رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا أؤيد السيسى؟

الرئيس المجدد

أفخر بأنه قد تولى رئاسة مصر رئيسٌ دافع عن الإسلام بشكل واقعى عملى سوف يسجله التاريخ له

القلم أمانة، والكلمة أمانة، والاختيار أمانة. وفى أشهرٍ قليلة مقبلة سوف يُوضع المصريون فى لحظة اختيار كبرى أخرى كسابقاتها فى السنوات التى تلت مشهد الخامس والعشرين من يناير عام ٢٠١١م. والتكاسل عن أداء أمانة الاختيار شرٌ لا يقل فى آثاره عن سوء الاختيار، وكلاهما وضعا مصر فى لحظة حاسمة على حافة الهاوية حين ألقيا بها- ولأول مرة فى تاريخها المعاصر- بين أنياب ضباعٍ شرهة لتمزيق وحدتها ونهش جسدها وامتصاص دمها. لذلك، وأداءً لحق هذه البلاد فينا، أقوم فى هذا الموضع بأداء أمانة القلم والكلمة، انتظارًا للحظة أداء أمانة الاختيار، ولا أبغى من كليهما سوى شكر الله على نعمة الوطن، وعشقًا لهذا الوطن ذاته.

كسَمت الذين يلهثون بين سراديب التاريخ وأسراره بحثًا عن اليقين، سوف أستعين بتلك الحكايات والأسرار لكى أصوغ اختيارًا سياسيًا عادلًا، لأن التاريخ لا يحابى أحدًا، ولا ينسى المخلصين تمامًا كما لا يغفر للخونة. من التاريخ البعيد والقريب أستمد تلك القوة فى عدم الرضوخ للإرهاب النفسى، أو الابتزاز والخوف من اتهامات سمجة توجه أسنتها لكل من يعلن موقفًا سياسيًا يتعارض مع أغراض ذوى الهوى والمصالح، أو مُدعى البطولة مدفوعة الثمن، أو المرجفة قلوبهم الذين ينساقون خلف كل من يحاول أن يقذف هذه البلاد بحجر.

إننى أؤيد هذا الرجل عبدالفتاح السيسى.. فى سيرته فى حكم مصر فى عشر سنوات ماضية، وأؤيد ترشحه حسب مواد الدستور المصرى لفترة رئاسة جديدة. ولا يأتى فى المقام الأول وعلى رأس قائمة أسباب هذا اليقين أى شىء يتعلق بتفاصيل معيشية. لأننى لا أؤمن بالمنطق البراجماتى فى العلاقة بين الفرد ومواقفه السياسية. ولا أصوغ كمواطن علاقتى بمصر على أنها مكان إقامة، أو أن ارتباطى بها كالذين يعبدون الله على حرفٍ. إن أول أسباب تأييدى هذا الرجل يتعلق برؤيته هو شخصيًا لمصر، ورؤيته لتاريخها وشخصيتها، ومواطن ضعفها التى كانت مزمنة مشينة لا تليق بها. ويمكن أن أوجز هذا فى عبارة واحدة، أول أسباب تأييدى له أنه مفكرٌ مجددٌ تولى منصب الرئاسة، أو رئيسٌ بدرجة مفكر مجدد. وهو أحد ثلاثة أسباب من أجلها أعلن الرضا الشخصى التام عن سيرته فى الحكم فى السنوات السابقة، وتأييدى اختياره لفترة حكم جديدة.

 

إننى كمواطن مصرى مسلم- يدرك جيدًا سماحة الإسلام ويدرك ما تعرض له الإسلام فى مصر عبر القرون من تشويه على أيدى كثيرين من المسلمين، سواء من العوام أو الحكام أو حتى بعض العلماء والفقهاء- أفخر بأنه قد تولى رئاسة مصر رئيسٌ دافع عن الإسلام بشكل واقعى عملى سوف يسجله التاريخ له، بأن خلص مصر من أسوأ مشاهد كانت تجرح شخصيتها التاريخية المتسامحة المتسقة مع صحيح الإسلام. إننى أقصد ما كانت تتعرض له دور العبادة المسيحية من اعتداءات أو تضييق عبر القرون الماضية، وحتى قبيل توليه الرئاسة.

