رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

4 ساعات مع نجيب محفوظ فى خمارة القط الأسود

مقدمة الساعات:

أخذنى نجيب محفوظ إلى خمارة القط الأسود فى العشرين من يوليو عام ٢٠٢٣ فى رحلة كنت أظنها لن تستغرق يومًا أو اثنين، لكنها استمرت حتى ساعات قليلة مضت هى التى جلست أدون فيها ملخصًا لتلك الساعات العظيمة التى عشت أحلم بها على مدار سنوات حتى جاء النجيب ضاحكًا واصطحبنى معه فعشت حياة فوق حياتى.

أما كيف حدث اللقاء، وكيف اختصنى عم نجيب بتلك الساعات، فتلك منح ربانية لا تتأتى إلا بالصبر واليقين والوجد، وقد فعلت وتمنيت من الله الوصول فكان اللقاء كسحابة عبرت سمائى وحدى، ورأيت ما يسعى العاشق لرؤيته، وما ستقرأه فى تلك الساعات حصيلة عشرات الليالى التى سهرتها أنادى طيف عم نجيب وأستحضر روحه فى خلوة تامة، وكلما اقترب.. ابتعد ونأى، فمن أنا حتى يترك النعيم المقيم ويأتى ليسهر معه؟!، فرشتُ الأرض كلها بزهور نجيب، تناثرت الأغلفة فى كل أركان البيت، ولم يتوقف الرجاء، وعرفت فيما بعد أن الرجل أصيب بدوشة وصداع فرقّ قلبه وتعطّف على هذا المريد الواقف ببابه ينادى.

عن محمد فوزى وفاسليادس والمعلم دبشة!

الخمارة كما هى حجرة مربعة تقوم أسفل عمارة عتيقة بالية، تضاء نهارًا وليلًا لقتامة جوها المدفون، وتطل على حارة خلفية بنافذة وحيدة بقضبان حديدية طليت بلون أزرق فاتح يرشح رطوبة فى مواضع شتى على هيئة بقع غامقة، بابها يفتح على ممشى ضيق طويل وعلى جانب منه براميل النبيذ الجهنمى، والقط الأسود، الذى قيل إنه كان إلهًا وانسخط قطًا، ما زال يتنقل بين السكارى، الجميع انتبه لدخول عم نجيب واضعًا يده على كتفى ومستندًا إلى عصاه بيمناه، وعمّت السعادة بين الزبائن «حمد الله ع السلامة يا أستاذ»، وقام بعضهم يصفق ويضرب كأسًا بكأس آخر وعم نجيب يوزع الابتسامات، كأنهم أسرة واحدة جميعم يتآخون ليلة بعد ليلة ويتعرفون على تفاصيل حياة بعضهم البعض، وأحيانًا يجتمعون فى المقهى قبل المجىء إلى هنا، وخمارة القط الأسود اسمها «النجمة»، لكن القط الأسود الضخم معشوق صاحبها وتعويذة الزبائن أصبح هو العلامة المسجلة للخمارة. 

اتخذنا ترابيزة فى الجانب الأيمن للبار، اختارها هو ورتب وضع الطفاية وشد مفرشها الملون وضبط جوانبه وجلس مبتسمًا، وجاء القط يتمسح به، فمال ورفعه وأجلسه بيننا ولاعبه، ورمقنى القط بنظرة مريبة ثم انفلت قافزًا إلى الأرض وعم نجيب يضحك:

- خاف منك باين!.

وابتسمتُ ولم أجد كلامًا، فقلتُ: الجو حر جدًا، فقال: ولا حر ولا حاجة، موجة وتعدى زى موجات كتير كتبت عنها فى قصة «موجة حر» بمجموعة «بيت سيئ السمعة».

ولم أكن قد قرأت القصة فوضح خجلى، فنغزنى بيمناه وسحب عصاه ورفعها وقال: هاضربك على بوزك لو فضلت عامل مؤدب كده.. دوشتنى وقلقت منامى، عشرين ليلة وإنت ما فيش على لسانك غير تعالى يا عم نجيب!، أدينى جيت.. صحصح كده وبص شوف مين هناك!

ولم أتبين ملامحه، كان شابًا أسمر مهلهل الملابس منسجمًا فى الغناء بصوت ردىء للغاية لكنى لم أعرفه. 

- ده السكران اللى عمل العملة الكبيرة إمبارح.

وعرفتُ أنه يقصد بطل قصة «السكران يغنى» فى مجموعة «خمارة القط الأسود».. لكن هذا صوته رخو وبليد والحروف تخرج كسولة من حنجرته يا أستاذ!

- ما هو سهر طول الليل يشرب لوحده ويغنى، كان عايز يسرق فلوس الخمارة واستخبى بين البراميل والباب اتقفل عليه من بره راح هو قافل من جوه عشان يسرق بمزاج، لكنه لم يجد ما يسرقه فراح يشرب ويغنى حتى عرف كل الشارع أن بالداخل أعبط حرامى فى الدنيا.

اقترب البارمان، لكن عم نجيب أشاح بوجهه وقال بنبرة حاسمة:

- فاسليادس جاى بعد شوية، أنا ما بشربش حاجة غير من إيد فاسليادس.. اعذرنى.

وانصرف الرجل بابتسامة باردة، بينما كان فاسليادس يدخل الخمارة، فتهللت ملامح عم نجيب وهتف: فاسليادس صديقى الحبيب.. وتعانقا!!، وأنا جالس مندهشًا: كيف جاء وهو مجرد بطل قصة كتبها عم نجيب بعنوان «البارمان» مات فى آخرها!. ثم إن فاسليادس بارمان فى مقهى وبار إفريقيا، فكيف يعمل هنا؟!

كنت سارحًا فى فاسليادس، بينما عم نجيب يدندن بصوت خفيض راح يتعالى ببطء كأنما الموسيقى تصعد رويدًا رويدًا:

من أد إيه كنا هنا 

من شهر فات ولاّ سنة. 

ونظر إلى دهشتى متعجبًا:

- إيه؟!، مستغرب إن صوتى حلو!!.. أنا كان ممكن أقعد عبدالوهاب فى بيتهم بس من حسن حظه إنى اتجهت للأدب، وضحكنا، وجاء فاسليادس ووضع الزجاجات والثلج وانصرف كأنما هناك اتفاق على مزاج الأستاذ بصرف النظر عن مزاجى طبعًا.

وصبّ لنفسه كأسًا، ووجدتها فرصة لأتأمل ملامحه وأتحسسها بعينى، فلم أعرف فى أى مرحلة من العمر قد جاء، فالرجل الأربعينى الذى التقانى على باب الخمارة استحال فى لحظة إلى طفل صغير، يبتسم للكأس وينقر بأصابعه وينظر إلىّ فجأة ضاحكًا:

- أنا كتبت قصة حياتى من خلال الأغانى اللى سمعتها فى مراحل عمرى كله.. يضحك وينقر الترابيزة بأصابعه وينوع فى الألحان:

عصفورى يمه عصفورى لالعب وأوريله أمورى 

البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أدلع أملا القلل.

وفى المراهقة بقى كنت باسمع:

إوعى تكلمنى بابا جاى ورايا 

شوف الزهور واتعلم، عشق البنات البكارى هد منى الحيل. 

