رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا حدث لعلوم مصر الطبية بعد الغزو العربى؟

- عمرو بن العاص أنشأ مدرسة لتعليم كل العلوم الطبية والصيدلة واستعان بالأقباط لينقلوا إلى اللغة العربية ما يعرفونه من أساليب التطبيب

- الوضع تردى بعد عمرو بن العاص واُستبعد المصريون غير المسلمين من الوظائف الإدارية والعلمية وتراجع مستوى الطب ودراسته بصورة غير مسبوقة فى تاريخ البلاد

 

كما أوضحت فى الجزءين السابقين، واستكمالًا لحلقات السطو على علوم مصر الطبية منذ عصورٍ موغلة فى القدم، فقد حدث فى عام ٥١٨ قبل الميلاد أن غزا الملك الفارسى داريوس الأول مصر، وفى عودته لبلاده أخذ معه كأسرى العديد من علماء وأطباء مصر من المعابد المصرية، خاصة من سايس صا الحجر بالدلتا ومنف.

وهناك ألحقهم بالعمل بالمركز الثقافى الكبير الذى أنشأه بمدينة «الرها» الموجودة حاليًا بتركيا. وقام هؤلاء فى فترة وجيزة بنشر العلوم المصرية الطبية، وأشرفوا على إنشاء مدارس طبية شبيهة بتلك المصرية، وأصبحت الرها مركزًا للعلوم والفنون بمن أخذوهم من مصر عنوة من العلماء والأطباء! 

فى القرن الأول الميلادى سقطت المدينة فى أيدى الرومان، وأبقوا على تلك المدارس وخرج منها علماء قاموا بترجمة كثير من المؤلفات الطبية المكتوبة وقتها باليونانية، وهى النصوص الطبية المصرية التى سطا عليها اليونانيون، إلى اللغة السريانية، ثم أخيرًا وبعد غزو العرب لهذه المدينة قاموا بترجمة تلك المؤلفات من اللغة السريانية إلى اللغة العربية، وهى التى كان لها أكبر الأثر فيما يعرف بمسمى «الحضارة أو النهضة العلمية الإسلامية»!

منذ غزو الفرس لمصر فى القرن السادس قبل الميلاد، وحتى الغزو العربى لها عام ٦٤٢م، كان لكل غزاة عُقدهم النفسية تجاه المصريين وحضارتهم وعلومهم! تجلت تلك العقد النفسية فى صورة قوانين ومراسيم وممارسات فاضت بها صفحات الموسوعات التاريخية، خاصة بعد فك شفرات اللغة المصرية القديمة، وترجمة ملايين الوثائق المصرية فى قرنين من الزمان منذ ١٨٢٢م وحتى الآن.. لقد كشفت هذه الموسوعات التاريخية المستور كاملًا! 

عبرت عُقد الفرس واليونانيين والرومان النفسية عن نفسها فى صورة سرقة العلوم المصرية، واغتصابها عنوة، ومحاولة طمس هُوية أصحابها الحقيقيين، ونسبتها لأنفسهم كما رأينا فى تكرار مشهد ترجمة البرديات الطبية دون الإشارة لأصحابها، ومحاكاة المؤسسات المصرية الطبية! وبعد غزو كلٍ منهم، الفرس، اليونانيين، الرومان، لمصر حاولوا بكل قوة حجب المصريين ومنعهم من مواصلة التعلم، وتزامنًا مع ذلك حاولوا ترحيل كل من يستطيعون ترحيله من الأطباء والعلماء بالقوة من مصر إلى بلاد الغزاة!

أما عقدة العرب النفسية تجاه مصر وعلومها، فكانت أشد تعقيدًا، ولم ينجُ منها سوى العبقرى عمرو بن العاص السياسى الداهية الذى كان مستوى تفكيره أعلى كثيرًا ممن خلفوه فى حكم مصر كما سنرى! 

أول مشهد يطالعنا بعد غزو العرب مباشرة لمصر وحتى قبل تمام العمليات العسكرية هو هروب كثير من علماء وفلاسفة وأطباء الإسكندرية من مصر ومغادرتهم مع القوات الرومانية واتجهوا إلى «أنطاكية»، حيث أقاموا هناك معهدًا علميًا كبيرًا بما معهم من علوم ومجلدات مكتوبة باللغة اليونانية والقبطية، وفى سنوات أصبح هذا المعهد مركزًا علميًا كبيرًا انتشرت منه العلوم المصرية الطبية إلى البلدان المجاورة.

