رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حفنة "جروبات".. لكل مواطن!

فوجئت مثل ملايين المصريين بكوني عضوًا في عشرات الجروبات على الواتساب..
ورغم ما يسببه هذا لي ولغيري من تشتيت ذهني على مدار اليوم.. وما يبدو إهدارًا للوقت.. إلا أنني أرى في العديد من هذه الجروبات مرآة صادقة لجوانب عديدة في الواقع المصري.
- بعد عقود من الحرمان من التعبير عن الذات .. بسبب محدودية وسائل الإعلام من  صحافة وراديو وتلفزيون، والتي لا تتيح فرصة الظهور إلا لبضعة آلاف، وربما فقط مئات.. من بين عشرات الملايين من المصريين ..أتاحت السوشيال ميديا الفرصة لأناس مغمورين ليس فقط للظهور .. بل أن يكونوا أصحاب مواقع وجروبات..أن يكونوا رؤساء تحرير ..أن يكونوا طارق حبيب وسلوى حجازي وسمير صبري ومصطفى محمود!!! بل بلغت شراهة بعضهم للنجومية.. أن أطلق كل منهم العديد من "الجروبات " تحت مسميات مختلفة.. رغم أن ما ينشر في تلك الجروبات وغيرها يكاد يكون متماثلا!!
- بسبب كبت السنين- والذي قد يعزى أيضًا لأسباب سياسية، استغل هؤلاء المكبوتون  الفرصة لأن يقولوا.. وما يقولونه قد يستغرق اليوم كله.. لنواجه ما يشبه "الانفجار  التعبيري"..الذي من المستحيل متابعته!!!
- إن هذا الانفجار كشف عن قصور في الوعي الديني.. حيث كما يلاحظ فيما ينشر على الجروبات تم زنزنة الإسلام في أدعية وأذكار وطقوس. ولا شيء عن أحد أهم أعمدة الدين: السلوكيات والمعاملات.
- كشف أيضًا عن تغلغل الفكر السلفي البدوي في شرائح عديدة من المجتمع.. وهذا يبدو من البوستات التي تنشر، والتي تروج لقصص خرافية وأساطير بالطبع لا علاقة لها بالتراث الديني، وإنما أدخلت عليه إما عن جهل أو تعمد للنيل من الإسلام.. كهذا البوست المضحك الذي يجري تداوله على الجروبات.. عن جن أدلى باعترافاته لشيخ..
"ولاأدري .. ماالذي أجبر الجن على الاعتراف.. هل "علق" الشيخ قدميه في الفلكة؟ !!! أم أغراه بمصاصة؟!!".
- هذا البوست قرأته على أحد جروبات الصحفيين، "ناشدت الأدمن أن يحذفه.. لم يستجب فانسحبت من الجروب".. هذا يعني أن البعض من  أرباب مهن الرسالة سقطوا في مستنقع الجهل .. بل ويروجون له!!. 
- مع تردي المنظومة التعليمية حيث تحولت وزارة التعليم من وزارة للمعارف إلى وزارة للتلقين.. ومع ازدياد سطوة السلفية البترودولارية عقب هزيمة يونيو ١٩٦٧، والتي تعمل تحت شعار "سمعا وطاعة"، تبين من خلال ماينشر على جروبات السوشيال ميديا "نزوع " الشخصية المصرية لتصديق ما تسمع وما تقرأ دون تمحيص.. وهذا ما أكده التقرير السنوي لوكالة أبسوس لعام ٢٠١٩.. وهو نتاج استطلاع أجري على  ٢٥ ألف شخص ينتمون إلى ٢٥ دولة .. من بينها مصر.. حيث نوه التقرير إلى  أن المصريين الأكثر ميلا لتلقي ما ينشر على السوشيال ميديا على أنه حقائق!! وبالطبع يعزى هذا في أحد أسبابه إلى  معاناتنا من أنيميا في الحقائق الموثقة.. تلك التي ينبغي أن تصدر من جهات رسمية.
مع شح تلك المعلومات الموثقة.. يتطلع  الكثير في محاولة إشباع شهوة الفضول إلى ماينشر عبر السوشيال ميديا..ليس لقراءته فقط بل والترويج له.
- بل وحتى لو توافرت الحقائق الموثقة من قبل الجهات الرسمية، فالطريق الممترس بالشكوك بين المواطن ومؤسسات الدولة يدفع المواطن إلى الميل لتصديق ما يتردد عبر منصات السوشيال ميديا حتى لو كان يفتقد إلى المنطق.. بل ويتسم بالسذاجة!!
..كتلك الشائعة التي تم تداولها منذ عدة سنوات بأن إنشاء قاعدة محمد نجيب كبد الدولة تريليون و٣٥٩ مليون دولار!!
فإن كانت قاعدة محمد نجيب افتتحت عام ٢٠١٧.. وكانت ميزانية الدولة آنذاك حوالي تريليون جنيه.. وكان سعر الدولار  ١٦ جنيها.. فهذا يعني أنه على المصريين أن يمضوا ٢٠ سنة بلا أكل ولا شرب ولا تعليم ولا دواء..ولا مواصلات.
لا شيء.. لأن كل ميزانية الدولة خلال الـ٢٠ سنة وجهت لبناء قاعدة محمد نجيب!!!.. ومع ذلك وجدت الشائعة من يصدقها حتى بين "النخبويين" هذه الشائعة تلقيتها منذ أربع سنوات من أستاذة جامعية خليجية!!! وتلقفها فرسان الأدمنة لينشروها على جروباتهم!!!!.