وفى أيام الحب كنت باسمع:

الحب كده، أسمر ملك روحى، كادنى الهوى وبقيت عليل، أنا والعذاب وهواك، عشق الروح مالوش آخر.

حتى أيام العربدة كان ليها أغانى:

لا تشغل البال بماضى الزمان، إرخى الستارة اللى ف ريحنا أحسن جيرانك تجرحنا، الدنيا سيجارة وكاس.

الشيخوخة بقى كنت باسمع: 

من أد إيه كنا هنا، ودع هواك وانساه، قالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلت بل أنت لا الدهر.

وهنا نطق لسانى وتزحزحّ الخجل وقلت: حضرتك كتبتها بخط إيدك ونشرتها سناء البيسى فى نصف الدنيا، فهز رأسه وهو يدندن بخليط من هذه الأغانى، فسألته كى أفتح الكلام من جديد:

- حضرتك حبيت «نور القمر» يا أستاذ؟!

- مين نور القمر؟! 

كان السؤال ماكرًا والإجابة أكثر مكرًا، فضحك وقال: إنت خلبوص، بعدين نحكى فى الحب وسنين الحب.. إنتوا أجيال هبلة ما تعرفوش الحب أساسًا.. وضحك بصوت مرتفع ونادى فاسليادس وشربنا، وأشعل الأستاذ سيجارة وهو يواصل الدندنة بصوت رخيم وعذب:

أمانة يا ليل تقول للفجر يستنى 

خلينى بالوصل أفرح ليلة واتهنا 

من طفولتى بحب الموسيقى، الغُنا كان فى كل مكان، حفظت أغانى العوالم والأدوار الشرقية حتى أغانى أحمد عدوية كنت بدافع عنها وسط هجوم المثقفين عليها، وفى مرحلة من حياتى تمنيت أن أكون موسيقيًا، لكن نظرة المجتمع آنذاك كانت تحتقر الموسيقيين وتحترم موظفًا صغيرًا أكثر منهم مائة مرة بكل أسف.

وصمت قليلًا ثم رفع رأسه وسألنى:

- تعرف المعلم دبشة؟!.. ولم ينتظر إجابة، وقال: وأنا فى كلية الآداب كنت مغرمًا بدراسة الفلسفة والفنون وعلم الجمال، وكنا لا نمتحن فى السنة الثالثة فقررت دراسة الموسيقى عمليًا كى أصل إلى فلسفة الجمال فيها، والتحقت بمعهد الموسيقى العربية واخترت آلة «القانون» وانتظمت فى حضور الدرس، وتعلمت النوتة وحفظت عدة أدوار، وكان من تقاليد المعهد أن يختبر طلابه بواسطة لجنة مكونة من أكاديميين والسميعة الكبار من خارج المعهد، وكان بينهم «المعلم دبشة»، الذى لم يكن سوى «جزار» ينتمى لحى شعبى، غير أنه كان سميعًا وواحدًا من فحول العازفين والمتذوقين لآلة القانون، وبعد اللقاء فى اختبارات المعهد، أصبح المعلم دبشة صديقى، وذات حفل لأم كلثوم رأيته يستعيدها فى كوبليه معين، وكلما غنّت، طلب الإعادة، وفى النهاية ابتسمت أم كلثوم وقالت: مرة أخرى للمعلم دبشة! 

وكثيرًا ما قابلت المعلم دبشة فى حفلات الست أم كلثوم، فقد حرصت على الاستمتاع بصوتها الربانى منذ صباى حتى تحقق الحلم الكبير فى عيد ميلادى الخمسين ولمست يدها وسمعتها تشيد برواياتى. 

أم كلثوم ليست نبوغًا فى الصوت ولكن فى الشخصية، كيانها أكبر من مجرد مطربة، هى أشبه بالشخصيات السياسية الهامة ووحدت العرب، وتأثيرها على جيلنا له مكانة كبيرة فى الوجدان، وكذلك عبدالوهاب وسيد درويش.

قبل أن ألتقيها فى حفل عيد ميلادى كنتُ حريصًا على وجودها كقيمة كبيرة، ولما ظهرت الإذاعة الحكومية كان لأم كلثوم مواعيد إذاعة فى الراديو تتضمن وصلتين كل يوم إثنين وخميس لمدة نصف ساعة!، ورأيت فى ذلك إفراطًا وتفريطًا فى موهبة عظيمة، فكتبتُ لها خطابًا من مجهول أقول لها فيه: «عززّى نفسك ولا تكررى الغناء كثيرًا»، ثم أصبحت حفلاتها الغنائية شهرية بعد ذلك، ولم أتوقف عن حضورها إلا حينما ازدحمت القاهرة فأصبحت أسمعها فى سهرة الحرافيش وكلهم من خيرة السميعة.

قفز القط الأسود وجلس على الترابيزة، وجاء فاسليادس وصبّ كأسًا، وهممتُ بالكلام، لكن الأستاذ كان قد انسجم مع صوت أم كلثوم تترنم برباعيات الخيام: 

إن لم أكن أخلصت فى طاعتك.. فإننى أطمع فى رحمتك 

وواصل الأستاذ حديثه بتدفق ورومانسية فائقة:

المقابلة الوحيدة لى معها كانت فى الأهرام، أراد صلاح جاهين الاحتفال بعيد ميلادى الخمسين، ذهب للأستاذ محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام، وقال له: خصص لنا ركنًا فى الأهرام نحتفل فيه بعيد ميلاد الأستاذ، كازينو قصر النيل ضاق علينا، فقال هيكل: نحن، أى الأهرام، سنحتفل بالأستاذ. 

لم أصدق نفسى عندما أحضر لى هيكل مخصوص كوكب الشرق أم كلثوم والموسيقار محمد عبدالوهاب وفاتن حمامة وتوفيق الحكيم، فضلًا عن الحرافيش وأهل الأدب والفن. 

وأذكر أن الحكيم أهدانى طقطوقة من فضة، وقال لى: هذا من حر مالى، لكن أجمل شىء هو حضور أم كلثوم، وقد جاءت مخصوص لتغنى فى يوم مولدى، يا الله، من سنوات خوالٍ كنت أذهب إلى حفلاتها كسميع، مفتونًا بفنها وأشترى تذاكر الحضور، واليوم المرة الأولى التى ألمس يدها رغم أننى لم أغير مقعدى فى حفلاتها طوال حياتها، يومها قالت أم كلثوم: لقد أسعدنى نجيب محفوظ برواياته وقصصه، وأرجو أن يسعدنى خسمين سنة مقبلة، واهتززت وانتفضت أرد على أم كلثوم بصوت هادئ مرتجف: إن كانت كتاباتى قد أسعدت أم كلثوم، فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مصدر سعادته؟

يا بخت الست أم كلثوم وعبدالوهاب بيك يا أستاذ، كان نفسى تكتب عن محمد فوزى يا عم نجيب والله. 

- أنا محقوق للجدع ده فعلًا، إنت ما تعرفش عمل معايا إيه!