الذين لم يقرأوا تاريخ بلادهم لا يدركون حجم هذا الإنجاز ويمرون عليه مرور العابرين. فممارسة اعتداء العامة على دور العبادة المسيحية فى مصر لها جذور تاريخية وأسباب أبعد كثيرًا من العصر الحديث. بدأت فى مصر منذ القرون الأولى بعد الغزو العربى لمصر حين دشن بعض الفقهاء فكرًا يتعارض مع سماحة الإسلام وشخصية مصر. استقووا فيه أحيانًا بشخصيات بعض الخلفاء المتعصبة، وأحيانًا أخرى بتعصب العامة. لدينا عشرات الوقائع بداية من عصر ما بعد عمرو بن العاص الذى سمح ببناء كنيسة مار مرقس فى الإسكندرية. من بعده تعرض أقباط مصر لموجات تضييق أو منع حسب الرؤى الشخصية للخليفة أو الوالى، ومن تلك الموجات ما حدث فى عهد بعض خلفاء بنى أمية وبنى العباس والعهد الفاطمى.. لكن أسوأها على الإطلاق ما رواه المقريزى عن هدم معظم كنائس مصر على أيدى العامة عام ١٣٢٠م. ثم تم تدشين فقه، وتمت محاولة إعادة تفعيله فى القرنين التاسع عشر والعشرين. ولم يختلف الموقف الرسمى لحكام مصر طوال تلك القرون عن موقف العامة. حيث تباينت مواقف الحكام بين متسامح أو متعصب أو خائف من تعصب العامة، كما حدث بعد مأساة هدم كنائس مصر فى العصر المملوكى. فى القرنين الأولين من حكم الاحتلال العثمانى لمصر، استمرت سياسة التضييق على أقباط مصر. فى القرن التاسع عشر تم تغيير نوعى فيما يسمى بالخط الهمايونى الذى منح الأقباط بعض المزايا، مقارنة بما سبق ذلك التاريخ، وأبقى حق ترميم وبناء الكنائس فى يد السلطان نفسه.

فى القرن العشرين، خاصة فى جنوب مصر، كان مشهد تدخل العامة لمنع بناء الكنائس مألوفًا. ومع انتشار الفكر الدينى المتعصب عبر تكوين الجماعات الدينية السياسية وعبر انضمام بعض العلماء فكريًا قويت تلك المشاهد، وتضخمت، وظهر فى القاموس السياسى المصرى أسوأ مصطلحاته «المواءمة»، والذى لم يكن سوى تنحية القانون جانبًا، والرضوخ أحيانًا لتعصب العامة. ثم كان أخيرًا ما حدث بعد فض الاعتصامات المسلحة من استهداف دور العبادة المسيحية فى بعض محافظات مصر خاصة فى مصر الوسطى.

لذلك فما فعله الرئيس السيسى بعد توليه مسئولية حكم مصر- من وضع نهاية لتلك الممارسات عبر إصدار قانون دور العبادة والذى تم نشره بالجريدة الرسمية أغسطس ٢٠١٦م- هو حدث تاريخى غير مسبوق، تم بمقتضاه الانتصار للدولة المدنية، وإنهاء فوضى تدخل التعصب الدينى فى الحياة المجتمعية للمصريين. لقد وضع حدًا لعبث تاريخى، وسيصبح وسيظل ما فعله حدًا فارًقا بين فكرَين مختلفين تمامًا، وبين عهدَين تاريخيين، عهدٌ استمر أربعة عشر قرنًا، وآخر بدأ فى عام ٢٠١٤م.