بعد اكتمال الغزو العربى للشام بسنوات قام الخليفة العباسى المتوكل بنقل هذه المدرسة الجامعة بعلومها وعلمائها، ذوى الأصل المصرى، إلى «حران» بآسيا الصغرى، ثم أخيرًا تم نقلها بأمرٍ من الخليفة المعتضد عام ٩٠٠م إلى بغداد! 

بعد أن أكمل عمرو بن العاص الاستيلاء على مصر عسكريًا، وبعد أن شيد مسجده فى الفسطاط لتدريس العلوم الدينية والفقهية، ظهرت عبقريته وتحرره من أى عقد نفسية تجاه المصريين، وقرر الاستفادة من نبوغ المصريين فى علوم الطب والصيدلة، فأنشأ مدرسة طبية لتعليم كل العلوم الطبية والصيدلة مستعينًا بأطباء أقباط لكى ينقلوا إلى اللغة العربية ما يعرفونه من أساليب التطبيب. لقد استمر عمرو بن العاص فى محاكاة التقليد الذى ابتدعه المصريون من قبل غزوه لمصر بخمسة وثلاثين قرنًا! كما أنشأ أول مستشفى فى مصر بعد الغزو العربى فى الفسطاط!

بعد عهد عمرو بن العاص، بدأت عقدة العرب النفسية تجاه مصر وحضارتها فى التعبير عن نفسها بقوة وأحيانًا بعنف! قبل أن يغزو اليونانيون أو الرومان مصر كانوا قد نهلوا من علومها كثيرًا، وأوفدوا أبناءهم للتعلم فى مدارسها، فلما غزوها كان هدفهم واضحًا ومحددًا، وهو تشجيع تلك الحضارة والتوسع فيها وإنشاء المدارس والجامعات التى أصبحت مراكز العالم الثقافية، لكنهم نسبوا كل ذلك إلى أنفسهم وحاولوا طمس هوية تلك العلوم! 

أما العرب، فكانت قصتهم مختلفة، فحتى ظهور الإسلام كان الطب المعروف فى شبه الجزيرة العربية بدائيًا واختلط مع السحر، فأطباء العرب قبل الإسلام آمنوا بالسحر كوسائل علاجية وآمنوا بتأثير الخرز والأحجار والرقى والتمائم للتخلص من الأمراض وآلامها! رغم أن اشتغالهم طويلًا برعى الماشية والتجارة جعلهم يقتربون من المعرفة بجسم الحيوانات وطبيعة أعضائها وطرق عملها، واقتبسوا من الحضارات المجاورة بعض أساليب التطبيب، لكنهم كانوا بعيدين جدًا عن المستويات التى عرفها اليونانيون أو الرومان قبل غزوهم لمصر، وقطعًا كانوا، علميًا وطبائعيًا، على مسافات شاسعة من المصريين! لكنهم استطاعوا بسيوفهم الاستيلاء على مصر، ودانت لهم البلاد والشعب، ووجدوا أنفسهم وجهًا لوجه يحكمون هذه البلاد! عمرو بن العاص ترك للمصريين استكمال العمل فى شتى مناحى الحياة الإدارية والعلمية! بعده ظهرت مشكلة كبرى اختلطت فيها طبائع الشخصية البدوية، المتعالية عرقيًا بشكل متطرف أحيانًا، مع ما اعتقدوا أنه من تمام الديانة الجديدة، فقه الاستعلاء الذى ظهر مبكرًا فى شكل قرارات من رأس الخلافة أو الولاة!