فيلمى الثالث «فتوات الحسينية» كتبت معالجته السينمائية وسط جو ملىء بالتشكك فى نجاحه، كان المطلوب عمل فيلم لمحمد فوزى، ولم يكن- رحمه الله- فى أوقاته السعيدة، كان مديونًا ويريد فيلمًا يسدد به الديون، وكتبت له «فتوات الحسينية»، وإذا بالأستاذ فريد شوقى ومعه مجموعة أخرى يؤكدون أنه سيفشل، لكن فوزى دافع عن معالجتى وقال إنه يراهن عليها، كان يمتلك رؤية فنية عميقة، وبالفعل نجح الفيلم نجاحًا مدويًا، بل إن محمد فوزى- رحمه الله- ذهب إلى مقام السيدة ووزع الفول والعيش واللحم على الفقراء، أنا صحيح ماكتبتش عن فوزى، لكن لا أخفيك سرًا، فعندما كتبت شخصية الضابط فى قصة «أهل القمة» كنت أبحث عن اسم يليق برجل شريف وعفيف، ويمتلك أصالة كبيرة فى استضافة شقيقته وابنتها وسط أولاده وظروفه الصعبة، فلم أجد أنسب من اسم «محمد فوزى»، رحمه الله رحمة واسعة، وأنا زهقت وعايز أرجع!

باغتنى بالعبارة الأخيرة، فرجوته أن يبقى قليلًا، فقال: سأمنحك ليلة أخرى إن قلت لى أين رأيت فاسليادس قبل أن تجلس معى؟!

وتحول السؤال إلى كنز، وتهللت روحى وأعضائى وكل كلى، وقفزتُ مثلما يقفز الرابحون للمليون فى البرامج التليفزيونية، ووقفت أمام الأستاذ وقلت بكل ثقة: وأنا تعجبت من مجيئه إلى هنا منذ قليل يا سيدى!

- أتعرفه بالفعل؟!

عين المعرفة يا سيدى، فهو بطل قصة «البارمان» فى مجموعة «خمارة القط الأسود»، لكنه كان يعمل فى بار إفريقيا، ولمحت الدهشة تكاد تقفز من رأس الأستاذ، فأغمضتُ عينىّ وضممت ذراعىّ وقرأت: «مهما يكن من أمر فقد اقترن بأطيب الأوقات وجهك، وأنت معتمد على الطاولة الرخامية البيضاء بكوع يسراك وراحة يمناك تنظر وتنتظر، دائمًا تبتسم، وبين حين وحين تتناول منشفة صفراء كبيرة فتمسح السطح برشاقة.. وراء ظهرك على رفوف أربعة صفت زجاجات الخمور من كل صنف، ورأسك المستدير الكبير، وشعرك الأسود المفروق من الوسط، وحاجباك الغزيران المتباعدان، وشاربك الكث المتعرج كقوس، وعيناك الواسعتان الزرقاوان.. أنت حقًا ملك قهوة وبار إفريقيا.. كل ما يجىء من ناحيته طريف حتى اسمه، أصغ إلى موقعه من الأذن: فاسليادس.. فاسليادس».

فصفق الأستاذ: برافو يا أشرف، لك منى ساعة أخرى فى «جنة الأطفال» ومعنا فاسليادس. 

- بس فاسليادس مات يا أستاذ!

طب هو أنا يعنى اللى عايش يا حمار انت!

وسحبنى إلى ترابيزة بعيدة جدًا.

الساعةالثانية

فى جنة الأطفال

قبل أن يسحبنى الأستاذ إلى الترابيزة البعيدة، كان عدد كبير من الزبائن قد انصرف، وتوزعت سلامات وأمنيات بالسعادة، وهدأت الخمارة وسألنى الأستاذ: زرت جنة الأطفال قبل كده؟!، وقبل أن أنطق، كانت المقاعد قد اختفت وتحول المكان إلى مساحات خضراء شاسعة وأشجار ملونة، ورفع الأستاذ رأسه إلى فاسليادس؛ فإذا به يتحول إلى طفلة صغيرة مكلبظة ووديعة وظهرت له ضفائر منسدلة من خلف أذنيه!، وجاء أو جاءت، إن شئت الدقة، بسرعة نحوه وفى يديها أوراق بيضاء، فانتفض الأستاذ واقفًا وأخذ حزمة من الأوراق وترك لها الباقى، وبحركة شقية سحبت الطفلة المكلبظة نظارتى ولبستها وشبّكت كفيها على بطنها، وقالت بصوت رقيق وناعم: 

- بابا. 

فأجاب الأستاذ بضيق:

نعم!

- أنا وصاحبتى نادية دايمًا مع بعض. 

فقال الأستاذ بصوت خشن:

طبعًا يا حبيبتى فهى صاحبتك.

فقالت الطفلة:

- فى الفصل والفسحة وساعة الأكل.

وقال الأب، الذى هو الأستاذ: شىء لطيف. 

- لكن فى درس الدين تدخل هى فى حجرة وأنا فى حجرة أخرى!

هذا فى درس الدين فقط يا صغيرتى.

واستمر الحوار بينهما على هذا النحو، الطفلة تسأل، والأب يحاول أن يجيب. 

- لماذا يا بابا؟

لأنك لك دين ولها دين آخر. 

- كيف يا بابا؟!

أنت مسلمة وهى مسيحية. 

- لِمَ يا بابا؟!

أنت صغيرة وسوف تفهمين فيما بعد. 

- أنا كبيرة. 

بل صغيرة يا حبيبتى. 

- لِمَ أنا مسلمة؟

بابا مسلم وماما مسلمة، لذلك فأنت مسلمة. 

- ونادية؟

باباها مسيحى. 

- هل لأن والدها يلبس النظارة؟!

كلا لا دخل للنظارة فى ذلك، ولكن جدها كان مسيحيًا. 

- مَن أحسن؟

المسلمة حسنة والمسيحية حسنة. 

- ضرورى واحدة أحسن! 

هذه حسنة وتلك حسنة. 

- هل أعمل مسيحية لنبقى معًا دائمًا؟!

كلا هذا غير ممكن، كل واحدة تظل كباباها ومامتها. 

- مَن أحسن؟!

كل دين حسن، المسلمة تعبد الله، والمسيحية تعبد الله. 

- ولِمَ تعبده هى فى حجرة وأعبده أنا فى حجرة؟!

هنا يعبد بطريقة.. وهناك يعبد بطريق.

- أين يعيش الله؟

فى السماء.

- ولكن نادية قالت لى إنه عاش على الأرض.. وإن الناس قتلوه. 

كلا يا حبيبتى، ظنوا أنهم قتلوه.

كنت أتابع حوارهما متنقلًا برأسى بينهما ودموعى تسيل، فتلك قصة «جنة الأطفال» فى مجموعة «خمارة القط الأسود» التى نجلس فيها الآن.

