر» وحتى «المعز»، كانوا يعتمدون على الحيلة والدهاء فى إدارة أمورهم مع خصومهم السياسيين، ومن الثابت أنهم دخلوا مصر بتنسيق مع حزب من كبار أهلها «كان متشيعًا»، راسلهم وساعدهم بالمعلومات، بشكل أساسى، ما مكنهم من الانتصار السريع على الإخشيديين، وبالنسبة للأهالى فقد اعتمدوا على الدعاية فى استقطابهم، عبر الاحتفاليات الكبرى والمهرجانات، والاهتمام باستحداث عادات جديدة راقت بسطاء الناس، فاندمجوا فيها، بالإضافة بالطبع إلى ما أبدوه من تسامح مؤقت مع الناس، حتى إذا تمكنوا من الأمر بأن تعصبهم للمذهب الإسماعيلى، وبدأوا فى محاصرة والتنكيل بعلماء وقضاة المذاهب السنية الشائعة فى مصر حينذاك، وهم الذين كانوا يعاملونهم بالأمس بالاحترام والتبجيل.

نال الحزب الشيعى الذى تعاون مع الفاطميين الزاحفين على مصر، وعلى رأسه الأمير حسن، جزاء سنمار، فبعد أن حقق «المعز» بغيته منه واستفاد من خيانته، خانه، لتتأكد حقيقة أن «شريك الخيانة خائن».