الإبعاد من الوظائف الإدارية لمن لا يعتنقون الإسلام كان أسوأ ما نفثت عنه تلك العقدة النفسية العربية! لكنهم واجهوا الحقيقة كاملة بأنهم لن يكونوا قادرين على الإحلال بديلًا عن المصريين فى كل الأمور الإدارية والعلمية! فكان أن تظهر قرارات فريدة يتم فيها الإبعاد مع استثناء «جباية الخراج والطب!»، لدينا وثيقة فريدة تعود للخليفة العباسى المقتدر يأمر فيها واليه على مصر عيسى النوشرى بألا يستخدم أحدًا من القبط أو اليهود فى الأعمال إلا فى الطب والجهبذة «جباية الضرائب!»، لدينا وثائق أخرى مثل خطاب الخليفة عمر بن عبدالعزيز لجميع ولاته بإبعاد جميع العاملين والموظفين من غير المسلمين عن وظائفهم، وهى وثيقة من أكثر الوثائق حدة وعنفًا!، وعلى إثرها قام حيان بن شريح والى مصر بتنفيذ أوامر الخليفة! ونفس الخليفة أمر فى عام ٧١٨م بنقل كل ما تبقى من علماء مدرسة الإسكندرية من الأطباء إلى أنطاكية، وذلك لقربها من دمشق! وكان وقتها عبدالملك بن أبجر الكنانى ممن يدرسون فى تلك المدرسة المسيحية، فأعلن إسلامه، وغادر مع الخليفة عمر بن عبدالعزيز وأصبح طبيبه الخاص، وتم تفريق الأطباء المصريين من الإسكندرية إلى أنطاكية وحران! 

لم يكمُن الخطر فى استبعاد المصريين من العلماء، لأن الغزاة السابقين قد فعلوا ذلك بالفعل، إنما كان الخطر على مستقبل هذه العلوم، وألقى بظلاله بالفعل على مكانة مصر العلمية، فى أن العرب لم يكونوا مؤهلين ليحلوا بدلًا من المصريين!، لم يكن لديهم من الأطباء والعلماء مَن يفعل ذلك طوال القرون الثلاثة الأولى بعد الغزو!، وهذا هو السبب الذى أخرج مصر من موقعها السابق بكونها مركزًا عالميًا يُقبل إليه طلاب العلم ليتعلموا الطب والصيدلة!، لأنه حتى يوم الغزو العربى كانت مصر تتمتع بهذه الصفة سواء فى جامعة دير وادى النطرون، أو ما انتشر فى الإسكندرية من مدارس طبية أخرى.

يمكن القول إن مصر تحولت منذ ذلك التاريخ فى مجال العلوم الطبية والصيدلة من «كيان علمى دولى» إلى مجرد «كيان علمى محلى»، يحاول فقط البقاء علميًا والحفاظ على العلوم الطبية من الاندثار.

ثم تضاعف الخطر نتيجة طبيعة العرب التى تنزع للكلام والخطابة أكثر من العلوم التطبيقية، فبعد استقرار الحكم عسكريًا، وبعد أن توسعت جامعة مسجد عمرو بن العاص، اهتم العرب بعلوم اللغة والعلوم الدينية على حساب العلوم التطبيقية الأخرى. نفس المشهد حدث فى بداية المسيحية، حين أنشئت المدرسة المسيحية اللاهوتية، وكان ممكنًا وقتها أن تندثر علوم الطب والصيدلة أو تتدهور، لكن ما حال دون ذلك هو شخصية المصريين العلمية نفسها التى استفاقت بسرعة وفصلت بين مشهدين، الأول هو الصراع الدينى والمناقشات اللاهوتية الدينية، والثانى هو العلوم الطبية والصيدلة وغيرها! وهذا ما منع سقوط مصر علميًا وقتها، ثم ما لبثت أن عادت مصر وجامعة الإسكندرية القبطية وقتها لتكون بوابة التأهل الدولية لممارسة الطب والصيدلة، حيث يقول العالم «أبيانوس ماركلينوس» فى القرن الرابع الميلادى: «يكفى للطبيب والصيدلى للتدليل على مهارته قوله إنه تعلم فى الإسكندرية بجامعتها المسيحية!».

