رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وصايا الشيخ الحصرى لعموم القراء

 تلح على خاطري منذ نحو أسبوعين أو أكثر سيرة فضيلة مولانا الشيخ محمود خليل الحصري، وقد تسأل معي عن سر هذا الحضور الطيب رغم أنني لم يكتب لي شرف لقاء الشيخ أو حتى معاصرته. إذ توفي شيخنا في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 80، وهو المولود في مثل هذه الأيام من شهر سبتمبر قبل قرن كامل وستة أعوام، أول من نادى بإنشاء نقابة لقراء القرآن الكريم، وأول من سجل المصحف المرتل برواية حفص، وهو أول من صدع بالأذان في مبنى هيئة الأمم. وهو الذي كرمته مصر بمنحه جائزة الدولة التقديرية من الطبقة الأولى عام 1967.
إنه شيخ عموم المقارئ المصرية الذي قال عنه فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت:"عرفته قارئًا مجيدًا يخشى الله في قراءته ويتبع السلف الصالح في طريقتهم في قراءة كتاب الله تعالى فما يحيد عنها قيد أنملة، ولا يبتعد عنها ما استطاع لذلك سبيلا، تملأ قراءته القلوب سكينة وأمنًا وطمأنينة، وتفتح أمام أعين سامعيه سبل الهدي والرشاد". وهو الذي قال عنه الشيخ الشعراوي إنه واحد من "أفضل من يحب سماع القرآن منهم لأنه دقيق في الالتزام بأحكام التلاوة" . 
 أقول إنني وجدت على حاسوبي الشخصي تسجيلًا صوتيًا لفضيلته في حديث إذاعي نادر لا أتذكر متى احتفظت به ولأي سبب. وتزامن هذا مع عثوري في مكتبتي الشخصية- وأنا أعيد ترتيبها- على نسخة من كتاب بعنوان "مع القرآن الكريم"، ألّفه فضيلة الشيخ الحصري، وصدر في سلسلة دراسات إسلامية ضمن إصدارات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية قبل سبع سنوات وأعدت قراءته بشغف وحب شديدين. كانت تلك النسخة هدية من السيدة ياسمين الحصري- قبل أعوام- أهدتني إياها بعد حوار أجريته معها، ولا أدري أيضًا لماذا اختصصت هذا الكتاب بإعادة القراءة- هذه الأيام- من بين مئات بل آلاف غيره.
 وهذا الكتاب ليس هو الوحيد الذي وضعه الشيخ، لكنه واحد من ثلاثة عشر كتابًا تجدها متاحة على موقعه الإلكتروني. وجميعها مؤلفات تتناول في معظمها علوم القراءات والروايات كرواية الدوري وقالون وأبي جعفر ويعقوب، وكتاب أخير سجل فيه ذكرياته عن رحلاته الخارجية. الشاهد أن محتوى كتاب "مع القرآن الكريم" والتسجيل الصوتي الذي احتفظ به لفضيلته يتحدث فيهما الشيخ عن رسالة  وقضية مهمة يصدح بها لا أقول منتقدًا بل ناصحًا غيره من القراء بمزيد من الاهتمام بالمعنى القرآني وتقليل الاهتمام بحلاوة التلاوة على حساب توصيل المراد من الآيات .
 ومن هنا قررت أن أذكّر قرّاء القرآن في زماننا هذا ببعض وصايا شيخهم ، لعل رسالته تصل للمقرئين الذين باتت تشغلهم حلاوة الصوت أكثر من أحكام التلاوة وأحكامها. فقد عرّف الحصري القارئ الماهر بأنه من يجتهد في تقديم تلاوة متقنة فيها تدبر وخشوع وجذب للمستمع إلى تدبر المعنى . وفي الحديث النادر الذي أجراه معه الرائد الإذاعي طاهر أبوزيد انتقد الشيخ هؤلاء القراء الذين يشغلون المستمع عن المعنى بالمبالغة في التطريب، وتمطيط الحروف وترقيص المدود والتوسع في الموسيقى. كما اعترض على أولئك الذين يدخلون قراءات متعددة في تلاوة واحدة فيشغلون المستمعين عن تتبع المعنى.
أما في الكتاب المشار إليه فإن شيخ القراء يأخذ على بعضهم الجور عن القصد والميل عن الجادة، والانحراف عن الصواب في تلاوة القرآن، ويحدد أكثر فيقول إنهم يقرأون من الآيات ما يوافق هواهم دون مراعاة للترتيب، ويعمدون إلى إعادة الآية وتكرارها بروايات مختلفة وقراءات متنوعة في المجلس الواحد، واصفًا ذلك بالبدعة المحدثة التي لم تؤثر عن السلف الصالح .
 وفي موضع آخر يوضح فضيلته المراد بلفظ التلاوة أنها التلاوة التي وصف المولى أصحابها بأنهم هم الذين يرجون تجارة لن تبور. فالتلاوة هنا ليست مجرد المرور على الكلمات وترديدها بالأفواه من غير تدبر ولا روية، وإنما هى التلاوة التي يصحبها تمعن وتدبر وينشأ عنها إدراك وتأثر وعمل بمقتضى القراءة.
  ويبين الشيخ كيفية التلاوة الصحيحة بأنها تلك القراءة التي تراعي تجويد الكلمات وتقويم الحروف وتحسين الأداء، وتوفية كل حرف صفته من غير تشدق ولا إسراف ولا تصنّع ولا اعتساف. إنها القراءة التي يعتني صاحبها بإبانة الحروف وإظهار التشديدات وتوفية الغنات، وإتمام الحركات، وتفخيم ما يجب تفخيمه، وترقيق ما ينبغي ترقيقه، وملاحظة الجائز من الوقوف والممنوع منها . 
 والسؤال الموجه لعموم مقرئي القرآن في زماننا هذا: أين أنتم يا أصحاب الفضيلة من هذه النصائح الغالية من شيخكم الجليل؟ وهل معظم ما نسمعه في المآتم وما نتابعه على وسائل التواصل من مقاطع للتلاوات يراعي هذه القواعد الأساسية في فن التلاوة ؟ وأين نقابة القراء من ممارسة حقها في تنبيه، بل ومجازاة من يثبت تجاوزه من بين أعضائها لأبجديات دولة التلاوة المصرية؟