وجلس الأستاذ وانصرفت الطفلة التى كانت تمثل دور فاسليادس أو العكس، وتنهد الأستاذ وقال: تلك هى الجنة الحقيقية، أتعرف أن هناك من يلعن المسكين فاسليادس ويراه كافرًا؟، فقلت: أولهم عبدالوهاب إسماعيل، فتعجب الأستاذ، وسألنى ومَن يكون؟!، فانتابتنى فرحة غامرة وأنا أقول له: إحدى شخصيات «المرايا» يا أستاذ، فضحك ضحكة مجلجلة، فتشجعت ووقفت وأمسكتُ بعصاه وتقمصت شخصيته ورحت أقرأ له شخصية عبدالوهاب إسماعيل كما ظهرت فى المرايا التى قيل إنها شخصية سيد قطب: «وبالرغم من أننى لم ألق منه إلا معاملة كريمة، إلا أننى لم أرتح أبدًا لسحنته ولا لنظرة عينيه.. وبالرغم من تظاهره بالعصرية فى أفكاره وملابسه، إلا أن تعصبه لم يخف علىّ. أذكر أن كاتبًا قبطيًا شابًا أهداه كتابًا له، فقال لى عنه إنه ذو أصالة فى الأسلوب والتفكير. فسألته ببراءة: متى تكتب عنه؟، فابتسم ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك!، سألته: ماذا تعنى؟، فقال بحزم: لن أشترك فى بناء قلم سيعمل غدًا على تجريح تراثنا الإسلامى.. فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك متعصب؟، فقال باستهانة: لا تهددنى بالأكليشيهات فإنها لا تهزنى. قلت: يؤسفنى موقفك. أجاب: أصارحك بأنه لا ثقة لى فى أتباع الأديان الأخرى!..».

وكنت أنتظر تصفيقًا أو ضحكة صافية، لكن الأستاذ اغتمّ فجأة وأسند ذقنه إلى عصاه، وقال بأسى: 

وكان فاسليادس من أتباع أديان أخرى بكل أسف، مع المسيح ذلك أفضل يا صديقى الحبيب، كنت أقرب شخصياتى إلى قلبى، سكن روحى بالفعل، سألته يومًا: كيف تحافظ على شبابك، كيف لا تشيب لك شعرة يا فاسليادس أو يخبو لعينيك ضياء؟ فقال: بمعاشرة الأحباب من أمثالك، سألته: أليست فى حياتك أحزان؟!، قال: مثل جميع الناس، ولكننى لا أستسلم للحزن كأكثر الناس.

ويوم إحالتى إلى المعاش كنت متكدرًا، ووجدته يهنئنى وهو يقول: لقد أتممت رحلة موفقة يا رجل.. الحياة تبدأ بعد الستين، أذكر أنى قلت له إن الموت يأتى فى أحلامى، فقال: لا تصدق، الموت لا يجىء إلا مرة واحدة، وإذا جاء أعقبته سعادة كبرى.

لم يصدق أحد فينا أن فاسليادس مات، تهاوى وراء البار فجأة وكان قبلها يضحك ويتحدث بكل قوة وطاقة، هو لا يعبر عن نفسه بل عن مصريين عاشوا بيننا وتعلمنا منهم وتعلموا منا، فاسليادس هو رياض قلدس فى السكرية صديق كمال عبدالجواد، وكنت أنا صورة من كمال عبدالجواد فى كل شىء ما عدا قصة حبى.

- أتعرف أننى رفضت مقابلة حسن البنا؟!

كنت أعرف ولكن الأستاذ كان يريد أن يحكى: 

دعانى صديقى عبدالحميد جودة السحار لمقابلته لكننى رفضت بكل إصرار، أتذكر أننى زرت سيد قطب أيضًا عقب خروجه من السجن فى الستينيات برفقة عبدالحميد السحار أيضًا، وتكلمت معه ضمن موضوعات مختلفة عن الحرب مع إسرائيل فإذا به يقول لى ما معناه: هذه الحرب لا تعنينى، فلو باكستان فى حرب سأنضم إلى باكستان، هذه رؤية إسلامية عنصرية، وأنا منذ بدايات الوعى السياسى كرهت تجربتى «مصر الفتاة والإخوان المسلمين»، كلتاهما أفصحتا عن انتهازية بعد أن أظهرتا غير ذلك.

- محمد حامد برهان نموذجًا يا أستاذ 

أهو ده مثلًا اللى ظهر فى رواية «الباقى من الزمن ساعة»، واللى اعتبر ثورة عبدالناصر تتويجًا لجهود الإخوان كان بيحلم بالحصول على مكانته فى المجتمع كأن يصبح وزيرًا أو على رأس مؤسسة كبرى، لكن أحلامه تبخرت وأنتجت الثورة برنامجها الخاص ونجحت فى احتواء الجيل الجديد الذى نشأ فى أحضانها ولم تعترف بغيره، وتحول التهليل إلى كراهية لمصر وأهلها، وبينما كانت طائرات العدوان الثلاثى تدك بيوت ومساجد وكنائس وأجساد المصريين، كان «محمد حامد برهان» يقول: «انتهت حركة المجرمين ولكن ما أفدح الثمن»، كل هؤلاء يلعنون فاسليادس يا صديقى.

كان من الواضح أن الشياطين حضرت فأفسدت علينا الجنة، وها هو الأستاذ مستغرقًا فى رثاء فاسليادس كأنما يرثى وطنًا بأكمله، حاولتُ مداعبته ربما يخرج من الهم الذى حلّ: 

- أنت نفسك كنت ستصبح ملعونًا مثل فاسليادس وراحت عليك بعثة فرنسا يا أستاذ!

وضحك الأستاذ بالفعل ضحكة قصيرة وهو يتذكر القصة، فقد تم إلغاء سفره لدراسة الفلسفة فى باريس، بدعوى أنه مسيحى ولا يجوز إرسال اثنين من المسيحيين فى بعثة، خاصة وقد سبقه أحدهما، لكن الأستاذ يرى أن الأوضاع الملغومة التى كان يعيشها الأزهر فى علاقته بحزب الوفد جزء من الأسباب التى أدت إلى حرمانه من البعثة، كان الأزهر- يقول الأستاذ- يظهر أحيانًا تقدميًا مستنيرًا كما حدث أيام الإمام محمد عبده والشيخ المراغى والشيخ مصطفى عبدالرازق، وأحيانًا كان له موقف فيه خصومة مع التقدم والتطور يحاول فرض وصايته على الفكر، وتجلى ذلك فى سوء فهم الأزهر لطه حسين وعلى عبدالرازق، الأمور السياسية بتلاعب بمشاعر الناس، الدور عليكم علشان تربوا أجيال بتحب بعضها، الست والدتى كانت بتاخدنى لزيارة أولياء الله الصالحين ونمسح وشوشنا فى مقام سيدنا الحسين ومنه إلى مارى جرجس فى زيارات مليئة بالرهبة والخشوع والتأمل.

كان يتكلم بصوت مجهد وأنا سارح معه فى بحثه عن السيد المسيح فى مقطوعة «النداء» من أصداء السيرة الذاتية:

«أحيانًا يظهر لى بوجهه الجميل فيلقى إلىّ نظرة رقيقة ويهمس: اترك كل شىء واتبعنى. قد يلقانى وأنا فى غاية الإحباط، وقد يلقانى وأنا فى غاية السرور، ودائمًا ينتزع من صدرى الطرب والعصيان. وكلانا لم يعرف اليأس بعد».