هكذا بعد عدة عقود من الغزو العربى، أصبح الجزء الأكبر من الطب المصرى والأطباء المصريين متفرقين بين عدة مدن ومواطن خارج مصر، ومعهم نسخ كاملة من المؤلفات المصرية الطبية التى كانت مكتوبة باللغة اليونانية أو السريانية أو القبطية. وهذه المدن والمواطن أصبحت كلها تحت السيطرة العربية عسكريًا، وأصبحت واقعة فى نطاق إمبراطورية الخلافة الإسلامية، بما يعنى أن الحضارة الطبية الإسلامية، شأنها شأن ما سبقها من حضارة يونانية ورومانية، قامت وبشكل أقرب أن يكون كاملًا على ما خلقه الأطباء المصريون منذ قرون طويلة مضافًا إليه ما أضافه الإغريق والمصريون فى العصور اليونانية الرومانية وحتى المسيحية!، فلدينا برديات طبية تعود لمدرسة الإسكندرية المسيحية تؤكد أن أطباء الإسكندرية المصريين قد ابتدعوا أنواعًا من الأربطة والأجهزة التى عرفت بأسمائهم، وكانت تستخدم فى حالة حدوث كسر فى العظام!، بينما كانت مجموعة فى مصر استمرت فى عملها لقرون طويلة آتية، لكنها أصبحت، بفعل شخصية الغزاة الجدد وتفاصيل الارتباك السياسى للحكام الجدد، تمارس علمها فى نطاق محلى محدود فى الأديرة أو فى المدرسة الطبية التى أسسها عمرو بن العاص، والتى تباينت أحوالها حسب من يحكم!

فى مصر، استمر عدد من الأطباء المصريين الأقباط واليهود، بجانب عدد أقل من الأطباء السريان، فى ممارسة الطب، كممارسة علاجية وتدريس لآخرين، فى بعض الأديرة. وبعضهم ترك وثائق طبية عُثر على بعضها بالفعل فى العصور الحديثة سواء برديات أو جلد غزال. ومن أهم تلك الوثائق ما يعرف ببردية «زويجا»، رغم أنها مكتوبة على جلد غزال باللغة القبطية بلهجتها الصعيدية. كانت فى حوزة الكاردينال بورجيانو، وترجمها للفرنسية عالم فرنسى «إدوارد»، ثم نشرها العالم الدنماركى زويجا ضمن كتاب يحوى آثار متحف بورجيانو بإيطاليا. 

ويعود تاريخها إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، أى فى القرن التالى للغزو العربى، ومن كتبها قام بترجمتها من اللغة المصرية القديمة من كتاب بمكتبة إمحوتب بمنف!، كانت ٢٤٥ ورقة بقى منها ورقتان وبها ٤٥ وصفة طبية لأمراض جلدية!، وتؤكد الوثيقة استمرار تدارس المصريين للطب فى الأديرة واستمرار قيامهم بترجمة علوم أجدادهم وتوثيق تاريخ المخطوطات الأصلية الأولى تمامًا كما نقوم به الآن فى منهج البحث العلمى!

بردية «شاسيناه» وهى واحدة من أهم مراجع الصيدلة والتى كُتبت فى الفترة بين القرنين التاسع والعاشر، واكتشفت ١٨٩٠م فى الوجه القبلى بمدينة جرجا بالقرب من قرية «المشايخ». مكتوبة باللغة القبطية الصعيدية. اشتراها الفرنسى بوريان وباعها للمعهد الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة. فى عام ١٩٠٤م زار مصر العالم الفرنسى إميل شاسيناه وتمت ترجمتها وطبعت فى كتاب ١٩١٤م. وتعد المرجع الأهم فى عصرها فى علوم الصيدلة والعقاقير. يبلغ طولها مترين ونصف المتر، وعرضها ٢٧ سم، وتحوى ٢٧٠ سطرًا، وبها ٢٣٧ وصفة طبية. تكرر بها وصف استخدام الأفيون كمسكن!

رسميًا استمر فى مصر على فترات وحسب الأحوال السياسية بناء بيمارستانات، ففى عهد الخليفة المتوكل ٨٥٠م تم بناء بيمارستان فى الفسطاط، وفعل ذلك أحمد بن طولون فى مدينة القطائع، وعهد به إلى طبيب قبطى هو سعيد بن ثيوفيل الذى تولى منصب «كبير أطباء» البيمارستان! فى عام ٩٦٥م بنى كافور الإخشيدى بيمارستان بالقطائع.. تدريس علوم الطب والصيدلة فى العصور الإسلامية لم يكن منتظمًا بشكل رسمى، وتباين من عهد لآخر، لكن يمكن القول إن المدارس الأيوبية كانت أكثرها ازدهارًا! إذن فى مصر كان هناك خطان متوازيان، الأول الذى استمر فى تدريس علوم الطب باللغة القبطية لعدة قرون بعد الغزو العربى، والثانى هو خط رسمى أنشأ البيمارستانات من وقتٍ لآخر واعتمد فى القرون الثلاثة الأولى على أطباء أقباط!

