رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر مُبدعة علوم الطب والصيدلة فى الكون!

وقف الخلقُ ينظرون جميعًا كيف أبنى قواعدَ المجد وحدى! وقواعدُ المجد لا تنحصر فى هندسة العمارة وما خلفته من أهرامات وصروح ومعابد ومقابر، إنما تتسع لتشمل كل علم عرفه العالم عبر تاريخه المدون، ثم ثبت أن مصر هى مبدعته الأولى! شطرٌ واحد من قصيدة أمير الشعراء يكفى مدخلًا، وأزيد عليه أن الخلق لم يكتفوا بالوقوف والنظر عاليًا إلى ما شيدته، بل أقروا واعترفوا أخيرًا عبر آلاف الموسوعات بأنها أم كل علم وخالقته ومبدعته الأولى. ودرة العلوم فى العالم هى علوم الطب والصيدلة التى تتعاطى مع أثمن ما يمتلكه الإنسان وهو حياته، أى صحته الجسدية والنفسية والعقلية! 

نحن نتحدث هنا عن مفردات ثبت وجودها منذ حوالى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، مثل مدارس أو معاهد طبية فى منف وعين وشمس وواست أو الأقصر ومدينة سايس، كتب ومراجع طبية يتعلمها دارسون سوف يتخصصون فى تخصصات طبية مختلفة، أدوات جراحية وطبية، معرفة مذهلة بتشريح الجسم الإنسانى، نظام علاج مجانى لكل من يحتاج، أقرب لأنظمة التأمين الصحى المعاصر، وصف لعشرات الأمراض، روشتات أو وصفات طبية أثبتت الدراسات المعاصرة فاعلية بعضها بدرجة تقارب ٧٠٪ منها! يقفز السؤال الأول إلى الذهن، كيف حدث هذا؟! كيف وصل المصريون فى الألفية الثالثة قبل الميلاد إلى هذا المستوى من المعرفة الطبية والصيدلية؟ أو بالأدق كيف ابتكر المصريون تلك المعرفة؟! فى هذا الحديث- بأجزائه الثلاثة- يهمنا أن نلقى لمحة خاطفة على هذا المجد المصرى الخالص، كما يهمنا أن نتتبع كيف انتقلت العلوم الطبية المصرية إلى الحضارات والأمم الأخرى، سواء من أقر بذلك لصاحبة الفضل أو من قطف من علومها ثم تناساها أو أنكرها!

بدأ المصرى محاولاته لفك شفرة أسرار الجسد البشرى فى القرون التى سبقت بدء عصر الأسرات، أى قبل ٣٢٠٠ق.م، وكان السبب محاولته إيجاد طريقة لحفظ الجسد حتى يكون للإنسان نصيبٌ فى عالم الخلود، وأيضًا لمحاولة معالجة ما يراه من حالات إعياء أو إصابات! تراكمت معرفته عبر عدة قرون حتى نصل لأول كتابين طبيين فى العالم وضعهما ابن الملك مينا أول ملوك مصر بعد توحيد شمالها وجنوبها فى القرن ٣١ق.م، وهما كتاب «الطب التطبيقى» وكتاب «التشريح» اللذان أصبحا أقدم مراجع يتم تدريسها فى المعاهد الطبية المصرية القديمة، ثم تلاهما كتب إمحوتب المهندس والطبيب الأشهر الذى شيد أول بناء حجرى فى التاريخ «مجموعة الهرم المدرج بسقارة»! 

نستقى معرفتنا عن الطب المصرى القديم من مصدرين رئيسيين، الأول هو ما يسمى بالبرديات الطبية التى بكل أسف تمت تسميتها بأسماء من حصلوا عليها من مغامرين وتجار وأحيانًا لصوص، والمصدر الآخر هو ما تم تسجيله على جدران مقابر بعض الأطباء، أو ما تم تسجيله على جدران بعض المعابد، أو ما تم العثور عليه من أدوات طبية وجراحية حقيقية، أو ما ذكره مؤخرًا بعض الرحالة اليونانيين فى القرون المتأخرة «الخامس وما بعده» قبل الميلاد. لكن تظل البرديات الطبية المصرية المتناثرة اليوم فى متاحف العالم المصدر الأهم الذى منح العالم ثروة عظيمة من المعرفة الموثقة عن الأمراض التى وصفها وشخصها المصريون وقدموها للعالم، والأدوية المستخلصة من مئات المواد النباتية والمعدنية وغيرهما.