وخيم صمت طويل، فسألت الأستاذ ضاحكًا:

هو ما فيش هنا غير فاسليادس يا عم نجيب؟.. فين ريرى بتاعة السمان والخريف، ونور بتاعة اللص والكلاب وكريمة بتاعة الطريق.. فين النسوان يا أستاذ؟!

يضحك الأستاذ: يا واد احترم نفسك، دول منحرفات وإحنا وسط جنة الأطفال مش شايف أخونا فاسليادس بقى بنوتة مكبظة إزاى؟!. 

وضحكنا سويًا، لكن دمعة لمعت خلف نظارته، جعلتنى أفكر فى كرة القدم، فرأيت ضرورة استدعاء محمد صلاح من إنجلترا، كما رأيت الخروج من هنا إلى أقرب عوامة.

الساعة الثالثة

فى عوامة الضحك مع محمد صلاح 

أمسكتُ بيد الأستاذ من خمارة القط الأسود إلى كورنيش النيل، فإن أردت تغيير مزاج الأستاذ خذه إلى النيل وسيصبح كما هو الآن طفلًا مبتهجًا يسير مبتسمًا ويسرع الخطى كأنما على موعد مع محبوبته ويريد اللحاق بها، كان الكورنيش يمتد أمامنا والأشجار تظللنا والعوامات متراصة مثل لوحات تزين النهر والهواء منعشًا ولطيفًا، وأنا غير مصدق أن نجيب محفوظ يتأبط ذراعى، هل تتذكر «على الحسنى» اللى ظهر فى كتاب «المرايا» يا أستاذ؟!

- آه طبعًا، ده كان من فتوات بولاق وبيلعب فى مركز قلب الدفاع، وشعاره اللى يفوت يموت، كان عملاق زى كابتن مرعى كده، مرعى كان حارس مرمى وبيصد الكورة كأنها برتقانة فى إيده، «على الحسنى» كلمنى فى التليفون وشكرنى على تذكرى له، جاءنى صوته ضعيفًا خافتًا فعرفت أن المرض أنهكه وتعجبت من الحال الذى وصل إليه هذا العملاق.. إيه اللى فكرك بعلى الحسنى؟ 

- لدينا لاعب كرة عالمى الآن يتفوق عليه وعلى حسين حجازى وعلى حريفة جيلكم وأجيال بعدكم. 

- محمد صلاح. 

قالها الأستاذ بصوت طفل فخور بذكائه وينتظر كلمة إعجاب، وأضاف: عارفه طبعًا أنا أخدت نوبل، وهو هياخد الكورة الذهبية اللى بيحلم بيها لأنه واد مجدع ومركز فى طموحاته وأحلامه، وأنا وصلت بعد كفاح طويل.

فاطمأن قلبى إلى أن اللقاء المرتقب بينهما سيكون لطيفًا، وقال الأستاذ:

- جو الخمارة كان كئيبًا يا جدع.. كويس إننا خرجنا.

أعرف عشقك للنيل 

- ساعات كنت بجيب مخدة وأنام هنا. 

عارف 

- عارف.. عارف.. طب تعرف إنى سكنت فى عوامة!!

آه.. مع محمد عفيفى؟

- لا.. يا شاطر، عفيفى دعانى لزيارات فى عوامته، وأجواء كثيرة من روايتى «ثرثرة فوق النيل» كانت مستوحاة من جلساتنا وسهراتنا فيها، بس أنا جيت فى فترة واستأجرت عوامة بعد زواجى وكنت ناوى أعيش فيها طول عمرى، أصحى الصبح أفتح عينى على مياه النيل من كل جانب، لكننى فوجئت بزوجتى ذات يوم تجمع أثاث العوامة وتقرر المغادرة فورًا خوفًا على ابنتنا فاطمة، فقد تعرضت طفلة لجيراننا فى مثل عمرها للغرق، سقطت فى النيل وهى تحاول العبور من الممشى إلى العوامة، عوامتى كانت بجوار عوامة الست منيرة المهدية وعلى باشا ماهر.. على فكرة... أيام يا ولدى.

وتراءت لنا عوامة صغيرة تتماوج بخفة كأنما تنادينا مع لفحة هواء طرى ومنعش وزقزقة عصافير هانئة، وراحت خطى الأستاذ تتجه نحوها واشتد عوده ورفع رأسه للسماء: شكرًا يا رب، قالها وهو يستنشق الهواء بكل حواسه، وسبقنى للممشى الخشبى ونظر إلىّ ضاحكًا: اوعى تغرق زى بنت الجيران.

كان واضحًا أنه يعرف كل تفاصيل المكان، أسند عصاه إلى مقعد، واتخذ مجلسًا بجوار نافذة تعكس صورة النيل كلوحة فنية، وعفّر سيجاره وقدم لى واحدة، وسحب نفسًا طويلًا وهو مغمض العينين، وقال: الله.. حاجة فخمة خالص، وضحك وهو يحدق فى ملامحى: إنت طلعت لى منين يا ولد؟

من رواياتك يا أستاذ 

ـ طب كنت هات معاك حاجة حلوة يا أخى.. غيرك طبعًا. 

ـ أجيب ريرى من السمان والخريف ولا حميدة من زقاق المدق يا كبير!

وضحك وهو يتحرك نحو الراديو المعلق فى مواجهتنا، وجاء صوت عبدالوهاب خافتًا «من أد إيه كنا هنا»، كان واضحًا غرامه بها، وقال: ولا ريرى ولا حميدة، كنت هات عبدالرحمن الأبنودى. 

ـ اشمعنى! 

هتدخل لى قافية يا واد.. إنت مش بتقول الواد محمد صلاح جاى؟! 

ـ آه. 

طيب.. ما هو الأبنودى كان بيشجع الفرقة اللى بيلعب فيها صلاح.

ـ وحضرتك كنت لاعب كبير برضه وبتفهم فى الكورة أكتر من صلاح نفسه. 

ـ طبعًا.. حظه حلو إنى مُت قبل ما يظهر، فلت منى زى عبدالوهاب ما فلت فى الغناء.

وتعالت الضحكات، واعتدل المزاج ورأيت الوقت مناسبًا للحديث عن الضحك فى أعماله كنوع من التسلية انتظارًا لمجىء محمد صلاح الذى يعيش تحت ضغط نفسى هذه الفترة بسبب العرض المغرى الذى تقدم به أحد الأندية السعودية فى محاولة لشرائه من ليفربول، وقلت للأستاذ:

ـ معظم قصصك القصيرة بتضحكنى بشكل هيستيرى رغم دراميتها. 

زى إيه يا عفريت؟!

ـ كتير يا أستاذ، مشهد الموظف فؤاد أبوكبير وهو بيصحى من النوم فجأة ويلاقى المسائل شغالة جامد فى قصة «كلمة فى السر». 

ـ ضحك الأستاذ وهو يقول: ما هى دى حاجة ما يعرفهاش اللى يتحرم منها وفجأة تحصل!