أما خارج مصر فقد كان للطب المصرى والأطباء المصريين دور البطولة فيما ستصل إليه «الحضارة الإسلامية» فى مجال العلوم والفنون والطب. فما نُطلق عليه الحضارة الإسلامية فى الطب مثلًا قد مر بعدة مراحل، أولاها مرحلة الاقتباس والترجمة، وثانيتها مرحلة التعلم، وآخرها مرحلة التأليف حين أصبح هناك علماء وأطباء مسلمون عرب وغير عرب. وهذه المرحلة الأخيرة لم تتم إلا بعد مرور أكثر من قرنين ونصف القرن! فى هذه المدة الزمنية الطويلة اعتمدت دولة الخلافة بشكل رئيسى على العلوم الطبية التى وجدها العرب فى البلاد التى استولوا عليها بالغزو المسلح، ولعبت فيها علوم مصر الطبية مرحلة البطولة! من باب الانحياز للتاريخ والحق والعدالة أن نلقى الضوء على هذه المرحلة التى يتم تجاهلها ويتم دائمًا الربط بين علوم الطب اليونانية والعربية وتجاهل دور العلوم الطبية المصرية!

فى مصر قامت أول مدرسة طبية بعد الغزو العربى على عاتق الأطباء المصريين، واستمر هذا الاعتماد على أطباء مصر من الأقباط لمدة تزيد على قرنين كاملين، واضطر العرب إلى استثناء علوم الطب من سياسة إبعاد المصريين عن الوظائف!، فى خارج مصر ظهر ذلك جليًا فى قيام مدرسة أنطاكية ثم حران ثم بغداد على عاتق علماء وأطباء مصريين هربوا من الإسكندرية، ثم قيام الخلفاء باستقدام من تبقى منهم فى الإسكندرية إلى أنطاكية لقربها من دمشق، كما قامت مدرسة الرها على من قام بأسرهم الفرس من علماء وأطباء مصر.

الأمير الأموى خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان قام فى عام ٧٠٤م باستقدام أطباء من الإسكندرية إلى عاصمة الخلافة الأموية دمشق وأمرهم- لإجادتهم اللغتين القبطية واليونانية- بترجمة كل مخطوطات الطب والصيدلة والكيمياء والفلك المصرية والإغريقية إلى اللغة السريانية، ثم منها إلى اللغة العربية!، وهكذا توافرت لدمشق عاصمة الخلافة الأموية نسخ مترجمة من العلوم الطبية المصرية قام بترجمتها علماء وأطباء مصريون!

فى حكم بنى مروان الأمويين قام «ماسرجويه» بترجمة كتاب القس أهرون الطبى إلى اللغة العربية، ثم أمر عمر بن عبدالعزيز بنسخ هذا الكتاب وتداوله بين الناس، قصة الخليفة عمر بن عبدالعزيز مع غير المسلمين تستحق التأمل، فهو من أكثر الخلفاء اهتمامًا بالاستفادة من العلوم الطبية لأطباء مصر، وفى نفس الوقت كان من أشد الخلفاء على غير المسلمين لدرجة أنه فرض ضريبة على دفن موتاهم، ولا يتم الدفن إلا بعد أن يدفع أهل المتوفى تلك الضريبة، كما أنه أكثر من التشدد فى إبعادهم عن تولى الوظائف الإدارية والمناصب.