بردية «إدوين سميث» تُعد أقدم كتاب جراحى فى العالم. كُتبت البردية فى القرن ١٦ قبل الميلاد، لكنها كانت مجرد نسخة من نصوص أقدم منها ويرجع تاريخها الأول إلى الأسرة الأولى حوالى ٣٠٠٠ق.م، أو منسوخة من بحث لإمحوتب مهندس وطبيب الأسرة الثالثة! سميث أمريكى قام بشراء البردية عام ١٨٦٦م وقد أمضى عشرين عامًا فى مدينة الأقصر وتوفى عام ١٩٠٦، ثم قامت ابنته بإهدائها إلى الجمعية الأثرية بنيويورك وقام العالم هنرى برستد بترجمتها! بعض ما ورد فى البردية مذهلٌ! فقد ورد فيها لأول مرة فى التاريخ الطبى الإنسانى كلمة مخ وكلمة أعصاب! تذكر البردية عشرات الحالات، منها ٢٧حالة إصابة فى الرأس والجمجمة وغالبًا كانت إصابات عمل بين عمال البناء والتشييد أو إصابات حروب! تحدثت البردية عن خياطة جروح فى الجمجمة وخياطات وراء الأذن أو سد شقوق فى البطن أثناء التحنيط. وذكرت أن إصابات فقرات العنق تنتج عن السقوط من مرتفعات، كما ذكرت جراحة فى الفم من عصر الأسرة الرابعة القرن ٢٨قبل الميلاد! 

بردية أخرى تسمى اليوم «بردية إيبرس» عثر عليها الألمانى «جورج إيبرس» فى مقبرة بمنطقة العساسيف الأثرية بغرب الأقصر بين أرجل إحدى المومياوات! تعود البردية إلى حوالى ١٥٥٠ قبل الميلاد، أى بداية الأسرة الحديثة، لكن بها سطر وثيقة يقول «عُثر عليها فى ليتوبولوس (أوسيم أو إمبابة الحالية) وأُحضِرت إلى جلالة الملك دِن». الملك «دن» هو أحد ملوك الأسرة الأولى، أى أن محتواها يعود لثلاثة آلاف عام قبل الميلاد! تحتوى البردية على وصف لعدد من الحالات يبلغ ٨٧٧ حالة. بالبردية وصف أو تشخيص لكل حالة يقابلها العلاج وجرعته وأيضًا أسلوب تناوله! من تلك الحالات أمراض جلدية، وحالات حروق، وعلاج الأطراف كأصابع اليد والقدم وأمراض الحلق واللسان، وبعض حالات أمراض النساء مثل حالة سرطان رحم، وحالة الأزما، وأهم ما يميز البردية الوصف التفصيلى للأوعية الدموية وتوزيعها داخل الجسم، كذلك حالات الانهيار العصبى! وكذلك حالات لأمراض باطنية وأمراض العيون والبلهارسيا! البردية موجودة حاليًا فى جامعة ليبزيج بألمانيا! لدينا حوالى اثنتى عشرة بردية تنتمى إلى المدارس الطبية المصرية المختلفة، منها بردية هيرست فى كاليفورنيا حاليًا من الأسرة ١٨، حوالى القرن ١٥ قبل الميلاد، وبردية كاهون أو لاهون اكتشفها فلاندرز بيترى ١٨٨٩م وموجودة حاليًا فى جامعة لندن وتعود للقرن ١٨ق.م للدولة الوسطى، وتناولت أمراض الأسنان وأمراضًا نسائية، وبردية برلين التى تعود للقرن ١٢ قبل الميلاد!

رغم احتواء بعض تلك البرديات مثل بردية إيبرس على «أوراد دينية» تتم تلاوتها فى بعض الحالات العلاجية ويعتقد أنها تحتوى على أسرار علاجية منسوبة لبعض الرموز الدينية السماوية مثل تحوت- الذى اعتبره المصريون دينيًا الطبيبَ الأول فى الكون لأنه الذى داوى عين حورس التى فقدها فى صراعه مع سِت- وإيزيس وغيرهما، لكن هذه الأوراد لم تكن تحل بديلًا عن التشخيص الطبى وتحديد جرعات العلاج. وهذه نقطة مهمة ميّزت الطب المصرى القديم كعلم متجرد عن «الكهانة والسحر» ويقوم على أسس طبية عريقة استغرق المصرى عدة قرون فى الألفية الرابعة قبل الميلاد للوصول إليها. فمثلًا فى مناطق وحضارات أخرى ظهرت فى عصورٍ لاحقة طرق لمحاولة بعض الحالات المرضية، لكن طغت عليها الكهانة والسحر ولم يبلغ ما أبدعته مصر من طرق علاجية علمية، مثل الطب القديم عند البابليين مثلًا. فكان المرض هناك يعتقد أنه عقابٌ إلهى، ولذلك كان الطبيب يُعاقب عندما يخطئ فى علاجه ولا يعاقب الساحر أو الكاهن! بينما فى مصر كان الطبيب يعاقب لكن لأسباب أخرى مختلفة تمامًا، ويمكن اعتبارها أسبابًا مهنية خالصة تتعلق بآداب المهنة، أهمها مخالفة القوانين التى وضعتها الحكومة المركزية فى الدولة القديمة فى حال إساءة استعمال العقاقير الطبية خاصة التى تميزت بسُمية عناصرها. كما حرّمت الحكومة المصرية القديمة استعمال العقاقير على المرضى كتجارب، وإذا مات مريض كضحية لهذه التجارب كان ذلك يعتبر جناية قانونية كبيرة!

