رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصريات على الجبهة.. قصص وحكايات نساء مصر البواسل في حرب أكتوبر

نساء مصر البواسل
نساء مصر البواسل في حرب أكتوبر

في أكتوبر 1973، تحولت أرض مصر إلى ساحة معركة تشتعل فيها نيران الحرب وتتلاقى أصوات البنادق والمدافع، ولم يكن النضال والمقاومة ومحاولات النصر مقتصرة على الرجال فقط من الجنود، إنما شاركت النساء أيضًا بكل شجاعة وإخلاص في الدفاع عن وطنهن المحتل.

كانت مشاركة النساء في حرب أكتوبر إشادة لا تقدر بثمن بشجاعتهن وإصرارهن وتضحياتهن، إنهن قدوة للأجيال القادمة، ودروسًا حية في الإرادة والتحدي وقوة الروح الإنسانية، وتظل قصة نساء حرب أكتوبر خالدة في ذاكرة الأمة، تروي لنا عن عزيمة النساء وتفانيهن في الدفاع عن الوطن والحرية.

وتخليدًا لذكرى بطولاتهن بعد مرور 50 عامًا على انتصارات حرب أكتوبر المجيدة، نروي في السطور التالية بعضًا من تلك القصص التي ضربت مثلًا في الشجاعة والوطنية.

فرحانة وتفجير قطار الإسرائيلين

أول قصة كانت في مدينة الشيخ زويد، حيث جاءت السيدة فرحانة حسين، المحاطة بأبنائها الأربعة، لكن كل شيء تغير في لحظة قدرية حينما اجتاحت إسرائيل أراضي سيناء في نكسة عام 1967، حيث قررت ترك سيناء تاركةً منزلها وحيها الذي تعلّقت بهما ذكرياتها الجميلة، وبدأت رحلتها نحو القاهرة واستقرت في منطقة إمبابة، حيث انضمت إلى منظمة سيناء العربية التي أسستها الحكومة المصرية لتنظيم المقاومة.

وارتدت "فرحانة" ثوب الجندي المقاتل، وبدأت تتلقى التدريبات العسكرية حيث كانت تستغل عملها في تجارة القماش لتنقل القنابل وتزرعها في أماكن استراتيجية، فقد كانت تسعى لتهديد العدو وإلحاق الأذى به، أيضًا كانت تنقل صورًا ووثائق مهمة للمقاومة، تكشف عن نوايا إسرائيل العدائية، مثل بناء مطار في قرية الجورة المحتلة.

وكانت أولى عملياتها البارزة تفجير قطار عسكري للعدو في مدينة العريش، حيث كان يحمل معدات وبضائع تعزز قوتهم، فقد زرعت القنبلة ببراعة قبل وصول القطار، وانفجرت بقوة مدمرة، تاركةً خلفها دمارًا شاملاً، ثم توالت العمليات الجريئة، حيث استهدفت سيارات الجنود الإسرائيليين في صحراء سيناء، حتى أصبحت رمزًا للمقاومة والقوة.

المفاجأة في قصتها أن أهلها لم يعلموا حقيقة ما تقوم به، فقد جعلتهم يعتقدون أنها تعمل في تجارة القماش لتأمين احتياجاتهم، ولم يكونوا يدركون أنها تخاطر بحياتها لتدافع عن كرامتهم وتحرير أرضهم المحتلة.

بعد انتهاء حرب أكتوبر، وبعد أن تحقق النصر وتحرير سيناء، تم تكريم "فرحانة" على الدور البارز الذي قامت به، وحصلت على نوط الامتياز من الطبقة الأولى، وذلك تقديرًا لتضحياتها وإسهاماتها في استنزاف العدو قبل بدء حرب أكتوبر المجيدة.

السيدة فرحانة حسين

"فاطوم" والدجاجات اللذيذة

ومن سيناء إلى محافظة السويس، تبرز قصة سيدة مصرية شجاعة لا تقل وطنية عن "فرحانة"، هي السيدة "فاطوم"، التي لم تكن لديها أي شيء للتضحية به، فلم تكن لديها إمدادات غذائية كافية، ولا مأوى مريح يحميها من قسوة القصف المتواصل والأوضاع الصعبة التي عاشتها مدن قناة السويس خلال فترة حرب الاستنزاف، ومع ذلك لم تنحنِ عن تقديم مساعدتها ودعمها لرجال المقاومة المصرية في السويس.

وفي يومٍ من الأيام، قررت تقديم يد المعونة إلى رجال المقاومة البواسل، فبالرغم من نقص الإمدادات وصعوبة الوضع، قررت أن تذبح 10 دجاجات لتقديمها كهدية لأبطال السويس، وذلك لعلمها أن هذا العمل البسيط قد يعزز حماس وروح المقاومة لدى الرجال، لذا أعدت الدجاجات بعناية فائقة.