أما عاصمة الخلافة العباسية بغداد فقد أصبحت مركزًا للطب والعلوم والترجمة بما أحضر إليها من علوم ومخطوطات مدرسة أنطاكية التى أسسها مصريون، وبمن أحضر إليها من الإسكندرية مباشرة من علماء وأطباء مصريين، كانت رحلة انتقال هؤلاء إلى بغداد كالآتى، من الإسكندرية إلى أنطاكية ثم إلى حران ثم مرورًا عابرًا وامتزاجًا بعلوم «جند يشابور» ثم أخيرًا إلى بغداد. اهتم بعض الخلفاء العباسيين بالترجمة اهتمامًا كبيرًا، وأهمهم الخليفة المأمون- ٨٠٤ إلى ٨٣٣م- الذى رأى أن الترجمة من اللغات القديمة إلى السريانية ثم إلى العربية تقع بها أخطاء وغموض، فقرر ترجمة الكتب إلى اللغة العربية مباشرة وأراد أن يجعل الطب عربيًا خالصًا، فشجع العرب على تعلم الترجمة عن طريق بذل العطاء، فكان فى بعض الأحيان يمنح المترجم وزن ما يترجمه ذهبًا، وأسس فى بغداد «بيت الحكمة» وجعله مقرًا للترجمة وجمع الكتب. بهذه العلوم الطبية المصرية وبهؤلاء العلماء والأطباء تحولت بغداد إلى مركز ثقافى وعلمى وأتى إليها- بدلًا من الإسكندرية- كثيرٌ من أهل الأمم اللاتينية للتعلم فيها. 

ورغم ذلك فلدينا كثيرٌ من الوثائق تخبر باستعانة بعض خلفاء بنى العباس فى بغداد بأطباء مصريين، فمثلًا مرضت جارية للخليفة العباسى هارون الرشيد، واحتار أطباء بغداد فى علاجها، فأرسل إليه أخوه عبيدالله والى مصر «بليطيان» بطرك الملكانيين والطبيب المشهور، فقام بعلاجها وسُر الخليفة بذلك وأجزل له العطاء.

لدينا قائمة بأطباء مصريين أسهموا فى صناعة النهضة العلمية لما نطلق عليها «الحضارة الإسلامية» مثل «بليطيان فى القرن الثامن، إبراهيم بن عيسى فى القرن التاسع وخدم فى بلاط ابن طولون، سعيد بن ثوفيل أيضًا فى عصر ابن طولون، نسطارس بن جوريج فى عصر الإخشيد القرن العاشر، ابنه أبويعقوب الذى عاش فى العهد الفاطمى بداية القرن الحادى عشر، سعيد بن البطريق وشقيقه عيسى فى القرن العاشر، وأطباء يهود مصريين مثل موسى بن العازار القرن الحادى عشر، الحقير النافع فى نفس القرن وغيرهم..».

بعد قرنين ونصف القرن يبدأ جيلٌ من أطباء العرب الذين تعلموا فى بغداد وأنطاكية وحران وغيرها، وبدأت ملامح ما نسميه اليوم «الحضارة الإسلامية!».

فى مصر استمر بناء البيمارستانات فى بعض عصور الدول والدويلات الإسلامية المتعاقبة، بينما استمر الوجه الآخر للطب قائمًا فى الأديرة. كانت حركة الطب والصيدلة الرسمية فى مصر تتأرجح بين الهبوط والصعود حسب اهتمامات الحكام والظروف السياسية. ازدهرت فى العصر الأيوبى بسبب المدارس الأيوبية، واستمرت فى بدايات عصر المماليك حتى قيام المنصور قلاوون- ١٢٩٠ إلى ١٢٧٩م- ببناء بيمارستان قلاوون، وبه مدرسة طبية لدراسة العلوم الطبية.

ثم بدأ عصر الانهيار العلمى والحضارى فى مصر فى أخريات العصر المملوكى والعصر العثمانى.. حتى نصل إلى ما قبيل الحملة الفرنسية حين أصبحت مصر علميًا خارج التاريخ، بينما بدأ الأوروبيون عصر نهضتهم العلمية التى قامت على ما أخذوه من علوم من مراكز علمية مسلمة قامت فى الأساس على ما أخذ من مصر.

وبعد تولى محمد على باشا حكم مصر بدأ من الصفر تمامًا، وبدأ فى استقدام أطباء وعلماء أوروبيين لتعليم المصريين وإنشاء المدارس الطبية والعلمية المتعلمة.

