رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صراع الإيرادات وتعميق النزاعات

يُعبر الصراع عن ظاهرة تنافسية شرسة يتزاحم فيها طرفان أو عدد من الأطراف للاستحواذ على منفعة، أو بلوغ هدف يسعى إليه الجميع ضمن دائرة تعارض المصالح وتضاد المنافع التى ينشأ فيها الصراع، ليعمل كل طرف على الوصول إلى أهداف مُتعارضة ومُتضادة، وكأنه تنازع على نفس الغاية فى الوقت ذاته.
يتعمق الصراع كلما اتسعت استراتيجياته بتعدد الأهداف وتباين الغايات وتنازع القيم، وقد لا يعطى أحد الأطراف الذى قد يكون الطرف الأقوى الفرصة للطرف الأضعف لبلوغ ما يرغبه، من منطلق الاستئثار بكل ما هو ممكن وتحييد الآخر. وليس ذلك فحسب، بل فرض نمط من القيم والمبادئ والتقاليد وحتى نماذج من السلوك قد لا يرتضيها الآخر.
الحرمان يتجسد فى الصراع كإحدى ركائز الصراعات التى تتجسد أبرز ملامحها عند ذروة نقطة تضاد المصالح وتنازع الاستراتيجيات، التى تظهر فى نقطة القطع التى يتعاظم فيها الصراع، وينتهى إليها التفاهم إلى طريق مسدود، ذلك لأن الصراع يقوم على الرغبة فى الحصول على الشىء نفسه الذى قد لا يتجزأ.
جسدت قصة ابنى أدم مشاهد تراتبية من تنازع الإيرادات، ضمن صور تعمق فيها الصراع بينهما، وانتهى بقتل هابيل لأخيه قابيل فى أبشع نماذج الصرعات، وأكثرها بيانًا لكسر الإرادة، وترسيخ الحرمان، استجابة لقاعدة اللذة والمنفعة والاستحواذ على الشىء، وحرمان الآخر.      
مفهوم السيطرة محور دائرة الصراع وجوهر حلقة التنازع، على مستوى الفرد كما هو فى الصراع النفسى الذى يُؤطر الفرد ويجعله رهينة لخلجاته ولأفكاره ونزعاته التى تتنازعها السوية والانحراف، وبمقدار التوفيق بينهما يحدث التوازن فى السلوك السوى أو السلطوى المسيطر أو المدمر، كما هو فى الحالة الهتلرية المتمثلة فى موجة طغيان الألمانى «هتلر» لسحق العالم ونشوب الحرب العالمية الثانية، وقتل نحو (50) مليون إنسان، أو تشريعات حمورابى التعسفية فى مجموعة قوانين بابلية بمنطقة ما بين النهرين «العراق»، والتى أسست للطبقية وقسمت المجتمع إلى ثلاث طبقات أسهمت فى تعميق الصراعات. 
الصراعات كما هى على مستوى الفرد فهى أيضًا على المستوى الجماعى الذى يحكمه الصراع على الموارد المادية كالمال والثروة والسلطة والملكية، أو المعنوية كالجاه والقيادة والزعامة والرئاسة. وبمقدار التوازن بين السلطة المادية وتملكها، والسلطة المعنوية واستغلالها تحدث المفارقات ويتجذر الصراع نتيجة لغياب التوازن والانسجام بين تلك المكونات، ويظهر دور الرموز الثقافية، ومفهوم «العدالة الاجتماعية» لتوجيه التجاذبات ومحاولة ضبطها.
الصراع فى باطنه وظاهره يعكس فن المجابهة لإمضاء الرغبة وفرض القيم، والسير قدمًا فى تعزيز القوة والجاه وكسب الموارد النادرة وبسط النفوذ وتعزيز التواجد على أبعد ما يمكن على سطح كوكب الأرض تحت مظلة مفهوم «الأمن القومي» للدول الذى من خلاله تُنفذ الاستراتيجيات وتُمرر الأجندات.
اهتمامات ورغبات أطراف الصراع لا تقف عند حد كسب المرغوب، ولكن تتعداه إلى جعل الضد أمام ثلاثة خيارات، خيار الحياد، أو خيار الإضرار بهم، أو خيار سحقهم، كما هى مشاهد الحرب المفجعة التى تشنها إسرائيل على قطاع غزة.
العلاقات الدولية محكومة برهان الصراعات وفرض الإيرادات، فى إطار ظاهرة اختلاف أهداف الدول القومية التى تُحدد سياستها الخارجية، ضمن أدوات ضبط إيقاع الصراع المتمثلة فى التهديد، والوعيد، والضغط، والدبلوماسية، والمساومة، والتفاوض، والاحتواء، والتحالف، مع احتمالية الصدام المسلح وإشعال فتيل الحرب.
للصراعات أعماق تاريخية أصلت بعض المفاهيم التى تحل أحيانًا كبدائل للدول لفرض الإيرادات وإدارة الصراعات، والتى منها التوترات التى تتحاشى العنف، لكنها تفضى إلى كسر العلاقات بين الأطراف. ومنها الأزمات التى تُعد مرحلة متقدمة من الصراع ترتفع فيها حدة التوتر فى شكل تأهب واستعداد يُنذر بالحرب. وتستمر الصراعات الدولية فى التصاعد حتى تصل إلى مرحلة الحرب بالدخول فى صراع دموى مُسلح بين طرفين أو أكثر يحمل أبعادًا متعددة من العنف والقتل والتدمير.     