ومع مرور الوقت، انتشر الخبر عن هذه المفاجأة اللذيذة التي أعدتها السيدة "فاطوم"، تناقلتها الألسنة وانتشرت بسرعة بين صفوف المقاتلين، وعندما وصلت أخبار هذا العمل إلى أذن الرجال، تجمعوا حول الطعام بابتسامات عريضة على وجوههم المتعبة، أيضًا كانت تهتم برعاية المقاتلين الجرحى، فقد كانت تجلس بجوارهم وتضمد جراحهم وتخفف عنهم ألم الجراح وتمنحهم الأمل في الشفاء العاجل.

أرشيفية

فلاحة فايد والتمويه بصغيرها

ننتقل بعد ذلك إلى محافظة الإسماعيلية، حيث تعيش فلاحة فايد التي كانت لها دورًا بارزًا في نقل المعلمومات المهمة عن العدو الإسرائيلي إلى المقاومة الشعبية، حيث كانت تترصد أماكن تمركز الآليات العدو والمجنزرات بدقة لتنقل معلوماتها إليهم.

ولم تكتفِ بالمخاطرة بروحها فحسب، بل أخذت ابنها الصغير معها في رحلاتها، فقد كان يجلس الصبي الشجاع على كتفها، متخفيًا وراء ظلام الليل، ليكون شريكًا في النضال والتمويه، كما قامت بعمليات استطلاع غير مسبوقة، حينما تجولت في أعماق الأراضي المحتلة، وعينها ترصد كل تحركات العدو، ولكن لم يكن هذا كافيًا بالنسبة لها، فقد طلبت قنابل وأسلحة تدمر دبابات العدو، لتضرب بقوة في قلب الاحتلال وترسل رسالة قوية من الصمود والتحدي.

أرشيفية

فوزية تخدع وحدات جنود التفتيش الإسرائيلية

نعود مرة أخرى إلى نساء سيناء المجاهدات ضد العدو الإسرائيلي، حيث تتجلى حكاية فوزية محمد أحمد الهشة، وتنطلق قصتها في أعماق الصحراء، حيث يعيش الشيخ محمد الهشة، ابن عمها، الذي كان حلقة الوصل بين "فوزية" ورجال المخابرات الذين قاموا بتدريبهما، فقد تولى توصيل الرسائل من القاهرة وتسليمها للقادة في سيناء بسرية تامة، وبالرغم من بساطة الطرق التي استخدموها، إلا أن وحدات جنود التفتيش الإسرائيلية فشلت في اكتشافها.

ولم تكن "فوزية" وحدها في تلك الخطوات الشجاعة بل شاركها زوجها الشيخ سعيد أبو زرعي، الذي كان ينفذ عمليات فدائية ضد الجيش الإسرائيلي، وكانت مهمتها حمل الرسائل والمفرقعات وتهريبها عبر قناة السويس على متن قوارب بسيطة، لتصل بها إلى العريش وسيناء، حيث كانت تنطلق من عين شمس في القاهرة، وتستعد للانتقال إلى السويس، ثم تستخدم اللنش لعبور القناة، حيث تلتقي المجاهدين الشجعان وتسلمهم الرسائل والمفرقعات، ومن ثم يتولون توصيلها بأساليبهم الخاصة إلى رجالهم في العريش، لاستخدامها في العمليات الفدائية.

ولها قصة أخرى عندما قامت بتوصيل جهاز اتصالات لأحد رجال المقاومة في العريش، وبعد عشر دقائق فقط من مغادرة الرجل منزله وهو يحمل الجهاز، اقتحمت القوات الإسرائيلية منزله وقامت بتفتيشه، لكنهم لم يجدوا شيئًا. بالفعل، فقد كان الله معهم في كل خطوة، وساعدهم في التغلب على الإسرائيليين في أصعب المواقف..

ولإيمانها أن ما تقوم به سيضمن لأولادها حياةً مستقلة عن العدو الإسرائيلي، فقد أمضت أيامًا طويلة بعيدة عن أولادها السبعة، الأربعة أولاد والثلاث بنات، وذلك حبًا للوطن، ولإيمانها بأهمية دورها في المقاومة وتضحياتها من أجل حرية بلدها.

وفي حوار معها، أكدت أنها رغم كونها من قبيلة الريشات إلا أنها لم تجد أي صعوبة أو اعتراضات من مشايخ قبيلتها للخروج للجهاد، لتقديرهم قيمة الدفاع عن الوطن وأنه واجب على الرجال والنساء، مستدلة على اكتشافها جنديًا مصابًا كان صعيدي الأصل بجروح خطيرة في ضواحي العريش، فحملته إلى منزلها لمداواته وتعاون معها كل أفراد حتى شفي من جراحه واستعاد عافيته.