ولما حاول يا عينى يقرب من مراته قالت: يا عيب الشوم إحنا كبرنا يا راجل!، ولاّ بطل قصة «همس الجنون» الذى وقف أمام المرآة وراح يتساءل: «ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك؟ لماذا لا نخلع الثياب ونطرحها أرضًا؟! لماذا لا نبدو كما سوانا الله!»، والفنان اللى خد مراته مستشفى الولادة وهى بتتألم وتصرخ فى قصة «الصمت» مجموعة فيما يرى النائم والطبيب ترك الزوجة تتألم وركز مع الفنان وراح يسأله عن أدواره وكيف قام بتمثيلها على هذا الشكل البارع، بينما الزوجة تصرخ فى الخلفية!، قصة «تحت المظلة» قمة الضحك والعبقرية، منظر الناس تحت المظلة والحوادث والجرائم تقع أمام أعينهم وهم فى مكانهم يشاهدون كأنهم فى السينما: «.. واندس بين الواقفين رجل ضخم، عارى الرأس يرتدى بنطلونًا وبلوفر أسود وبيده منظار مكبر، شق طريقه وسطهم بعنف واستهتار، تعلقت به أعين المتجمعين تحت المظلة: هو؟ نعم هو.. المخرج».

لكن الضحك كله والبكاء كله فى قصة «قسمتى ونصيبى من مجموعة فيما يرى النائم أيضًا».

الرجل الذى ظل يحلم بالإنجاب حتى جاءه بدل العيل اتنين متلاصقين فى بعضهما البعض، جسد واحد برأسين وعقلين ومزاجين مختلفين تمامًا فى النظرة إلى الحب والجنس والزواج والدين، كان الأستاذ مبسوطًا وهو يسمعنى.

ومن بعيد ظهر صلاح أمامنا على الكورنيش فى ملابس رياضية زرقاء زاهية وفى خفة عصفور، كان قد دخل العوامة فى خجل ووجل، وانحنى يقبّل رأس الأستاذ الذى اعتدل فى جلسته مرحبًا: أهلًا يا محمد.. وبالإنجليزية «ويلكم موهامد»، وعمّ السرور والضحك وشد صلاح مقعدًا والابتسامة لم تفارقه، التفتّ إليه الأستاذ:

- عارف يا صلاح إن الإنجليز كانوا السبب اللى خلانى أحب الكورة؟!، وبحلق صلاح، وسحب الأستاذ نفسًا من السيجارة:

- آه، أنا كنت لاعب جامد وكان ممكن أقعدك فى البيت بس مُت بدرى زى ما أنت شايف!

وكاد صلاح يقع على الأرض من نوبات الضحك التى أخذته لأعلى وأسفل غير مصدق خفة ظل الأستاذ الكبير، فربما توقعه متجهمًا مثل كل الأدباء، بينما تناول الأستاذ كوبًا من الماء وراح يحكى: فى يوم من الأيام أخذنى شقيقى لزيارة صديق حميم له من عائلة الديوانى، وهى عائلة معروفة، ومن أبنائها أطباء ومستشارون، كان بيت هذا الصديق يطل على محطة السكة الحديد، وعندما فرغنا من تناول الغداء اقترح أن يصطحبنا لمشاهدة مباراة فى كرة القدم بين فريق مصرى وآخر إنجليزى، وكانت دهشتى كبيرة جدًا عندما فاز الفريق المصرى!، فقد كنت أعتقد حتى ذلك الوقت أن الإنجليز لا ينهزمون حتى فى كرة القدم!، ونظر إلى صلاح: أديك النهاردة رافع راسنا كلنا وسطيهم يا بطل، وغرق صلاح فى الخجل، وأكمل الأستاذ حديثه: بس يا سيدى.. رجعت البيت وذهنى كله متعلق بكرة القدم، وبأسماء لاعبى الفريق المصرى الذى هزم الإنجليز، خاصة كابتن الفريق حسين حجازى نجم مصر ذائع الصيت فى ذلك الوقت، وطلبت من والدى أن يشترى لى كرة، وألححت عليه حتى وافق، وبدأت أقضى وقتًا طويلًا فى فناء المنزل ألعب الكرة بمفردى، ومحاولًا تقليد ما شاهدته فى تلك المباراة التى سرقت عقلى. وبسرعة شديدة استطعت إتقان المبادئ الأساسية للعبة.. بقيت حريف وبلعب بالشمال واليمين وأجيب أجوان صواريخ، ونظر إلى صلاح ووضع يده على كتفه: كان عندنا لاعب كبير اسمه حسين حجازى وهو كابتن الفريق المصرى ولعب فى أوليمبياد ١٩٢٨ ونالت مصر المركز الرابع، ده فضل يلعب لغاية سن الأربعين.. لسه قدامك كتير يا حبيبى، وأذكر أثناء عملى فى وزارة الأوقاف أن قابلنى شاب عرفنى بنفسه على أنه ابن حسين حجازى، فصافحته بحرارة وقلت له تعالى لما أبوسك.. دا أنا صقفت لأبوك لما إيدى انهرت.

ماشوفتنيش إنت يا أبوصلاح.. حظك!، الجماعة بتوع مجلة «النيويورك تايمز» عملوا منتخب يضم أدباء العالم واختارونى قلب دفاع الفريق، كان معايا من اللى أخدوا نوبل: الأديب الروسى- الأمريكى «فلاديمير نابوكوف» لحراسة مرمى الفريق، والثانى هو التركى «أورهان باموك» للعب فى مركز الظهير الأيسر.

كان صلاح مستغرقًا تمامًا وهو يسمع صاحب نوبل يتحدث بهذا الشغف عن كرة القدم، ورأيت أن أعود للحديث عن الضحك فى قصصه حتى لا يسأم ويصاب بالملل، فقلت موجهًا كلامى لصلاح: الأستاذ خفيف الظل حتى فى قصصه، عنده قصة اسمها المسطول والقنبلة عن واحد مسطول فعلًا اتهموه بضرب المأمور على قفاه بالقلم، وقبضوا عليه، وفجأة انفجرت قنبلة فاتهموه بضرب المأمور وتفجير القنبلة وهو مسطول تمامًا ويقسم بأغلظ الأيمانات بأنه لم يفعل شيئًا، ولكن لا يصدقه أحد!، فاعترف لهم بأنه مسطول.. وأن فى معدته نصف قرش، ولم يصدقوه، فراح يصرخ «بينى وبينكم الطب الشرعى يشوف بطنى.. أنا مدمن يا ناس».

عنده قصة تانية عن حارة بتصحى الصبح على ضرب شمال ويمين، كله بيضرب فى كله وماحدش فاهم إيه اللى بيحصل وليه؟: «ذات يوم اجتاحت الحارة معركة شاملة اشترك فيها جميع من اتفق وجودهم على أرضها من عاملين عاطلين تضاربوا بالأيدى والأرجل والرءوس، واستمرت ساعتين»، القصة دى اسمها المجنونة وفى مجموعة «بيت سيئ السمعة»،، فقال الأستاذ معترضًا: غلط.. دى مجموعة خمارة القط الأسود أيضًا، وليست بيت سيئ السمعة!

- فقلت غاضبًا: قفلتنى يا أستاذ!

فراح يدور برأسه وعينيه فى المكان كأنما يبحث عن شىء، ثم نظر إلى النافذة فسألته: 

- بتدور على حاجة يا أستاذ؟

فقال: بشوف حد يفتحك! 