 

عبدالفتاح السيسى المفكر المسلم المجدد الذى تولى منصب الرئاسة المصرية عام ٢٠١٤م قام باختراق إحدى المناطق التى كان يعتبرها البعض حكرًا على بعض رجال الدين، وذلك حين فاجأنا بالذهاب إلى مبنى الكاتدرائية، مشاركًا للمصريين فى الاحتفالات الدينية فى واحدٍ من أجرأ مشاهده، والذى أعلن بوضوح أننا أمام رجلٍ يقرأ تاريخ بلاده، ويستوعب الفكر الدينى المنتشر فى مصر، ويدرك الفواصل بين الضال والصواب من هذا الفكر. كان هذا المشهد صفعة كبرى على الوجوه الكالحة التى كانت تطل على المصريين فى مناسبات أعياد الأقباط محاولة اغتيال شخصية مصر التاريخية، ومحاولة فرض التعصب الدينى عبر تمرير نشر فتاوى حرمة تهنئة أقباط مصر بأعيادهم الدينية، ما فعله السيسى فى سنوات حكمه الأولى هو أنه نقل مصطلح «الدولة المدنية» من مجرد ثوب نظرى مهلهل، أحرقته ممارسات شعبية خاطئة توارثتها أجيال من قرونٍ طويلة، وتنطع بعض من يعتقدون أنهم حماة الإسلام، إلى حقيقة واقعة على أرض مصر.

 

كلنا نذكر جيدًا الأحداث والمشاهد التى تم فيها انتخاب السيسى رئيسًا لمصر، قبلها بعامين فقط صوّت ما يقرب من ثلاثة عشر مليونًا من المصريين لصالح الهوس الدينى المزيف، كان ذلك هو حصاد عقود طويلة من العبث بالعقل الجمعى المصرى، تم تكوين ظهير شعبى مساند للتعصب الدينى فى العقود الأربعة السابقة لذلك الحدث، وكثيرون ممن خرجوا على الجماعة بعد عامين من انتخابها- مجلس الشعب ثم الرئاسة- لم يغيروا قناعاتهم التى استقرت بداخلهم، إنما خرجوا لأنهم اعتبروا الجماعة قد خدعتهم، وأنها لا تمثل هذا المشروع، أى أن هؤلاء لم يلفظوا المشروع ذاته إنما لفظوا من تم انتخابهم لتنفيذه، ثم مشاهد الخراب الاقتصادى الذى اقترب بمصر من حافة الإفلاس الاقتصادى، موجة هجوم شرسة خارجية من قوى ودول كبرى ضد ثورة يونيو وقائدها، وحرب عسكرية فى أرض سيناء.

فى وسط هذا الخضم العنيف، فاجأنا السيسى باقتحامه منطقة ألغام خطرة، لأول مرة منذ عصر الجمهورية الأولى يقوم رئيس مصرى فى خطاب علنى صريح بالتفريق بين ملفين، الأول هو الإرهاب المسلح، والثانى هو الخطاب الدينى. وقف الرئيس يعلن للمصريين أن الخطاب الدينى السائد فى مصر يحتاج إلى تصويب وتعديل، كفرد مصرى عادى، لا يقترب من تلك المسائل بهذا الوضوح والتحديد إلا من لديه رصيدٌ قوى من العلم النظرى المجرد المتراكم عبر قراءات كثيرة، ولديه إلمام تام بما كان يحدث فى مصر، فى مساجدها وقراها ومدنها وأحيائها. غالبية المصريين كانوا يحصرون أزمة مصر فى الجماعات المسلحة، ولم يقترب من ملف الخطاب الدينى العام الرسمى والخاص إلا المفكرون والمجددون، والذين دفع بعضهم ثمنًا لهذا الاقتراب حياته أو حريته. هذه نقطة مهمة أن الرئيس كان لديه من الثقافة المتراكمة ما يميزه- كمواطن مصرى- عن كثيرٍ من المصريين، وكرئيس فقد كان أمامه خياران، الأول المنطقى من الناحية السياسية النفعية المجردة، والثانى الخيار الأصعب والأخطر والأشرف.

