رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر الآن.. شعبٌ يبنى.. رئيسٌ إنسان.. وجيشٌ شريف!

(1)

لستُ محترف سياسة ولا أدعى تخصصا فى علومها، لكننى أرى مصرَ كمواطن أتابع شئونها منذ الصغر وأتابع ما يجرى على أرضها وما يدور حولها.. تخطف عقلى قبل بصرى الأحداث الفاصلة والمشاهد المختلفة خاصة حين أضعها فى موضعها من باقى المشاهد والأحداث.. فى الأيام القليلة الماضية شاهدتُ مصريين يعملون فى صحراء مصر فى درجات حرارة لم يحتملها أحدنا أكثر من دقائق أو ساعة، بينما هم يعملون طوال النهار.. معدات تشق طريق أسوان أبوسمبل متجهة إلى مناطق العمل المختلفة، من إعداد للطريق الجديد الموازى للطريق الحالى، وفى الجانب الآخر وعلى مسافات بعيدة مواقع عمل خاصة بإعداد البنية الأساسية لخط السكك الحديدية المنتظر، بينما مواقع الاستصلاح الزراعى وكأنها تتمدد كل مرة آراها فيها..

ثم صدمتنا بقسوتها محنة ليبيا الشقيقة فتابعت تفاصيلها وتفاصيل الموقف المصرى، حتى كان المشهد الثالث الأمس السبت من محافظة بنى سويف.. يمكننى القول كمواطن أن هذه المشاهد الثلاثة هى مصر فى هذه اللحظة..

(2)

منذ سقوط نظام القذافى فى ليبيا والشعب الليبى الشقيق يتعرض لموجات متلاحقة من المحن بين قبلية صعبة الترويض، وأطماع خارجية دولية فى مقدرات الشعب الليبى تمثلت فى تدخلات عسكرية طامعة من دول كبرى، وأخرى من المفترض أنها إسلامية، وتحت غطاء من أخرى عربية.. مصر لم تكن غائبة عما يحدث هناك لحماية أمنها القومى ومساندة لحقوق الشعب الليبى ومقدراته واستقلال بلاده. فالسودان وليبيا دولتان شقيقتان لمصر فى التاريخ والمصير بخلاف أنهما تمثلان امتدادا طبيعيا لأمنها القومى. الحدود الغربية المصرية ومنذ فجر التاريخ شهدت أحداثا كبرى وثقها هذا التاريخ بجميع صفحاتها وبمختلف ألوان هذه الصفحات. والقبائل الليبية تتلامس عرقا وجوارا مع بعض القبائل المصرية وبينهم صلات تاريخية، ودائما كان هناك مصريون يعلمون فى ليبيا وكانت مواقف ليبيا مساندة لمصر. لذلك فألمُ مصر حين تلم بليبيا أى محنة هو ألمٌ حقيقى ومواقف مصر دائما ما تعبر عن شخصيتها وسياستها الخارجية الداعية للسلام والتنمية والتعاون بين الشعوب. 

رغم قسوة المحنة الأخيرة المتمثلة فيما خلفه الإعصار من آثار تدميرية حزينة وخسائر فى الأرواح والممتلكات والبنية التحتية، لكن دائما ما تمنحنا المحن درسا أو دروسا أو دلائل وقرائن لا يمكن أن نتركها تمر مرور العابرين! وهذا ما حدث مع المحنة الأخيرة. فلقد أسقطت هذه المحنة أقنعة كثيرة عن حكومات وشعوب، ومؤسسات ومنظمات دولية تعمل فى نطاق العمل الإنسانى. لقد كانت فرزا قويا بين دولة شريفة بشكل حقيقى، وبين دول تدعى الشرف والدفاع عن حقوق الإنسان ومساندة الشعوب المنكوبة، ولم تتوانَ هذه الدول عن تسيير بعض آلياتها العسكرية الكبرى منذ سنوات إلى ليبيا مدعية الدفاع عن حق الشعب الليبى فى ممارسة الديمقراطية! هذه الدول كانت دائما ما تستخدم جيوشها فى مشاهد مخزية ظاهرها الدفاع عن شعارات مثل حقوق الدول النامية فى الممارسات الديمقراطية والتخلص من أنظمة حكمها الوطنية تحت دعاوى أنها ديكتاتوريات، بينما تكون الغاية واضحة..غاية استعمارية صريحة للسطو على مقدرات هذه الشعوب من مصادر طاقة أو مخزون ذهب وعملات فى البنوك المركزية الوطنية، وحتى لم تسلم متاحف ومواقع الحضارة من مشاهد لضباط وعسكريين وهم ينهبون تلك المواقع! 