ووقع صلاح من الضحك، وأحارّ وجهى، ولم أستطع الرد، وعملت نفسى غير مهتم، وقلت: هناك قصص كثيرة مضحكة فى أعمالك.

- طب بس كفاية كده يا أشرف أفندى.

كنت عايز أقول قفلتنى يا أستاذ، لكنه التفت إلى صلاح: إنت واد مجدع وعاجبنى مشوارك وعاجبنى اللى إنت عامله مع أهل بلدك فى نجريج، خد بالك من نفسك واتفضل شوف اللى وراك، الواد ده فاضى.. وقليل الأدب.. وأنا مش عايز ودانك النضيفة دى تسمع ألفاظ خارجة من السافل ده. 

- أنا يا أستاذ؟!

أيوه يا قليل الأدب.. ياللا وصل صلاح بالسلامة وتعالى أصالحك وأحكى لك عن منحرفاتى ونور القمر اللى مجنناك.

وكدت أقفز فوقه وأنا أحضنه وأقبل رأسه سعيدًا وفرحًا بما آتانى وهو يضحك: غور فى داهية بقى يا خلبوص يا بتاع النسوان.. ومد يده إلى عصاه فأخذنى صلاح فى حضنه وجريت والضحك ورائى وأمامى يهز أركان العوامة.

الساعة الرابعة

مع جميلاتى المنحرفات على نور القمر!

 

غادر محمد صلاح ولم أحاول الحديث معه عن موضوع الانتقال من ليفربول، ربما لعدم توريطه فى تصريح غير محسوب الجوانب، وربما لفرحتى بالعودة إلى الأستاذ وتوفير الوقت للاستمتاع به، فالليلة هى التى أنتظرها، هى الوعد المؤجل، هل أحب الأستاذ «نور القمر» هذه؟!

اقتربتُ من باب العوامة وإذا بمفاجأة تنتظرنى، ليست أصوات الموسيقى الراقصة التى تتعالى فقط ولا صوت عدوية الذى يلعلع: 

إلا ده يا عزال إلا ده 

بحبه والحب عبادة 

بيقولوا إيه اسم الله عليه 

عسل أبيض وحلاوته زيادة 

المفاجأة الكبرى ظهرت عندما طرقت الباب ففتحت لى الست «بسيمة عمران» والدة صابر الرحيمى فى رواية الطريق، وفاحت روائح عطور وأجساد نساء فتية وضاحكة، ورأيت حميدة بطلة زقاق المدق تجلس على كنبة بفستان أصفر شفاف، وحتى إحسان شحاتة بطلة القاهرة الجديدة جاءت بكحل عينيها وحزن عمرها، وبجوار النافذة كانت تقف زينب التى ضحت بدينها واعتنقت الإسلام من أجل عيون عمر الحمزاوى فى رواية الشحاذ، وبجوارها «وردة» عشيقة الحمزاوى فى مفارقة محفوظية، ومن خلفهما ظهر منتخب ثرثرة فوق النيل «سمارة بهجت، سنية كامل، ليلى زيدان» حتى نفيسة البائسة جاءت من بداية ونهاية!، وحولهن فتيات صغيرات وعشرات من نساء الروايات، لكننى لم أجد الأستاذ فى مكانه!، وأشارت إحداهن إلى سلم صغير نزلت درجاته القليلة ووجدت الأستاذ فى انتظارى وأخذنى معه إلى غرفة صغيرة بها مقعدان وبعض الكتب والشموع الموزعة على الأركان. 

سألنى الأستاذ: مين فى دول أكتر واحدة عجبتك؟!

- ولا واحدة منهن!

- دول اللى بيقولوا عليهن منحرفات وبنات ليل، تخيل نفيسة البائسة مش شايفين فيها حاجة غير إنها مومس بداية ونهاية!، نور اللى حاولت تنور حياة سعيد مهران فى اللص والكلاب شايفنها كده برضه.. منتهى الظلم أن يقال إن ٩٠٪ من نساء رواياتى منحرفات، لقد سمعت هذه الجملة كثيرًا، والسبب فى ذلك يرجع إلى السينما، لأنها أعطت أدوار المنحرفات لفنانات كبار ومشهورات.

اعترافات خاصة عن نور القمر 

ـ يا أستاذ.. أنت حبيت نور القمر؟!

ـ يا ابنى كفاية السؤال ده بقى، ها أجاوبك لما تقولى مين فى الستات اللى بره دول عجبتك؟

ـ قلت لحضرتك حبيت ستات تانية خالص محشورين جوه قصصك مش رواياتك. 

زى مين يا ولا.. بطل ملاوعة بقى. 

أولهن تلك الفتاة التى سرقت قلب وعقل بطل قصة «العرى والغضب» فى مجموعة الجريمة، فقد ترك قضية حياته وضرب موعده مع المحامى كى يحظى بلحظات مع تلك الفاتنة: «ناعمة مستكينة، مهذبة غارقة فى الطمأنينة، ملهمة لأحلام البيت السعيد، تنتشر كالشذى فى أعماقه فتشكل بضعفها المنساب طاقة مسيطرة بعون الإغراءات والرغبات الدفينة، وكانت بمجلسها أمامه فى الترام صورة مجسدة لأمنية عذبة غامضة منعشة للروح، والتقت عيناها فى حركة عفوية بعينيه المركزتين فاعتدلت فى جلستها ونحت وجهها مدارية ابتسامة خفيفة جدًا».

قتلتنى سعاد وهبى فى المرايا التى تألقت وسط طلاب الجامعة فى الثلاثينيات، حيث كان يغلب طابع الاحتشام وتجنب الزينة، لكن سعاد فاقت كل حدود الجمال والدلع والملاغية، تعجبنى فتاة الإسكندرية الداعرة العبقرية فى قصة «قبيل الرحيل مجموعة بيت سيئ السمعة» التى أخذت الموظف بركات إلى عوالم لم يكن يحلم بدخولها، وعرف فى ليلة واحدة عن الإسكندرية ما لم يعرفه خلال أربع سنوات قضاها فيها قبل الانتقال إلى الصعيد، ولم أجد أجمل من الفتاة اليونانية بائعة اليانصيب فى قصة «دنيا الله» التى جعلت عم إبراهيم يهرب برواتب الموظفين ويأخذها ليعيش معها برأس البر أيامًا هى الأجمل فى عمره، حتى إنه لا يهتم بعواقب سرقة الرواتب ويعيش مثل ملك متوج معًا، فبينما البوليس يبحث والموظفون يصرخون: كان عم إبراهيم فى أبى قير يجلس جلسة مريحة على الشاطئ ويراوح النظر بين البحر وياسمنته التى تطايرت خصلاتها الذهبية مع النسائم وبدا حليق الذقن مستور الصلعة بطاقية كالحليب عكست بشرته.. جاء مزودًا بما يحتاجه شهر العسل، ثيابًا وأدوات زينة وهدايا ولوازم المزاج والكيف وكان يومه بين الشاطى والغرفة».

ـ خلينا فى نور القمر بقى.

طب فكرنى. 