اختار الرئيس أن يمد يده لكرة الجمر الملتهبة وهو محاصر- كرئيس مصرى- بمشاهد العداء المباشر والتآمر والمعاناة الاقتصادية والفوضى الداخلية، من وجهة النظر السياسية النفعية كرئيس فى لحظة استثنائية وملايين من شعبه أسير عقليًا لهذا الخطاب الدينى المضل، يمكن حسم القول بأن اختياره الذى اختاره- من حيث توقيته والظروف الدولية والمحلية المتحفزة ضد مصر وضده شخصيًا- هو الأسوأ عليه هو شخصيًا، مغامرة بفقد تأييد المأسورين عقليًا وبوضعه هو شخصيًا فى موقف مواجهة شعبية غير متكافئة، مواجهة مع نجوم شعبيين يدافعون باستماتة عن مناطق نفوذهم الشعبى الروحى، ومن وجهة النظر القيمية والضميرية والأخلاقية، بل والدينية- لرجل امتلك من المعرفة والإلمام بواقع مصر هذا القدر- فإننى أصنف اختياره بأنه الأشرف له، والأخلص لبلاده. اختيارٌ لا يتجرأ عليه إلا أصحاب التجرد والإرادة والعزم من الرجال.

 

من مشاهد العار التى وجدها الرئيس فى انتظاره، كانت ظاهرة أطفال الشوارع الذين ألقت بهم أسرهم المفككة إلى الشوارع، فنشأوا وتربوا أسفل الكبارى فى حياة قاسية لا يمكن أن يُنتظر منها سوى أن تلقى إلى البلاد بآلاف من المجرمين والمنحرفين وقساة القلوب، وفاقدى أى قيم أخلاقية أو وطنية أو حتى إنسانية. 

فى عام ١٩٤٢م، عانت مصر من نفس المشهد، وسجل أحد الأطباء الإنجليز فى كتاب منشور أن عددهم بلغ نحو ٦٣ ألف طفل فى وطن تعداد سكانه ١٧ مليون نسمة، وقتها تمت دراسة الظاهرة مجتمعيًا ودينيًا، وخلصت القيادات الدينية إلى أن أحد أسباب ذلك يكمن فى استغلال الأزواج لحق تطليق الزوجة حقًا مطلقًا بلا انصياع لصحيح الدين الإسلامى. لذلك قررت تلك القيادات الدينية التقدم وقتها بمشروع قانون يمنع الزوج من هذا العبث الدينى، وأن يكون الطلاق فقط أمام القاضى أو المحكمة، وبعد توفير ضمانات كافية لحماية الزوجة والأطفال بعد الطلاق. لم يُنفذ القانون وقتها ولم يخبرنا الكاتب عن تطور المسألة لأنه غادر مصر.

قام الرئيس السيسى بالتصدى لنفس الظاهرة، وقرر تنفيذ ما فكرت فيه القيادات الدينية عام ١٩٤٢م، بأن يمنع وقوع الطلاق الشفهى وأن يكون الطلاق، تمامًا كالزواج، لا يتم إلا أمام المحاكم المختصة وأمام القاضى حمايةً للأسر المختلفة والأطفال وحمايةً للمجتمع، وهذا من صميم مسئوليته كرئيس للجمهورية. لكن جهوده لم تتم بسبب تغير موقف القيادات الدينية المعاصرة، وتبنيها موقفًا مناقضًا لتلك التى مر عليها أكثر من ثمانية عقود. وبدلًا من أن تسعد هذه القيادات بوجود رئيس مجدد، وتعمل معه من أجل صالح البلاد والمواطنين، وقفت حجر عثرة أمام ذلك فى مشهد غريب وفريد حين يتم وضعه فى مواجهة مشهد ١٩٤٢م.

 

لقد أَولى الرئيس المفكر المجدد أولوية قصوى لطرق أبواب التغيير ذات الصبغة الدينية، لما أدركه من تأثيرها الاجتماعى والاقتصادى البالغ على مصر والمصريين فى العقود السابقة. لكنه لم يغفل الأبواب الأخرى التى لا تقل فى أهميتها عن تلك الدينية. فى بحثى المنشور فى «الكتاب الأسود» والذى يبحث فى قصة مصر الحضارية منذ فجر التاريخ حتى المشاهد المعاصرة، وفى الجزء الخاص بتصورى عن طرق استنهاض طاقات المصريين الكامنة للانتقال بمصر إلى ما يليق بها من مكانة حضارية، وصلتُ لنتيجة بحثية مهمة، هذه النتيجة بُنيت على معطيات تاريخ مصر الموثق فى خمسة آلاف عام. 