دول أخرى مسلمة أو عربية سارت فى ركب هذه الدول الكبرى وتعاملت مع ليبيا ومقدراتها وكأنها غنيمة تتصارع عليها الضباع، ولولا أن تدخلت مصر دبلوماسيا فى لحظات حاسمة بقوة لكانت قطعا الأوضاع هناك أسوأ مما هى عليه الآن..

منظمات دولية ظهرت بقوة فى مشاهد السطو على دول وشعوب المنطقة، وكانت دائما تقوم بدور البطولة فى مشاهد الإعداد والتحضير ومحاولة (تكتيف) الدولة المستهدفة تكتيفا إعلاميا وشعبويا عبر آلة إعلامية دولية مخيفة مستخدمة شعارات براقة عن اختراق حقوق الإنسان فى تلك الدولة وتتمسح بشعبها وتذرف من أجله دموعا صناعية صُنعت فى معامل مخابرات الدولة أو الدول الضباع التى تتهيأ للنهب والسطو المسلح! 

حين ألمت بليبيا المحنة الأخيرة تساقطت الأقنعة، ولم تهتم هذه الدول وجيوشها النهابة، ولم تهتم تلك المنظمات المستعمَلة حتى بوضع بعض مساحيق التجميل أمام كاميرات التصوير! اختفوا جميعا وتركوا ليبيا وشعبها فى محنتهم لمصيرهم. لقد فقدت هذه الدول وتلك المنظمات كل حياء ولم تعد تلقِ بالا لهؤلاء السذج حول العالم الذين ما يزالون يدورون فى فلك الشعارات التى انتهت صلاحيتها وأعلنت ذلك الانتهاء دول المنشأ ذاتها ومنظمات التوزيع القطاعى حول العالم!

(3)

لم يفاجئنى رد الفعل المصرى وتحرك القوات المسلحة المصرية تنفيذا لتعليمات القائد الأعلى لها الرئيس السيسى. فسلوك مصر فى هذه المحنة أو فيما كان يتعرض له قطاع غزة يتماشى تماما مع كلٍ من شخصية مصر التاريخية الحقيقية، ومع تاريخ قواتها المسلحة الشريفة، وأخيرا مع شخصية الرئيس المصرى جدا وحتى النخاع عبد الفتاح السيسى. لن أتوقف أبدا أمام تلك المحاولة - السمجة والرخيصة والمتهافتة والتى وأدها المصريون قبل تمام مولدها – التى حاولت التعريض بمشهد تفقد الرئيس للقوات المسلحة المشاركة فى عمليات الإنقاذ فى ليبيا قبل تحركها! 

موقف مصر المتمثل فى قرار الرئيس وتنفيذ القوات المسلحة المصرية له موقفٌ شريف فى زمنٍ ندر فيه الشرف فى مجالات السياسة الخارجية الدولية وممارساتها!

بمجرد وقوع المحنة فى ليبيا عقد الرئيس اجتماعا عاجلا مع قيادة القوات المسلحة المصرية وفى دقائق تم الاتفاق على إطلاق أكبر وأشرف عملية إنقاذ تشهدها منطقتنا ربما فى تاريخها كله. لم يكن الأمر مجرد تقديم غوثا من مواد غذائية وأدوية، لكن القوات المسلحة تعاملت مع الموقف كما تتعامل الجيوش مع كوارث تقع على أراضيها... جسر جوى أوله فى مصر وآخره فى ليبيا لنقل المساعدات وتعود طائراته حاملة معها المنكوبين. عمليات إنقاذ عسكرية فى وقتٍ قياسى لانتشال جثامين الشهداء من المصريين والليبيين وتسليم جثامين الشهداء لذويهم فى مصر فى أوقاتٍ قياسية. 