من هذا التاريخ- ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد- بدأ المصريون يتسيدون علوم الطب والصيدلة لآلاف السنوات. انتشرت المعاهد الطبية- الأولى من نوعها فى العالم- فى مصر منذ الأسرة الأولى، والتى كان من أهمها مدرسة إمحوتب فى العاصمة منف، ومدرسة الجراحة فى الأقصر، ومدرسة أون أو عين شمس الطبية، ومدرسة أبيدوس، ومدرسة تخريج طبيبات الولادة فى مدينة سايس صا الحجر بالدلتا! ألحقت هذه المعاهد الطبية بالمعابد الكبرى، لكى يدشن المصرى تقليدًا استمر بعد ذلك لآلاف السنوات، وسارت على دربه الأمم المختلفة حتى بعد تغير الديانات، حيث استمرت المدارس الطبية تُلحق بالأديرة، ثم ألحقت البيمارستانات بالمساجد فى العصور الإسلامية! 

قبل أن يلتحق دارسو الطب بواحد من تلك المعاهد، كان عليهم أولًا تعلم القراءة والكتابة وبعض العلوم الأخرى الأساسية، وذلك أيضًا فيما يسمى «بر غنخ» أو بيوت الحياة أو المدارس الملحقة بالمعابد! بعد أن يتم الصغير هذه المرحلة كان يُلحق بأحد المعاهد الطبية لكى يبدأ رحلة تعلم الطب والصيدلة! كان على الدارس أن يدرس الطب كله أولًا فى مدة محددة، ثم يتخصص فى فرع معين مثل الجراحة أو الأسنان أو الأمراض الباطنية أو الأنف والأذن والحنجرة والعيون! كما كان عليه دراسة المواد المستخدمة فى تحضير العقارات الطبية، أى يدرس الصيدلة بجانب الطب!

ماذا عن الصيدلة فى مصر القديمة؟ ماذا عن العقاقير الطبية المصرية القديمة؟! كلمة «فارمَسى» الإنجليزية هى اشتقاق لكلمة يونانية «فارمَكون». لكن هذه الكلمة اليونانية ليست إلا كلمة مصرية «فارمَكا» والتى تم إطلاقها على كلمة عقار أو دواء وعلى كلمة السُم أيضًا، بينما كان المعنى الأول والأقدم للكلمة المصرية هو فعل «يمزج»، ثم تدرج استخدامها لتعنى «التأثر بالعقار أو الدواء». من تلك الكلمة مصرية الأصل اشتق اليونانيون كلمة «فارمَكوبيوس» بمعنى الشخص الذى يُدخل السم أو العقار أو الذى يطحن أو يسحق العقار! أما كلمة «صيدلة» فهى لا تنتمى للغة العربية، وإنما أصلها هندى اقتبسها الفرس وتعنى العقار أو الدواء، وكانت «صينية» ثم تحورت إلى صيدلة، ويعتقد البعض أنها مشتقة من كلمة «صندل» نوع من النباتات المستخدم فى تحضير البخور والأدوية!

والشعار الذى استخدمه اليونانيون وخلفاؤهم «العصا الملتف حول ثعبان» قد اقتبسوه من شعار أطباء مصر القديمة الذين اختاروا الثعبان لأنه يغير جلده عدة مرات أثناء حياته، فاعتبر الكهنة ذلك بمثابة تجديد لشباب الثعبان، كما أنهم كانوا يستخدمون سم الثعبان ترياقًا لبعض الأمراض والسموم! كما تم استلهام شكل عين حورس التى اعتبرها المصريون رمزًا للعلاج لتكون رمزًا طبيًا يُكتب على شكل حرف «R» فى الروشتات الطبية!