بدو سيناء

"وداد" وإسعاف الجرحى في عمر السادسة عشر

لا تكف سيناء عن ولادة المناضلين والمناضلات، فقصتنا التالية هي عن وداد حجاب التي لم تتجاوز السادسة عشرة عندما بدأت رحلتها في عالم النضال، بعدما استيقظ وعيها لشغف الحرية والدفاع عن أرضها المغتصبة، فقد فتحت صفحة جديدة في قصتها الشخصية، عندما اكتسبت مهارات الإسعاف والعلاج الأولي، وتعلمت كيفية معالجة الجروح من أطباء متخصصين، وحينما تصاعدت نيران الحرب في أكتوبر 1973، لم تتخلَ “وداد عن إرادتها، بل تركت منزلها في وسط العريش بعدما حاصرت النيران كل مدن و قرى شمال سيناء والطرق المؤدية للعريش للانضمام إلى المستشفى العام، حيث كان الأطباء يحاربون الألم والظروف القاسية.

كانت أبلة "خديجة"، المعلمة الوطنية المثالية التي تلهم الفتيات في مدرسة العريش الإعدادية روح المقاومة والرفض للظلم والاحتلال، وفي ظل غياب الكهرباء والمياه، كانت حالات الإصابة تتفاقم، فاضطرت الفتيات والبدويات للتناوب في تمريض الجرحى، وبعد إعلان حالة الطوارئ، ظلوا بعيدين عن منازلهم لأشهر عدة، ولكن بعد فترة، سمحت القوات الإسرائيلية للمتطوعات بالخروج من المستشفى شريطة ارتداء زي التمريض الأبيض والعودة لعائلاتهن.

وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر هبّت عواصف التظاهرات الجارفة في سيناء، وهم يرتدين اللباس الأسود، كانوا ينادون بالحرية والعدالة، وفي وقت لم تتمالك فيه “وداد “ نفسها، انطلقت بسرعة مهاجمة مقر القوات الاحتلال الإسرائيلي في العريش، وكانت تحمل راية الحرية وتصيح بشجاعة، لقد حان وقت الانتفاضة، والجميع انضم إلى الصفوف، بدءًا من الأطباء والممرضات وصولاً إلى الشباب والشيوخ.

وواجهت “وداد “ العديد من التحديات والمخاطر خلال رحلتها في المقاومة، وتعرضت لهجمات القوات الإسرائيلية والقناصة، وشهدت مآسي وألم الحرب، ومع ذلك، لم تتراجع ولم تستسلم، بل استمرت في القتال والعمل الإنساني والدفاع عن حقوق شعبها.

وتحولت مدينة العريش إلى معقل للمقاومة، وكانت “وداد “ واحدة من رموزها البارزة، حيث تمكنت من تنظيم النساء المتطوعات في مجموعات صغيرة للمساعدة في تأمين الإمدادات والرعاية الطبية للجرحى والمحتاجين، وكانت تعمل بجد وتخاطر بحياتها لإنقاذ الآخرين وتخفيف معاناتهم.

وبعد سنوات من المقاومة، تمكنت “وداد “ ورفاقها من أهل العريش من تحرير أجزاء من أرضهم، لكن النضال لم ينتهِ بعد، واستمروا في العمل من أجل استعادة كامل حقوقهم وتحقيق العدالة.

وداد حجاب

فهيمة والفدائي

بطلتنا الأخيرة هي سيدة بدوية امتازت بالشجاعة والمثابرة، وهى السيدة "فهمية"، التي كانت قصتها أنها حملت جهاز اللاسلكي المتنقل الذي يربطها بشبكة الاتصالات، حيث عملت في منظمة سيناء العربية، ولكن دورها يتجاوز حدود المكتب والملفات الورقية، فهي أيضًا ناقلة التموين للأفراد الذين يعملون خلف الخطوط، حيث تجول بين الجبال والوديان، تحمل على ظهرها مؤنهم وتضعها في متناول أيديهم، ولا تعرف الملل أو الخوف.

ولم يقتصر دورها على الخدمات المادية، بل تعدت حدود العمل الميداني، ففي لحظات الشدة والمحنة، قررت أن تكون رمزًا للتضحية والبطولة، حيث استضافت أحد الفدائيين في منزلها، وبنت له حفرة عميقة في الأرض، ثم غطتها بأكوام من الحطب لتخفيه وتحميه وكانت تزوده بالطعام والشراب، وتنقل له المعلومات المهمة التي تساعد القوات المسلحة المصرية في مواجهة العدو.