سقطت الأقنعة عن الجميع وأعلنوا أنه لا توجد معدات كافية قادرة على الوصول لبعض الأماكن المنكوبة، ووحدة الجيش المصرى أثبت شرفه وأنه يمثل حضارة شريفة.. تحركت وحدات الجيش المصرى برا وجوا وبحرا.. وصول المعدات برا فى أوقاتٍ قياسية شاملة الشاحنات والآليات وعربات الإسعاف والجرافات.. حركت القوات المسلحة بعض أهم القطع البحرية التى تمتلكها منها حاملة الطائرات المصرية ميسترال للسواحل الليبية ليستقبل مستشفاها العائم مئات من الأشقاء الليبيين! بينما نفذت القوات البحرية المصرية عمليات إنزال على شواطئ ليبيا لفتح طرق آمنة لإنقاذ الأشقاء العالقين. وفى غرب مصر قامت القوات المسلحة المصرية بتجهيز معسكرات إيواء قادرة على استيعاب عشرات الآلاف من المنكوبين من الأشقاء! 

عفوا هذه ليست عملية إنقاذ دعائية أو حتى عادية، بل عملية عسكرية كبرى قامت فيها قواتنا المسلحة بتقديم درس للعالم أن الجيوش الشريفة هى فقط من تستخدم مقدراتها لمنح الحياة دون أن يتقيد ذلك المنح بمكاسب سياسية! هذه العمليات التى نفذتها وتنفذها قواتنا المسلحة تقوم بها الجيوش فقط حين تتعرض بلادها لكوارث طبيعية.. بالأمس القريب كانت قوات مسلحة لدول عظمى وأخرى مسلمة تقوم بعمليات إنزال على الشواطئ الليبية لسرقة مقدرات الشعب الليبى!

لا يمكن أن تمر هذه المشاهد مرور العابرين على المصريين وعلى غيرهم أو يتم التعامل معها وكأنها مشاهد عادية..هذا فصلٌ جديد يتم إضافته لموسوعة تاريخ القوات المسلحة المصرية الشريفة وللدولة المصرية التى كانت دائما عبر التاريخ هى الملاذ الآن للجميع! على المصريين أن يرفعوا رءوسهم ويفخروا بدولتهم وقيادتها وقواتهم المسلحة التى أسقطت أقنعة دول وجيوش النهب أو المزايدة!

(4)

المشهد الثانى كان مشهدا مبهرا شهدته إحدى قرى محافظة بنى سويف يوم السبت.. وشهدته معها مصر كلها.. لا أتفق إطلاقا مع ما حاول يروجه البعض خبثا وهو أن مشاهد يوم السبت هى بدء الحملة الانتخابية للرئيس، لأن فى هذا الادعاء ظلما بينا للرجل.. فهذه المشاهد ليست إلا حلقة فى مشاهد بدأت منذ العام الأول لتولى السيسى حكم مصر وستستمر حتى اليوم الأخير له فى الحكم. فهذه القرية وهذه الوحدات السكنية التى قدمتها مصر لبعض أبنائها ليست إلا عدد قليل من أكثر مليون وحدة سكنية قامت مصر بإهدائها للأسر الأقل دخلا والأكثر حاجة. ومشاهد الرئيس الإنسانية التى تابعناها ليست إلا تعبيرا ليس بجديد عن شخصيته الحقيقية.. فهو رئيس مصرى حتى النخاع.. ينتمى للطبقة المصرية المتوسطة بمعناها الحقيقى الأصيل. ينتمى للمؤسسة الأكثر إخلاصا وتجردا وانتماءً.. رأيناه كثيرا مع أبناء الشهداء فى أيام الأعياد.. رأيناه كثيرا يقوم بما يطلق عليه المصريون (جبر الخواطر) مع الأكثر احتياجا أو الأكبر سنا أو الأطفال ذوى الهمم، وما زلت أحتفظ بهذا المشهد مع بعضهم وهو يحاول أن يلقى كلمة فتمنعه إحداهن فينتظر حتى تمنحه هذه الطفلة البريئة الفرصة ولا يستطيع كتم ضحكاته من ردة فعلها الملائكية، أو جبر خاطر عروس فى أقصى الجنوب حين تعرضت قريتها ومعها أثاث زواجها لكارثة طبيعية.. ورأيناه حاضرا فى أعياد المصريين المسيحيين مطبقا مبدأ المواطنة بشكل حقيقى. هذا الرجل منا تماما ويمثلنا تماما ويمثل الشخصية المصرية الأصلية والأصيلة.. نعم لهذا السبب أنا أحب هذا الرجل بشكل شخصى وبعيدا عن مفردات السياسة وما قدمه ويقدمه لمصر.. أحب مصريته وإنسانيته وجبره لخواطر من يستحقون فعلا جبر الخاطر.. أحب فيه إنسانيته وتأدبه الجم مع الجميع وأحب أنه يشبهنا جدا! 