منذ أن دشن المصريون للعالم عِلم الطب فقد دشنوا معه عِلم الصيدلة، وكان الطبيب المصرى «سونو» هو نفسه الصيدلى الذى يصف الدواء ويحضره بنفسه، ما يعنى أن الطالب الذى كان يتقدم للالتحاق بأحد معاهد الطب فى مصر القديمة كان عليه أن يدرس أيضًا كل شىء عن المواد المستخرجة منها العقاقير الطبية، وكيفية معالجة صورتها البدائية حتى يستطيع استخدامها كمادة علاجية، وعليه أن يعرف مدى سُمية بعض هذه المواد!

استعمل المصرى مئات من المواد النباتية أو المعدنية لتحضير العقاقير التى وصفها فى بردياته الطبية. فقد استعمل ما يقرب من ٤٠٠ نوع من النباتات والأعشاب مثل «الكزبرة، زيت الخروع، الشعير، القرفة، الحنة، اللبان، البخور، مخدر القنب والحشيش، سائل شجر الجميز، الشَمَر، النعناع، الكمون، العنب، الدوم، نبات العشار الجبلى، السنط، الخروب، ورق شجر البلوط لعمل ضمادات الجراحة، نسيج الكتان لضمادات الجروح، البلح، نبات اللفاح، الحلبة، البصل، الثوم، الفجل، عسل النحل، الحنظل، الكندر، أوراق نبات الآس..».

كما استخدم مستخلصات معدنية مثل كبريتيد الرصاص، والملاكايت أو شمست باللغة المصرية وهو كربونات النحاس القاعدى الأخضر! واستخدم مواد أخرى حيوانية مثل مداد وزيت ودهن فرس النهر، وروث الغزال. وكمسكن للآلام استخدم الطبيب المصرى بعض النباتات مثل البخور ونبيذ البلح والتربنتين، والصمغ العربى، والخشخاش والحشيش! وقد عُثر عام ١٩٩٥م أثناء تحليل بعض المومياوات على بقايا مادة مخدرة موجودة فى الكوكايين والنيكوتين، ولا تزال الدراسة قائمة فيما يخص هاتين المادتين!

كان الطبيب المصرى يشكل النبات طبقًا لما تقتضيه الحالة، فهو أحيانًا شرابٌ يتناوله المريض بالفم، أو مستنشق لأبخرته، أو لبوس فى الشرج أو المهبل أو دهان موضعى. مفاجأة توصل إليها فريق علمى أمريكى حول المركب الدوائى الذى أجاد الطبيب المصرى استخدامه والمكون من خليط من «الحنظل والسنط والعسل والبلح»، ووصفه الطبيب المصرى القديم لمنع الحمل. أثبتت دراسة الفريق أن هذا المزيج يحدث مركبًا كيميائيًا حمضيًا يقتل الحيوانات المنوية، ما يعزز الموقف العلمى للطبيب المصرى القديم الذى تمكن من تشخيص حالة شبيهة بالسرطان الرحمى! 

فى الواقع قامت عشرات المجموعات الطبية بتجارب على بعض ما تركته الوثائق الطبية المصرية القديمة من وصفات لتجربتها ونشرت نتائج أبحاثها فى دوريات علمية طبية وأثرية خلال العقود الخمسة الماضية، ولا يتسع المقام هنا لاستعراضها جميعًا، لكن يكفى القول إن بعضًا منها يصيب مَن يطالعها بالذهول التام! وأضعفها نتيجة تحدثت عن أن ٢٨٪ فقط مما تم إخضاعه للتجارب أثبت فاعلية كبيرة ضد الحالات المستخدم لها! وبعض الدراسات الأخرى وصل بالنسبة إلى أن ٧٦٪ من محتويات برديات طبية أثبتت فاعلية كبيرة فى معالجة الحالات التى تم وصفها لها!