إدارة الصراع الدولى له وسائله وطرقه وأدواته، وتأتى الدبلوماسية فى مقدمة سبل توجيه الصراع من خلال التمثيل الدبلوماسى بين الدول، والتفاوض، والضغط، والمساومة، والاحتواء، والتحالف. وتُشكل الدعاية بأنواعها البيضاء والسوداء والرمادية منظومة إدارة الصراع الخفية المعلنة المتخصصة فى صياغة وصناعة الرأى العام من خلال وسائل الاتصال الجماهيرى وفنون الإعلام التقليدى والجديد لكسب مشاعر الرأى العام وضمان تأييده، ثم تأتى الوسيلة العسكرية إذا ما فشلت الوسائل المرنة فى إدارة الصراعات، بحيث يتحول فيها التدافع إلى صراع مسلح وحرب شاملة لها تبعات مدمرة، تقود نتائجها إلى الوسيلة السياسية التى تعتمد المفاوضات، والمساعى الحميدة، والتوفيق، والوساطات، ولجان التحقيق، والمرجعيات القانونية، والتحكيم، والمحاكم القضائية الدولية. 
تعكس الصراعات مواقف تتضمن تعارضًا حقيقيًا وصريحًا ومعلنًا فى الأهداف والقيم ومصالح أطراف الصراع. وفى هذا السياق يُروج لاتجاهات قد تكون متطرفة تُشير إلى أن الصراع الطبقى هو القوة المحركة للتاريخ، وأن الاستيلاء على الثروات وقتل ملايين الناس بشتى الوسائل وبمختلف الطرق العنيفة والمرعبة، تُعد ضرورية للتقدم البشرى، وجوهرية لإحداث نقلة نوعية فيه، الذى بدوره يتجسد فى الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، ويظهر جليًا فى الحرب المعلنة الآن على قطاع غزة بتعميق الصراعات العربية الإسرائيلية، وتوسيع محيط الخصام، وتعميم صراع الإيرادات لجعل النزاعات فى استنزاف مستمر للثروات، له صبغة دولية مشرعنة للقتل والتخريب والتدمير.
الردع الإعلامى والحرب النفسية سياسة ممنهجة لإدارة وتوجيه الصراعات، تُرصد لها ميزانيات ضخمة، وتُوجه نحوها تقنيات وإمكانات وأموال طائلة لإدارة الصراع الإعلامى، والحرب الإعلامية والنفسية التى تُمهد للابتزاز، والحروب العسكرية وتستمر معها لرفع الروح المعنوية، وتظليل الخصوم، إلى جانب أهداف أخرى تتعلق بكسب الرأى العام المحلى والإقليمى والدولى وتوجيهه بما يُسهم فى دعم المعركة لصالح طرف ضد آخر.
أجاب الخليفة الراشد على بن أبى طالب «رضى الله عنه» عن ما سر أنك ما بارزت شخصًا إلا غلبته؟ فقال إذا استقبلت خصمى أيقنت أنى غالبه، وهو يُوقن بأنى غالبه، فأجتمع أنا ونفسه عليه فأغلبه. فى تصور للنسق الذى يجرى فيه إدارة صراع الإيرادات بأنه يستند إلى كسر روح الخصم المعنوية وتجريده من طاقته. 
الوطن العربى يمتلك طاقات هائلة بموقعه الجغرافى الاستراتيجى والجيوسياسى، والبحار والمضائق البحرية التى تحت سيادة دوله، وقوة الإسلام الناعمة، والطاقة المادية والبشرية، والخبرة القانونية والإدارية والسياسية فى الهيئات والمنظمات الدولية، ومكنته الاقتصادية، وسلاح وأدوات الإعلام التقليدى والجديد لمؤسساته الإعلامية. ومنظماته وهيئاته الجماعية والإقليمية، والقيم والأعراف والتقاليد، والتكوين الأسرى والعشائرى لمجتمعاته، والنظام الأمنى والدفاعى لمنظومة دوله، كل ذلك يُشكل كتلة قوة قد تُحدث فرقًا جوهريًا إذا ما استثمرت بمهارة لفرض إرادة عربية تجعل من الوطن العربى ذي بصمة عالمية فى اللعبة الدولية، ولاعبًا رئيسًا فى صراع الإيرادات وإدارة النزاعات الدولية التى تُفرض عليه، خاصة على أرض فلسطين التى آن لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تستثمر مشهد غزة كدولة تتصرف وتتحول بقيادتها نحو سواعد الشباب لإيجاد فروقات حقيقية فى مشهد الحرب والسلام لتعظيم مكاسب شعب فلسطين على كل محاور الصراع التى تُفرض عليه على أرضه، أو فى أماكن أخرى. من منطلق صراع القوى ضمن مفهوم أن الذئب يصرع الكلب وقد يقتله، لكن الكلب يحمى الغنم التى يحرسها من الذئب ويضطره للعودة جائعًا خشية أن يصيبه بجرح قد يُسقط قوته ويكسر هيبته بين مجاميع الأقوياء. أو سيبقى الوضع ضمن صراع إيرادات وإدارة نزعات دولية، فى إطار النظرية الصراعية «الصراع من أجل البقاء»، وقاعدة «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم».

خبير استراتيجي