رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المقاومة وأشياء أخرى

فى محاولات الباحثين لفهم حركات «الإسلام السياسى»، كانت هناك مدرستان كبيرتان.. مدرسة ترى لظهور هذه الحركات مبررات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وكأنها رد على ظلم ما.. على رأس هذه المدرسة الباحث الفرنسى الشهير «فرنسوا بورجا»، الذى عبّر عن وجهة النظر هذه فى كتاب شهير أسماه «صوت الجنوب».. وعلى العكس من وجهة النظر هذه، كانت هناك مدرسة أخرى ترى حركات الإسلام السياسى صنيعة لقوى غربية مختلفة صنعتها على عينها لأسباب ما، واستغلت ميلًا فطريًا لدى أتباعها للتطرف والعنف، وفرض الرأى على الآخرين.. فضلًا عن الفهم الخاطئ للقرآن الكريم والدين الإسلامى نفسه، وفهمه على أنه يدعو للعنف.. وهى أقرب للمدرسة الأمريكية، وإن كان منظّرها الرئيسى هو الباحث الفرنسى الشهير «جيل كيبل» مستشار الخارجية الفرنسية والأكاديمى ذو الأوجه المتعددة.. والحقيقة أننى خلال رحلتى البحثية الطويلة، كنت أميل لوجهة النظر الثانية لا الأولى.. وقد دعمت هذا وقائع تاريخية وتحليلات فكرية وخبرات شخصية.. لكن الحقيقة أننى لا أستخدم هذا التفسير فى التعامل مع حركات الإسلام السياسى فى فلسطين، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس.. حيث لا يشك عاقل أن الظلم التاريخى للفلسطينيين والاعتداء الدائم على حقوقهم، كان أحد مبررات ظهور حركات المقاومة الفلسطينية ذات الخلفية الإسلامية متأثرة بصعود الإسلام السياسى فى العالم.. وبالتالى فهذه الحركات رد فعل للاحتلال الإسرائيلى، وليست فعلًا، وهى تكتسب شرعيتها من التطرف اليمينى الإسرائيلى، وصعود التيارات الدينية داخل إسرائيل واحتلالها المزيد من المساحات فى المجتمع الإسرائيلى، وبالتالى أرى أننا يجب أن نستثنى حركات المقاومة الفلسطينية ذات الطابع الدينى من العداء والهجوم؛ ما دامت تلتزم بضوابط التعامل مع الدولة المصرية، وهى معروفة وواضحة.. ولا أرى أنه من الشرف أن يستغل بعض الإعلاميين أو المثقفين أو من يدّعون الثقافة، الحالة الملتهبة فى غزة للهجوم على فصيل فلسطينى لحساب فصيل آخر.. أو لتشويه حركة مقاومة لحساب تحالف بيزنس هنا أو هناك.. هذا رخص لا يليق بجلال الموقف وانتهازية لا تليق إلا بصاحبها.. أما إذا تعارضت مصلحة حماس أو الجهاد مع المصلحة الوطنية المصرية فساعتها يكون لكل حادث حديث، ولكل مقام مقال.. أما التطوع لتشويه حماس فى معمعة المواجهة مع إسرائيل، فهو سلوك غير موفق أشتم منه رائحة نفوس غير «حرة» تميل لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وحلفائهما فى المنطقة.. إن وجهة نظر مصر واضحة فى القضية الفلسطينية، وهى المطالبة بإقرار الدولة الفلسطينية الوطنية على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧، وحل الصراع بالتفاوض والطرق السلمية.. وبعد أن يخطو العالم هذه الخطوة الشجاعة والصعبة التى تأخرت كثيرًا يكون لكل حادث حديث، وتلعب مصر دورها فى ترشيد الخطاب الفلسطينى ودعم قوى الاعتدال داخله، وردع من يتطرف عن تطرفه.. علمًا بأن المبرر الأكبر للتطرف وهو «الظلم التاريخى للفلسطينيين» سيكون قد انتفى.. وبالتالى سيحدث تراجع تلقائى ونسبى أيضًا فى نفوذ حركات الإسلام السياسى المتطرفة.. إن السياسة تُشبه فى أحد أوجهها عالم الأحياء.. والطبيعة.. حيث يقوم كل منهما على فكرة التوازن الطبيعى والبيئى، فالقطط تلتهم الفئران، والكلاب تلتهم الثعابين... إلخ، وليس من مصلحة أى عاقل الإخلال بهذا التوازن البيئى الذى يقوم على توازن القوى وتنوع المصائر.. ويطبق المقولة الشهيرة «كل ميسر لما خلق له»، ولا أظن أن من مصلحة أى وطنى مصرى أن يشوه صورة المقاومة الفلسطينية- رغم كل خلاف- لصالح إسرائيل، بينما تبرم اتفاقات التطبيع بين الخليج والدول العربية مستبعدة مصر أحيانًا ومخططة لضرب قناة السويس شريان مصر الاقتصادى فى أحيان أخرى.. والعقل يقول إن على إسرائيل أن تتخلى عن تطرفها قبل أن يتطوع البعض للتخديم على المصالح الإسرائيلية والخليجية بالهجوم على هذا الجانب الفلسطينى أو ذاك.. هذا إذا كان الهدف هو المصلحة الوطنية.. أما إذا كان الهدف مصلحة أخرى شخصية أو مالية.. فذلك أمر آخر.. لا يستحق حتى عناء الالتفات له أو الهجوم عليه.. حمى الله مصر من المزايدين ومن المفرطين أيضًا.. فكلاهما شر يجب اجتنابه والبعد عنه والحذر منه.