قادتنى هذه المعطيات إلى حقيقة مهمة، أن المصريين لن يتململوا من سكونهم الحضارى الذى قزم سقف طموحاتهم إلى مجرد البقاء على قيد الحياة إلا بخوض معركة الهوية وحسمها أولًا. سرٌ من أسرار تفردهم وتعملقهم حضاريًا فى عصورهم الذهبية هو قصة الهوية. لقد شرد المصريون وضلوا طريقهم عبر القرون حتى تنازعتهم هوياتٌ مختلفة، وفى الحقبة المعاصرة عبثت قوى الظلام بهذه الهوية، وحاولت أن تحولهم إلى أمة أخرى مختلفة عن حقيقتهم التاريخية وكادت تلك القوى أن تنجح. فلم تكن مشاهد الفوضى والدموية والاستجابة لدعاة الخراب والتقسيم واستعداء فئات الشعب المصرى ضد بعضها بعضًا، ولم تكن مشاهد الانخراط فى صفوف تنظيمات سرية وعلنية متطرفة، ولم تكن مشاهد اصطفاف ملايين منهم دعمًا لفكرة راديكالية متطرفة دخيلة على مصر، لم يكن كل ذلك سوى مظاهر اقتراب قوى الظلام من تحقيق هدفها فى حرق هوية مصر للأبد.

فى وسط هذه المشاهد عبّرت عن نفسها شخصية الرئيس ذى الوعى بخطورة قضية الهوية. عبرت هذه الشخصية عن نفسها بقوة فى مشاهد وتفاصيل محددة، وثقها تاريخ مصر المعاصر لتكون بداية لطريق لا بد لمصر والمصريين، إن أرادوا استكمال استفاقتهم الحضارية، أن يسيروا به لنهايته. لم يتخذ الرئيس المجدد موقفًا مُعاديًا أو متضادًا مع أى مكون من مكونات هوية مصر. جعل لنفسه هدفًا أن يعيد المصريين إلى جذورهم التاريخية الأصلية التى حاولت قوى الشر أن تطمسها، وأن تضع المصريين فى موضع عداء مباشر لها، بأن يتصدر بعض المشاهد الرسمية العالمية بوصفه رئيسًا لمصر. جعل من مناسبة نقل بعض مومياوات ملكات وملوك مصر الأوائل فى ذروة مجدها حدثًا كونيًا متفردًا شاهده العالم على الهواء مباشرة. وقف رئيس مصر رسميًا على أبواب متحف الحضارة، منتظرًا وصول الموكب المصرى الملكى لكى يقوم بشكل رسمى بتوصيل هؤلاء الأجداد إلى ما تم تجهيزه بما يليق بمصر، وبهم، وبما وصلوا إليه من مجد. لم يكن الحدث تجاريًا كما يتوهم البعض لترويج السياحة، وإنما كان حدثًا سياسيًا لإعادة إعلان هوية مصر الحقيقية بكل مكوناتها وكل إرث مجدها.

ثم توالت المشاهد التى تؤكد هذه الحقيقة، مبانٍ رسمية جديدة فى عاصمة الحكم المصرى الجديدة يتم تشييدها بتصميمات تجمع مكونات هذه الهوية، إعادة بعث فنون مصر القديمة، تجديد كنائس مصرية، تجديد مساجد مصرية صوفية عتيقة، خطاب رئاسى للمصريين يستخدم مفردات بعينها أهمها «يا مصريين». هذا هو ما وصلتُ إليه فى كتابى، أن نعيد بعث مصطلح «الأمة المصرية» بشكلٍ معاصر جديد يقوم على أن يتصالح المصريون مع كل مكونات هذه الهوية دون أن يسمحوا لقوى الشر باستعدائهم ضد أنفسهم وضد إرثهم الذى منح أنوار الحضارة للكون كله. حين كنت أكتب هذا، كنت أتخيل أنها مجرد أحلام خيالية غير قابلة للتحقيق على أرض مصر المعاصرة المضطربة المواجهة لأخطار تهدد وجود الدولة ذاتها. حتى رأيتُ أعلى قيادة مصرية تقوم بذلك بالفعل. لهذا فتأييدى له ضميرى وأخلاقى قبل أن يكون سياسيًا.