مشاهد قرية محافظة بنى سويف (سدس الأمراء) اشتملت على قرارات تخص الطبقات الأكثر تأثرا بالظروف الاقتصادية فى ربوع مصر.. ثم شملت جولته فى القرية زيارته لأسرة مصرية واستجابته البصرية وتفاعله البصرى وحركات يده مع تفاصيل ربما لم يلحظها غيره من المتواجدين..تلتقط عيناه مشهد طفلة صغيرة من بين الجموع وهى تبكى فيتعامل معها بأبوية اختطفت قلوب الجميع.. من التفاصيل التى ربما لم يلحظها كثيرون حديثه مع المسنة المصرية..وجهٌ نعرفه جميعا فى بيوتنا.. امرأة مسنة تحاول أن تقبل يده.. تماما كما تحاول جداتنا تقبيل أيادينا فنتجنب ذلك تأدبا.. كان الرئيس منتبها ومتحفزا بأدب ألا تفعل المسنة المصرية ذلك وقد حاولت تكرارا لكنه أمسك يدها وقبلها..

عفوا فأنا أحب دائما وضع المشاهد المماثلة وجها لوجه.. منذ سنوات ليست بعيدة جدا.. عاصرنا فى مصر كوارث كثيرة.. أكثرها ألما.. واقعة صخرة الدويقة، واحتراق قطار الصعيد، وغرق الباخرة سالم إكسبريس، وتفجير مبنى الكاتدرائية يوم عيد رأس السنة.. لو وضعنا ردة فعل الإدارة المصرية وقتها وجها لوجه مع ما نراه من السيسى وآخره ما حدث فى ليبيا، وفى كارثة سيول أسوان، وسكان العشوائيات.. حين نفعل ذلك ما هى نتيجة المقارنة؟! أترك الإجابة للتاريخ ولضمير من عاصر كل هذه المشاهد!

(5)

رغم ما قدمه الرجل فى سنوات حكمه العشرة، ويشهد به كل ذى ضمير، لكنه فى حديثه مع المصريين من محافظة بنى سويف عبر عن امتنانه للمصريين لأنهم تحملوا مصاعب الظروف الاقتصادية ووصف ذلك بأنه جبرٌ لخاطره هو شخصيا! هذا ليس حديث سياسة، لكنه حديث إنسانى من رب أسرة يدرك ما يمكن أن يشعر به رب أسرة مصرية فى مواجهة هذه الأزمات الاقتصادية.. لو كان حديث سياسة مجردا من تلك المسحة الإنسانية، لما قال هذه العبارات! لأنه حين تولى أمر الحكم فإن مصر لم تكن فى حالة ازدهار اقتصادى، وأعتقد أننا الآن قد نضجنا بما يكفى لندرك أن الأسعار السائدة وقتها لم تكن أسعارا حقيقية وإنما كانت وهما كبيرا وثمنا للخراب الذى حل بكل مرافق الدولة وثمنا باهظا لترك كل الملفات المشينة تتراكم وتتضخم حتى انفجرت فى وجوه الجميع وكادت تعصف بالدولة ذاتها! ساعتها أعلن عن تنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادى وأعلن أننا سنبدأ فى تنفيذه على مراحل وأننا لا بد وأن ندفع جميعا ثمن إنقاذ بلادنا التى لم يكن هناك سبيل لإنقاذها سوى الإصلاح الاقتصادى القاسى والبناء والتنمية! سجلت مصر معدلات تنموية قوية حتى وقعت كارثة كوفيد وانهارت اقتصاديات دول كانت وقتها مستقرة ولا تخوض لا فترات انتقالية ولا حروب عسكرية. 