ـ حاضر: 

«من هى نور القمر.. امرأة ناضجة تتألق بالأنوثة الكاملة هه، لعلها فى الثلاثين، تختلف الآراء فى تقدير سنها، لا تجد معلومة شافية عنها، جميع السكارى يتكاشفون بعذوبة جمالها ولكننى فيما بدا لى خُصصت بالهيام بها حد الجنون، ماذا؟!، إنهم منهمكون فى الأكل والشرب والضحك والطرب، إعجابهم بها عابر على حين سلبت منى بشراهة الروح والجسد».

ونور القمر هى التى جعلت البطل يسير كالمجنون يبحث عنها فى كل كازينوهات إسكندرية حتى يجلس وحيدًا يتأمل أحواله مع حبها فيقول: «عرفت الحب فى حياتى إنه كالموت تسمع عنه كل حين ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضر، هو قوة طاغية يلتهم فريسته يسلبه أى قوة دفاع، يصب الجنون فى جوفه حتى يطفح به، إنه العذاب والسرور واللانهائى، تلاشى شخصى القديم تمامًا وحل محله آخر.. وجعلت أتساءل: كيف الوصول إلى نور القمر؟». 

أنت حبيتها أكتر منى ومن البطل.. أنا حبيت مرة واحدة فى حياتى، لكننى تقلبت فى القاهرة من قمتها إلى أسفلها، ومن أسفلها إلى قمتها فعرفت النساء من جميع الأشكال والألوان، وأنا صغير عرفت العوالم، وكانت هناك صالات الملاهى منتشرة مثل صالة بديعة وغيرها، حيث عرفنا الراقصات والمغنيات ومشينا فى شارع النساء من أوله إلى آخره، بخيره وشره، أحببت كثيرات كلهن كن بيضاوات، وشعرهن بين الذهبى والعسلى، وعيونهن كانت سوداء- فأنا أحب العيون السوداء فعلًا والله- أحلى عيون فى رأيى هى السوداء الكحيلة، وقعت فى الحب ولم يشفنى منه إلا قصائد طويلة كتبتها فى الغزل العفيف، فلا يوجد تأليف أو خلق فنى دون حب من نوع ما.. أجمل أنواع الحب للخلق: حب المرأة.. كلما كان المؤلف فى «حالة عشق» أعطى فنًا.. ولهذا فالخلق الفنى مرتبط بالشباب والرجولة.

أول قصة حب حقيقية فى حياتى، عشتها فى العباسية، كنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة فى حوالى الثالثة عشرة، بدأت بعلاقتى بأخيها صديقى فى الدراسة، وهو من أسرة تتخذ الطابع الأوروبى فى التعامل وترفض التقاليد المصرية التى كانت سائدة وقتها، فكانت هذه الفتاة تخرج لتحيى أصدقاء أخيها وأنا واحد منهم، ورغم أن اللقاء لم يجمعنا منفردين أبدًا ولم يقم حوار بيننا، إلا أنها كانت تمثل صورة النموذج الذى أتخيله فى ذهنى فوهبت لها ساعات طويلة، سارحًا فى جمالها وصوتها العذب، وهى لا تعرف هذا رغم أنها كانت تكبرنى بخمسة أعوام كاملة، وظلت أخت صديقى مسيطرة على عواطفى سنوات طويلة، قاسيت من مرارتها لأننى لم أستطع الإفصاح عن هذا الحب، ولم أجرؤ على لفت انتباهها أو الحديث إليها، كنت أكتفى بالنظر إليها والسرحان فى دنيا الأحلام، فقد كان حبها بالنسبة لى حلمًا جميلًا، كنت بعد أن تنتهى مباراة الكرة قبيل المغرب أجلس فى مقابل الشرفة التى تقف فيها وأنظر إلى وجهها الجميل من بعيد، كنت أعلم أن ارتباطى بها مستحيل، وعندما علمت أنها ستتزوج، عصر الحزن قلبى.

الحب الأول إن لم ينته بالزواج فقد يخفت ويتوارى ولكنه يطل من الذاكرة بين الحين والآخر، ولقد صوّرتُ قصتى مع تلك الفتاة فى الثلاثية «رواية قصر الشوق» وإن اختلف بعض الأحداث والتفاصيل التى اقتضتها الرواية، وأعترف بكل صدق بأن شخصية «كمال عبدالجواد» فى الرواية تتشابه معى إلى حد كبير حتى فى قصة حبى الأول، وإن لم يكن لى حظ كمال عبدالجواد فى هذا الحب، فقد استطاع هو الوصول إلى حبيبته والتحدث إليها، أما أنا فقد ظل ذلك حلمًا أستطيع أن أقول إن ما كتبته فى «قصر الشوق» يمثل جوهر تلك القصة.

أنا لا أؤمن إلا بالحب الناضج، أى هذه الرغبة الملتهبة فى الشخص الآخر، وهذا الحب يقوم على أساسين مهمين هما: الجاذبية الجنسية، والتوافق الروحى، وبدونها لا يقوم حب. فأنت من أجل أن تحب امرأة وتطلق على نفسك أنك تحب، فعليك أن تحب عقلها وجسمها، فإذا فقدت أيهما فتأكد أنك لا تحب، فليس هناك حب خيالى أو أفلاطونى، وعلى هذا أنا أعتبر «روميو» لم يكن يحب «جولييت» كذلك لم يكن «قيس» يحب «ليلى»، لأنهما فقدا أحد العنصرين المهمين.

كنت أقول إن الزواج سيحطم حياتى الأدبية، وانتهى الأمر إلى قرار برفضى الفكرة، وذات يوم أبلغتنى والدتى عن عروس ثرية جدًا يتمناها كل شاب، كما كانت جميلة وتعلمت فى مدارس لغات وكانت المفاجأة التى لم تتوقعها الوالدة أننى رفضت عرضها بكرامتى، فلا يوجد تكافؤ مادى بيننا، وكان لزامًا أن أتزوج حتى تكف الوالدة عن إلحاحها، وكان أحد أصدقائى متزوجًا، ولزوجته أخت هادئة الطباع رقيقة المشاعر، فوجدت فيها ما أبحث عنه، إذ كانت متفهمة طبيعة تكوينى الشخصى واحتياجاتى ككاتب، تعرف أننى لست اجتماعيًا ولا أميل إلى مجالسة اجتماعية عادية، فكانت الزوجة المناسبة لى من مختلف الوجوه، وفى عام ١٩٥٤ تزوجتها سرًا وأنا فى سن «٤٣» فى شقة شقيقى «محمد» وأخفيت خبر زواجى عن والدتى بناء على نصيحة أخى وأختى إشفاقًا عليها، خاصة أنها كانت قد قطعت شوطًا كبيرًا فى الإعداد لزواجى من قريبتها الثرية، لهذا أخفيت عنها الخبر، وحرصت على أن تعلم بالتدريج خطوة، خطوة، حتى علمت فى النهاية وتوافقت مع زوجتى عطية الله.

ـ هل أنت سعيد فى مكانك؟

لن أقول لك إلا ما جاء على لسان القديس فاسليادس:

«إذا جاء الموت أعقبته سعادة كبرى.. ألا يشبه الظلام الذى أتيت منه الظلام الذى ستذهب إليه بعد عمر طويل؟ وقد أمكن أن يخرج من الظلام الأول حياة، فما يمنع من أن تستمر الحياة فى الظلام الثانى».