مشهدٌ واحد من عصر محمد على يكفى لمعرفة ما وصلت إليه مصر طبيًا وعقليًا.. قاوم المصريون تعلم علوم التشريح وحاولوا اغتيال الطبيب الفرنسى كلوت بيك.. رفضوا أن تتعلم مصريات طب النساء والتوليد حتى اضطر محمد على إلى شراء جوارٍ ليدرسن الطب.. وكانت أوليات الطبيبات اللاتى تخرجن فى عصر محمد على ستة من اليتيمات الفقيرات المريضات اللائى وجدهن الطبيب فى المستشفى فقرر تعليمهن الطب، هؤلاء كنّ أوليات الطبيبات المصريات فى مصر الحديثة، بعد أن خرجت من مصر أول طبيبة فى التاريخ تُعلم الطب فى مدرسة سايس بالدلتا منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد!

هذه قصة علوم مصر الطبية والصيدلانية من البداية إلى النهاية.. بداية تربعت فيها مصر على عرش هذه العلوم متفردة وسابقة بقرون لما جاورها من أمم وحضارات. كانت هذه العلوم المصرية هى الأساس الذى اتكأت عليه كل الحضارات القديمة فى بناء نهضتها وشكلت أساسًا لعصور النهضة فى أوروبا بعد أن تمت الإضافة إليها.. وكانت مصر لمدة تزيد على خمسة وثلاثين قرنًا من الزمان- منذ نحو ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد وحتى الغزو العربى- قبلة كونية لكل طالبى تعلم الطب حتى فى عصور الغزو الفارسى واليونانى والرومانى والبيزنطى! الفرس واليونانيون والروم والبيزنطيون جميعهم كرروا نفس المشهد وهو الاستيلاء على علوم وعلماء الطب المصرى ونقلها ونقلهم بالقوة إلى دول خارج مصر.. وهناك قاموا ببناء حضارات تلك الأمم! بعد الغزو العربى لمصر تحولت علوم الطب والصيدلة فى مصر إلى شأن محلى، بينما تم نقل العلوم والعلماء إلى مدن أخرى خارج مصر تقع فى نطاق إمبراطورية خلافات المسلمين المتعاقبة، فتحولت تلك المدن إلى مراكز حضارية كونية.

منذ بدء عصر الأسرة الملكية الأولى نحو القرن الثلاثين قبل الميلاد وحتى الغزو العربى لم يحدث- حتى فى قرون احتلالها أو فترات اضمحلالها التاريخية القديمة- أن أصبحت مصر خارج التاريخ العلمى الكونى! يمكن تسمية أول قرنين ونصف بعد الغزو بفترة «حلب» مصر علميًا وطبيًا لصالح مدن أخرى.. تمامًا كما حدث فى العصر اليونانى والرومانى، مع فارق أنه فى تلك العصور لم تخمد مصر علميًا داخليًا واستمرت جامعاتها العلمية الكونية! لأن الغزاة كان لديهم رصيدٌ سابق من العلوم المصرية! منذ النصف الثانى للعصر المملوكى وحتى الغزو الفرنسى نهايات القرن الثامن عشر خرجت مصر- لأول مرة فى تاريخها المكتوب- تمامًا من تاريخ العلوم حتى بدأت الركض محاولة العودة منذ عصر محمد على.

إرهاصات معاصرة لما ينبغى لمصر أن تكون عليه، لكنها لا تتناسب- عددًا- مع ما ينبغى! مجدى يعقوب هو أشد تلك الإرهاصات بريقًا وهو الحلقة الأكثر تلألؤًا فى تلك السلسلة الممتدة بقدم وعراقة علوم مصر الطبية.. مجموعات الأطباء المصريين فى بعض الدول وخاصة إنجلترا والذين خرجوا فى مشاهد تراجيدية مختلفة فى العقود الأخيرة من القرن السابق تمثل إرهاصة أخرى!.. لكن ذلك لا يكفى.

لأننى شخصيًا أعتقد أنه طالما لم تبلغ مصر تلك المكانة- التى بلغتها وتفردت بها لقرون طويلة- بأن تصبح صانعة ومصدرة للعلوم والحضارة، فإنها لا تزال خارج التاريخ! فمجرد البقاء على قيد الحياة كأمة لا يليق بأن يكون هو غاية للأمة المصرية!

ولدىّ يقينٌ آخر بأن هناك فى كهوف الصحراوات المصرية المترامية يكمن كثيرٌ من أسرار الطب المصرى القديم ممزوجًا بتحديثات متعاقبة!