كان يمكنه وقتها أن يوقف كل مشاريع وخطط التنمية والبناء، لكنه استمر ومازلت أتذكر جيدا تفقده لمواقع العمل مرتديا كمامة فى مشهدٍ فريد، ولا أبالغ إن قلتُ أنه – وفى فترة تخطت العام - ربما كان الرئيس الوحيد الذى ينزل إلى الشارع ويتفقد مواقع العمل فى مشروعات البنية والإنشاء ومتفقدا أحوال العمال ومتأكدا بنفسه من توفير أسباب الحماية الصحية لهم! لو لم يفعل ذلك وقتها لانهار الاقتصاد المصرى تماما ولذهبت الخطوات التى كنا قمنا بها بالفعل فى طريق الإصلاح الاقتصادى أدراج الرياح! هذه هى الحقيقة.. لولا تشبثه بالاستمرار لانهارت مصر اقتصاديا بعد أزمة كوفيد..

ثم بعدها وقبل أن يلتقط العالم أنفاسه لاحت كارثة حرب روسيا أوكرانيا..ومصر تحديدا وبسبب الزيادة السكانية الرهيبة واعتمادها على استيراد نسبة من استهلاكها من القمح كان يمكنها أيضا أن تعانى من أزمة غذاء عنيفة لولا ما قام به من مشروعات زيادة فى مساحات الأرض الزراعية خاصة ما زرِع منها قمحا! هذه حقيقة أخرى يحاول البعض أن يتجاهلها! مشاريع الطاقة التى قرر الخوض فيها أنا أعرف عنها الكثير، لكننى أكتفى هنا بالحقائق المعلنة للجميع، وبأنها كانت حتمية وجوبية ليس فقط لسد الاستهلاك، لكن لأنها كانت جزءً من الحرب التى كانت تخوضها مصر..ولولا انتصارها فى تلك الحرب تحديدا لكانت تعانى الآن من إيجاد طاقة لتشغيل المستشفيات والأماكن ذات الطبيعة الحيوية والاستراتيجية وليس فقط لإنارة المنازل وتشغييل تكييفات المصريين! حقائق راسخة ساطعة لمن كان له ضمير!..لكن الرئيس فى حديثه مع المصريين تجاوز كل ذلك وتحدث بمنطق إنسانى بحت..رب أسرة مصرى يشعر بما عاناه المصريون ويهدهد على هذه المعاناة ويشكرهم على صبرهم وتحملهم!

(6)

منذ أيام جمعنى نقاش مع صديقة مصرية مهتمة بالشأن العام وأبدت تخوفها مما سيحدث فى الانتخابات الرئاسية القادمة، ولقد كانت فى تخوفها هذا متأثرة بما تسمعه وتقرأه عن وممن يسمون أنفسهم نشطاء سياسيين أو دعاة الحركة المدنية، أو حتى العملاء الذين قرروا أخيرا إلقاء الأقنعة جانبا وإعلان نواياهم بصراحة ووضوح وأنهم ليسوا سوى أسنة رماح لما ألقت بهم مصر فى سلة مهملات التاريخ منذ عقدٍ من الزمان! كان هذا النقاش قبل مشاهد الرئيس يوم السبت..ولقد نقلتُ إليها وجهة نظرى المطمئنة لما سوف يحدث فى مصر وقت الانتخابات الرئاسية القادمة..لم تكن وجهة نظرى تلك اشتغالا بالسياسة، أو تنبؤا بغيب لا يعلمه إلا الله! إنما كانت وجهة نظر مواطن يتابع بشغف ما يحدث فى مصر منذ الصغر، وقطعا أتابع جيدا ما يحدث فى مصر فى العقد الأخير..وهنا أستدعى المشهد الثالث الذى يصوغ مصر الآن وغدا! 