- ومما يثير الدهشة أن جماعات وتيارات تتسم توجهاتها وأنشطتها بالجهل والتخلف توظف السوشيال ميديا باقتدار وفي أكثر أشكالها تطورا لتحقيق أهدافها المدمرة.. كمشايخ الدجل والشعوذة الذين يوظفون تلك الميديا بالغة التطور في اصطياد زبائنهم..!!

- وكما ألحظ ..الكثير  مما ينشر من  الشائعات لاتستهدف فقط النظام الحاكم .. بل وثوابت الدولة نفسها.
مثل تلك البوستات التي كان يجري تداولها حول "عظمة الخلافة العثمانية" وأن  استعادة المسلمين مكانتهم وهيبتهم رهن بعودة تلك الخلافة.
وهذا يعني ببساطة أن تعود مصر .. أعظم خط إنتاج للمعرفة والتحضر والرقي عبر التاريخ إلى مجرد ولاية عثمانية..!!
"وماكانت بخلافة ..بل دولة جواري وخصيان ، وأسوأ صنوف الاستعمار.. حيث بجهلهم وضيق أفقهم تجمدت الدول العربية في مستنقع التخلف ٥٠٠ سنة.. ويكفي أن المطبعة التي اخترعها الألماني يوحنا جوتنبرج عام ١٤٥٣ حرموا دخولها مستعمراتهم مايقرب من ثلاثة قرون باعتبارها بدعة وكل بدعة ضلالة..!!".

- وما لا يقل خطورة توظيف السوشيال ميديا ببراعة فائقة من قبل التنظيمات الإرهابية.. كتنظيم داعش الذي تم تجنيد ٨٠% من أعضائه عبر الخلايا الإلكترونية.. وهذا ما يفعله قادته الآن في تجنيد آلاف الأطفال لتشكيل ما يسمونه بأشبال الخلافة.. والمعني جيش المستقبل!!!.

- خلال شهر يوليو الماضي نظمت لجنة النشاط الثقافي في نادي القصة، والتي أشرف برئاستها ندوة في مركز طلعت حرب الثقافي بالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية ..كان عنوانها " السوشيال ميديا..من التدمير إلى التنوير".
وفوجئت بحضور  لواء أركان حرب طارق مهدي، لواء أركان حرب محمود متولي.. وغيرهما من رموز لهم ثقلهم في المشهد المصري .. لتشتعل حديقة مركز طلعت حرب الثقافي، والذي أقيمت به الندوة بحوارات بدت جرس إنذار للتهديد الخطير الذي تشكله السوشيال ميديا.. والتي لا ينبغي أن يتوقف اهتمامنا بها عند- فقط- البحث عن وسائل لدرء خطرها.. بل وما لا يقل أهمية تطويعها لتتحول من  مراكز تدمير إلى مراكز إشعاع للتنوير.

وكما قلت خلال الندوة أن هذا لن يتحقق إلا مع إعادة هيكلة وزارة التعليم لتتحول من وزارة للتلقين إلى وزارة للمعارف.
طفل تجري تنشئته.. على أنه.. ليس فقط مجرد ذاكرة تحشى بالمعلومات ليتقيأها  في لجان الامتحان.. بل دماغ أشبه بمعمل تتفاعل به المعلومات والرؤى .. دماغ مؤجج بشهوة المعرفة .. يمضي العمر لاهثا خلف الحقيقة.
وما لا يقل أهمية وجدان تجري تنشئته على تذوق الجمال..
طفل مثل هذا سيكون محصنا ضد خلايا الإخوان الإلكترونية وداعش..
ولن يكون أبدًا من السهل تجنيده في جيش أشبال الخلافة!! بل سيكون بعقله الواعي أداة لتحويل السوشيال ميديا من دانة تدمير إلى مراكز إشعاع.. للتنوير!!