 

من مظاهر شخصية الرئيس المجدد وتعبيرها عن نفسها بشكل عملى واقعى على أرض مصر، ما قام به السيسى من تجهيز قيادات وكوادر إدارية وسياسية من الصف الثانى من بنات وشباب مصر. من مساوئ عصور حكمٍ سابقة أنها أغلقت الأبواب أمام أبناء المصريين وحطمت أحلامهم المشروعة فى الترقى السياسى والمجتمعى، بل يؤسفنى أن تلك الأنظمة كانت أحيانًا تتعمد استبعاد قيادات وطنية شريفة مخلصة استجابةً لضغوط «شلة الحكم» الفاسدة، ولدىّ وقائع حقيقية اقتربت من تفاصيل بعضها، عندما اطلعت على تفاصيل استبعاد قيادة محلية قدمت لمحافظة قنا فى سنوات لم تبلغ أربعة ما لم يتحقق على أرض المحافظة طوال العقود السابقة. وتم استبعاد هذه القيادة بعد تصديها لواقعة فساد صريحة ومحاولة أحد كبار الشلة الاستيلاء على جزء من أراضى الدولة دون وجه حق. رفض الرجل الشريف فتمت الإطاحة به بعد عدة أيام فقط من الرفض. عن اللواء صفوت شاكر محافظ قنا الأسبق أتحدث.

كنا نسمع كلامًا كثيرًا عن ثروة مصر القومية من شباب مصر، على طريقة الفنان أحمد زكى فى فيلم «ضد الحكومة» وهو يقول: هنستخدم كلام كبير من عينة مستقبل مصر وشباب مصر، لكننا على أرض الواقع كنا نعلم الحقائق المحزنة، أن الجميع مستبعد ما لم يكن ينتمى إلى تلك الشلة الضيقة أو مجموعة العائلات التى تحكم مصر.

ربما لا يقدر بعض المصريين اليوم ما فعله السيسى فى هذا الملف تحديدًا، لكن فى يومٍ سوف ينصفه التاريخ. لقد اتبع الأسلوب العلمى الأكاديمى فى إعداد قيادات محلية وسياسية من الشباب «أول الثلاثينات والأربعينات»، ويتم إلحاق النابغين منهم بعد إنهاء تعليمهم الجامعى بأكاديميات مصرية على رأسها شخصيات مصرية ذات تعليم وثقل وخبرة دولية. وأهم مثال لذلك الأكاديمية الوطنية للتدريب بقيادة د. رشا راغب. عملية الانتقاء إلكترونية لا مكان فيها لوساطة أو تدخل بشرى لضمان اختيار أكفأ العناصر. أعلم بشكل شخصى قصة أحدهم حين فشل فى اجتياز الاختبارات أكثر من مرة، وفى كل مرة كان يقوم بتطوير إمكاناته العلمية ثم يتقدم لخوض الاختبار حتى تحقق له هذا الاجتياز. 

من هؤلاء ومن غيرهم أقر السيسى أسسًا جديدة لانتقاء قيادات محلية وسياسية شابة تبدأ ممارسة عملها العام مبكرًا عبر تولى مناصب كبرى، مساعدى محافظين مثلًا، حتى تكون مؤهلة تمامًا عمليًا وعلميًا لتولى مهمة المسئول التنفيذى الأول فى المحافظة. هذا التغيير الكبير الذى ربما لم يشعر به أحد هو عودة لجذور الممارسات المصرية الأصيلة والقديمة فى إعداد الكوادر.

فى الجزء الثانى.. الرئيس الذى انتصر لبلاده ولم ينتصر لشخصه