رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ظلم» قديم!

أجلس أمام شاشات الأخبار وأقول «لقد شاهدت كل هذا من قبل».. ليس للأمر علاقة بظاهرة «ديجافو» النفسية التى تشعر فيها بأنك شاهدت الحدث قبل وقوعه.. ولكن له علاقة بأننى صرت كهلًا وأن الأحداث نفسها مكررة.. شنت إسرائيل حروبًا على غزة فى ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠١٤ وبينها متفرقات لا الفلسطينيين خلصوا ولا القضية انتهت ولا إسرائيل انتصرت.. أقرأ تصريح بلينكن، وزير خارجية أمريكا، الذى يقول فيه: «لم آتِ إلى هنا كوزير ولكن كيهودى تعرض جده للتعذيب فى المحرقة».. وأقول لنفسى هذا تصريح قديم جدًا جدًا عمره من عمر الحرب العالمية الثانية.. وهو يكشف مأساة التفكير الغربى فى الحق العربى.. لقد تعرض جد السيد بلينكن للتعذيب فعلًا ولكن هناك.. فى أوروبا.. على يد النازى الذى هو جزء من الحضارة الغربية.. لم تعذبه العجائز الفلسطينيات اللاتى أجبرن على مغادرة قراهن فى ١٩٤٨ ولم يعذبه فلسطينيو دير ياسين ولا حتى صبرا وشاتيلا.. هذا تصريح قديم جدًا عمره من عمر القضية نفسها.. يعتقد الغرب أن الفلسطينيين والعرب يجب أن يعوضوا عقدة الذنب الغربية تجاه اليهود.. هذا خطأ فى المنطق وفساد فى الاستدلال وخطل فى التفكير يصل إلى حد الجنون.. هذا الخطل فى التفكير يمنع الغرب وأمريكا من الضغط على إسرائيل لإيجاد حل عادل.. هذا الحل ليس اختراعًا ولا سحرًا ولا شعوذة.. إنه فقط تطبيق قرار الأمم المتحدة الصادر عام ١٩٤٨ بوجود دولتين على أرض فلسطين.. هذا الخطل فى التفكير يؤدى لأن تفرز المعدة السياسية الأمريكية غازات كريهة الرائحة مثل فكرة ممر آمن لأهل غزة فى سيناء.. إلى آخر هذا الهراء الذى رد عليه رئيس مصر بقوة ووضوح، وكان مكان الرد ومناسبته وتوقيته يشكل رسالة متكاملة لمن يريد أن يفهم ويعى.. تكررت حرب غزة وستتكرر طالما ينتخب الإسرائيليون سياسيين متطرفين يرفضون السلام ويصبون مزيدًا من الزيت على نار الكراهية كل يوم.. وستتكرر ما دامت إسرائيل عاجزة عن إنجاب حكام من طراز إسحق رابين يدركون أنه لا نجاة لإسرائيل سوى بمنح الشعب الفلسطينى حقه فى تأسيس دولته، وأن هذا هو السبيل الوحيد لتقوية الاعتدال الفلسطينى ومنح أهل غزة الحق الطبيعى فى علم ومطار وميناء يصلهم بالعالم بدلًا من حبسهم فى سجن كبير يجعل حياتهم والعدم سواء ويدفعهم للانتحار آخذين معهم أكبر عدد ممكن من سجانيهم الإسرائيليين أو بدلًا من محاولة إسرائيل رمى كرة اللهب التى أشعلتها فى حجر مصر بهدف تصفية القضية الفلسطينية وشغل العرب بالعرب وفق تفكير شيطانى قديم.. ستتكرر الأحداث طالما تتخيل إسرائيل بسذاجة مفرطة أن بإمكانها إخفاء «تراب فلسطين» تحت السجادة ودعوة أهل الخليج لحفل كبير يرقص الجميع فيه «الفالس» ويحتفلون بالتطبيع الإبراهيمى، بينما الفلسطينيون محبوسون فى البدروم يعانون الجوع والعطش وتعلو أصوات صراخهم لتغطى على الموسيقى ثم ينتهى الأمر كله بانفجار يموت فيه الضيوف والرهائن والمستضيفون معًا.. تكررت هذه الأحداث وستتكرر لأن تفكير اليمين الإسرائيلى تفكير ساذج ويواصل سذاجته حين يبنى خططه لمواجهة الموقف على مزيد من التطهير العرقى أو التفكير فى طرد أهل غزة أو إبادتهم أو تخويفهم ليغادروا بلادهم، فى حين أن الحل الواقعى الوحيد هو الحل الذى لم تجربه إسرائيل.. أن تمنح الفلسطينيين حقهم فى إقامة دولتهم على حدود ١٩٦٧ وأن ينالوا حظهم فى التنمية، وأن تكف عن تحويل غزة إلى سجن كبير وعن محاولات تهويد القدس وعن مضايقة أهل الضفة.. إن هذا هو الحل الوحيد الذى لم تفكر فيه إسرائيل منذ اغتيال إسحق رابين ١٩٩٥، وربما عليها أن تفكر فيه الآن بدلًا من التحركات التى لن تقود سوى لمزيد من الموت ولمزيد من التشدد من الطرفين.. إن كل فلسطينى تقتله إسرائيل قد أنجب عشرة أولاد قبل موته وكلهم يفكرون فى الانتقام له وينفذون ما فكروا فيه بالفعل.. إننى لا أقول إن هذا التفكير مثالى أو جيد ولكنه ما يحدث بالفعل.. على إسرائيل أن تستمع لصوت العقل الذى تمثله مصر وأن تستجيب للوساطة المصرية وإلا فإن كل هذه المشاهد التى رأيناها فى الماضى ونراها الآن ستتكرر فى المستقبل وكأننا نشاهد فيلمًا قديمًا أو «ظلمًا» قديمًا.