الشعوب – العريقة منها بوجه أخص – تمتلك بوصلة صادقة! مهما كانت المآخذ، ومهما كان العبث بعقولها، ومهما تعرضت له من خداع أو تبوير عقلى وحضارى فى عقودٍ سابقة، لكن يتبقى لهذه الشعوب خيط رفيع ممتد عبر القرون يربطها بأصلها العريق وإرثها الحضارى، وينير لها الطريق فى لحظات الحسم التاريخية الفاصلة! وما حدث فى مصر منذ عام 2011م وحتى 2013م ليس ببعيد! فبعد عقود من العبث بعقول المصريين وبعد أن اصطف – نتيجة هذا العبث – أكثر من اثنى عشر مليونا منهم فى طوابير الانتخابات لينتخبوا منظمة تكفيرية خائنة طوال تاريخها لتحكم مصر، بعد هذا المشهد بحوالى عام انتفض المصريون ليكفروا عن خطيئتهم الكبرى ويحاولوا تصويبها وإدراك بلادهم وأنفسهم! هذا الركض لتصويب تلك الخطيئة لا يمكن أبدا أن يكون استجابة لأية دعايات وقتية ساعتها لأن كثيرا من المصريين كانوا بعد تيه عامين قد فقدوا الثقة فى معظم المؤسسات الدعائية، وأعادوا تنشيط ذلك الخيط الرفيع والشريان الذهبى الذى استدعى إلى عقلهم الجمعى إرثهم العتيق..فلاذوا بالمؤسسة الأعرق والأكثر احتراما وثقة لديهم لكى تكون لهم سندا فى تصويب خطيئتهم! ما حدث لم يكن إلا تفعيلا لتلك البوصلة الشعبية التى لا يمكن أن تخطىء الطريق طويلا فى لحظات الفرز الفارقة!

(7)

انطلاقا من هذا وانطلاقا مما حدث فى مصر فى الأعوام العشرة الماضية أصوغ رؤيتى هذه. لن يحسم أي انتخابات رئاسية قادمة أىٌ من هؤلاء الدعاة والنشطاء، أو حتى العملاء الجدد أو القدامى! وأنا هنا لا أتهم دعاة الحركة المدنية أو نشطاء السياسة بالعمالة، وأفرق بينهم وبين آخرين عملاء واضحين للجميع، ومنهم – وصفا وليس اسما – أى شخصية سوف تحاول تسويق إعادة جماعة تكفيرية عميلة للمشهد السياسى! من حق أى تجمع سياسى شرعى أو كيان حزبى شرعى أو نشطاء يتمتعون بشرعية قانونية ودستورية أن يعبروا عن آرائهم وأن يخوضوا ما يشاءون من معارك السياسة طبقا للقانون والدستور المصرى! لكن المصريين الذين يقومون ببناء بلادهم الآن هم فقط من سيحسمون أي مشاهد انتخابية قادمة! هذا يقينى! الذين يعملون فى قيظ الصحراء للبناء والتشييد أو استصلاح الأراضى أو شمس الغيطان أو فى ضجيج المصانع التى دشنتها مصر فى العقد المنصرم، هؤلاء من سيدافعون عن بلادهم عبر صناديق الاقتراع! لن أقول (المستفيدون من مشاريع الخدمات) هم من سيحسمون أي معركة انتخابية، لأن مصر حين قامت بذلك فقد قامت به لإدراكها أن هذه حقوق المصريين ولم تتعامل مع أبنائها بمنطق المن أو الرشاوى الانتخابية كما كان يحدث سابقا.. فهذه الملايين المستفيدة والتى تغيرت مفردات حياتها سوف تُعمل ضميرها لحظة الاختيار، فإما أن يكونوا قد نضجوا بالفعل ويتمنون لأبنائهم مستقبلا أفضل، أو أن يكونوا لم يبرأوا بعد من توابع العبث بعقولهم!

لم تعد تقلقنى فكرة يوم الاختيار الذى سوف يختبر ما وصل إليه المصريون عقليا وتوعويا، استنادا إلى ما أراهن عليه من البوصلة الشعبية التى تمتلكها الشعوب ذات العراقة والأصل! أقول هذا رغم يقينى بأن المصريين لم يزل أمامهم طريقٌ طويل جدا حتى يصلوا لهذا التغيير الذى أحلم به بلادى، لكن المهم أن نكون قد وضعنا أقدامنا على بدايته..

هذا هو المنطق.. لا استعجال فى أى تغيير منشود لشعبٍ بعراقة شعب مصر..لا تقفز الشعوب قفزات غير منطقية إلا إذا تبعها قفزاتٌ أخرى أيضا غير منطقية ربما تعود بهم سنوات للخلف! لذلك على الحالمين لبلادهم بالتغيير العقلى الكبير أن يصبروا على بلادهم وشعبهم، وأن تكون طموحاتهم منطقية.. خطوات لا بد من اتباعها.. مصر بدأت بالفعل أولاها عام 2013م، ثم بدأت خطوات أخرى تسارعت أحيانا وتباطأت أحيانا، لكن المهم ألا تتوقف!