رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا يتعاطفون معهم!

الأشياء تتغير بسرعة، بسرعة جدًا، ما كان صحيحًا حتى اليوم قد لا يكون صحيحًا غدًا.

الأسبوع الماضى كان مقالى بعنوان «يتعاطفون معهم»، اليوم تغير الحال، بل وانقلب رأسًا على عقب، الآن لا أحد يتعاطف، ولا أحد معهم.

صور جثث الضحايا فى مستشفى المعمدانى فى غزة، الأشلاء المبعثرة وسط الدماء، الأجساد دون رءوس، الأطفال الذين كانوا يلعبون قبل ساعات لم يعرفوا أنها ستكون لعبتهم الأخيرة. 

الصور فظيعة، كل من أعرفهم يتألمون بسببها، السواد يغيم، الحزن فى كل مكان، لا أحد سينسى، لا أحد بإمكانه أن ينسى، التاريخ عليه أن يتذكر.

قبل يومين، كان العالم يتحدث عن هجوم حماس على بلدات غلاف غزة، وخطف الإسرائيليين النساء والأطفال، والمُسنين، الهجوم المهين، وكان الجميع ينتظر «انتقام» إسرائيل، ولأيام شاهدنا الغارات الإسرائيلية على غزة، صور الدمار فى القطاع، والأطفال الذين استشهدوا والبنايات التى تمت تسويتها بالأرض، لم تكسب تعاطف العالم «أقصد العالم الغربى»، وكان الحديث الرئيسى هو أن إسرائيل لها الحق فى الدفاع عن نفسها بعد هجوم حماس المميت، العالم تعاطف معها، وإسرائيل بدأت رحلة الانتقام التى خاضتها بدون حدود للقوة. 

مساء يوم الثلاثاء الماضى كان المنعطف الذى جاء ليغير مسار الحرب التى لم يتوقعها أحد، تفاجأ العالم بانفجار مدوٍ يهز مستشفى المعمدانى بقطاع غزة، وبعد ساعات قليلة، كانت الصور الفظيعة فى كل مكان.

الاتحاد الأوروبى وأغلب الدول الأوروبية سارعت بالتنديد، الدول العربية أصدرت بيانات شديدة اللهجة، وإسرائيل قالت إن الحادث قيد التحقيق.

بعد ساعات بدأت إسرائيل رحلة إقناع العالم بأن الانفجار بواسطة «صاروخ فاشل» تابع للجهاد الإسلامى، الحركة أنكرت، وحماس أنكرت، وإسرائيل واصلت التمسك بروايتها، أظهرت فيديوهات لصواريخ من القطاع تنفجر، وفى لحظة تسقط فجأة، ثم دوى الانفجار، واستشهدت بمكالمة سربتها بين عناصر حماس وهم يقولون إن الشظايا والقطع المنبعثة من الصاروخ المنفجر لا تنتمى لصاروخ إسرائيلى بل ربما تابع إلى الجهاد، إسرائيل أسمت هذه «أدلة».

ما كان مهمًا بالنسبة لإسرائيل هو إقناع فريق الأمن القومى الأمريكى والبنتاجون بأن صاروخًا فاشلًا تابعًا للفصائل هو الذى تسبب فى المذبحة الرهيبة فى ساحة المستشفى، بهدف جعل جو بايدن يعلن ذلك عند وصوله إلى إسرائيل. 

أوروبا تراجعت ضمنيًا عن الإدانة المباشرة وأمرت بفتح تحقيق، الرئيس الأمريكى بايدن أقر بالرواية الإسرائيلية، وقال فى اليوم التالى: يبدو أن الانفجار تم تنفيذه بواسطة الطرف الثانى، صحيفة «وول ستريت جورنال» فجّرت مفاجأة وقالت إن القنبلة المستخدمة فى الانفجار كانت من نوع MK-84 أمريكية، وهى تتطلب طائرة معينة لإسقاطها، وهذه الطائرة لا تمتلكها حماس ولا الجهاد.

سواء اعترفت إسرائيل أم أنكرت، مسار الحرب الآن تغير، هجوم حماس الذى منحها «شرعية» للرد، لم يعد ذا صلة، وربما قد يدفع هذا الوضع إلى تأجيل العملية البرية أو جعلها محدودة قدر الإمكان، أو حتى إلغائها.

وفى الماضى حدثت حالات كثيرة من هذا النوع، أحيانًا بسبب قصف عرضى، وأحيانًا بسبب خلل فنى فى الأسلحة التى أطلقها سلاح الجو أو المدفعية باتجاه غزة، فى بعض هذه الحالات تمكنت إسرائيل من التوضيح، وفى بعضها نُشر اعتراف بالفشل.. هل تتذكرون شيرين أبوعاقلة؟ كانت الرواية الإسرائيلية الأولى أنها قُتلت بنيران الفلسطينيين، وبعد شهور وتحقيقات طويلة أعلنت إسرائيل عن أنها قُتلت بأيدٍ إسرائيلية.