كان الطبيب الباطنى أو الممارس يسمى باللغة المصرية «سونو»، وهى كلمة تعنى المعاناة من الألم. وحامل هذا اللقب كان أشبه بالطبيب الممارس اليوم أو طبيب الاستقبال فى المستشفيات للتعامل مع المواقف العلاجية المتنوعة! بعضهم كان يحصل على لقب كاتب فى إشارة إلى قدرته على قراءة النصوص الطبية. أما الجراحون فكانوا يتلقبون بلقب «سخمت»، وكانوا من طبقة الكهنة، والكلمة تعنى من يستطيع إبعاد أو إزالة الأمراض! أما الطبيب الروحى أو النفسى فكان لقبه «ساو» وتعنى الحارس أو الحامى! كان الطبيب يتدرج فى مناصبه حتى يصل إلى درجة كبير أطباء «سِمنو» أو مستشار طبى «شِد سمنو»! فمثلًا كان الطبيب «أوتى» من الدولة الحديثة القرن ١٦ق.م يحمل لقب كبير أطباء مصر العليا والسفلى! كان الأصل أن يتقاضى الطبيب راتبه من الدولة، وتتم معالجة كل من يحتاج العلاج مجانًا مثل نظام الرعاية أو التأمين الصحى، خاصة بالنسبة للعمال الذين يعملون فى إنشاءات الدولة، أو جميع العسكريين المشاركين فى الجيش المصرى. ثم تطور الأمر وأصبح ممكنًا للطبيب أن يتقاضى أجرًا يدفعه المرضى القادرون وكان أجرًا عينيًا، ما جعل طبقة الأطباء من أغنياء مصر، كما تدل على ذلك مقابرهم ومحتوياتها من الأثاث الجنزى! مُنح الأطباء العديد من الألقاب، كما كان يلحق بالقصر الملكى أفضل الأطباء، بل إن أطباء مصر كان يتم طلبهم والاستعانة بهم خارج مصر خاصة للملوك وأسرهم والطبقات العليا، فقد حمل بعض الأطباء المصريين لقب «طبيب موفد للدول الأجنبية»! كما كان بعضهم يصاحب حملات قطع الأحجار ويستقر فى مواقع العمل الكبرى للتعامل مع حوادث العمل بين العمال والحرفيين! لذلك تمتع الأطباء فى مصر القديمة بوضع اجتماعى عالٍ، وكانت الدولة تخصص لهم مخصصات من طعام وملبس ويتم توزيع تلك المخصصات حسب التسلسل الوظيفى! وكان لكل طبيب مساعدون يتولون مهمة حمل أدواته ومعداته الطبية ويرافقونه أينما ذهب! يمكن القول إن «حسى رع»- تاليًا لإمحوتب- طبيب الملك زوسر من ملوك الأسرة الثالثة القرن ٢٧ قبل الميلاد، هو أقدم من حمل ألقابًا طبية رسمية فى العالم، منها «كبير أطباء الأسنان وكبير الأطباء الممارسين»! وهناك «أوتى» كبير أطباء الدولة الحديثة القرن ١٥ قبل الميلاد! كما سجلت الوثائق أن أول سيدة عملت طبيبة وحملت ألقابًا طبية رسمية كانت امرأة مصرية اسمها «بى سشات» القرن ٢٤ قبل الميلاد! هى أم لشخص يسمى «آخِت حتب» وفى لوحة حجرية فى مقبرته ذكر ألقاب والدته الطبية، منها لقب «إيمى إر سونوت» الذى يعنى «الطبيبة التى ترأس الطبيبات»! ونعرف عنها أنها أول طبيبة مارست مهمة طبيبة نساء وتوليد، بجانب قيامها بتعليم الطبيبات الدارسات فى مدرسة «سايس» الطبية بالدلتا!

عُثر على كثير من الأدوات الطبية والجراحية التى أبدعها أطباء مصر القديمة، منها ما هو منحوت أو مرسوم، أو أدوات حقيقية بعضها لا يزال موجودًا فى بعض متاحف مصر مثل المجموعة الموجودة بالمتحف المصرى أو خارج مصر. من تلك الأدوات ما يتم وصفه بأنه أقدم أدوات جراحية معدنية فى العالم من البرونز أو النحاس التى عُثر عليها فى مقبرة الجراح «قار» الذى يعود إلى عصر الدولة القديمة الأسرة ٦ والذى تقع مقبرته شرق الهرم الأكبر بالجبانة الشرقية. من تلك الأدوات «المشارط، السكاكين، الملاقط، الضمادات، الفتيل والإبر للخياطة، المشابك لضم طرفى الجرح، المثاقب المستخدمة فى عمليات التربنة، الخطاطيف المستخدمة فى عمليات التحنيط، الميزان، كاسات الحجامة، أدوات الكى المعدنية، وغيرها».. كل واحدة من تلك الأدوات كان منها العديد من الأشكال والأحجام لتناسب جميع حالات الجراحة!

صنف الجراحون الإصابات إلى ثلاثة أنواع، الأول هو النوع القابل للعلاج بجراحة فورية، والنوع الثانى الذى يشك الأطباء فى جدوى الجراحة لخطورة الإصابة، ويبقى المصاب قليلًا تحت الملاحظة قبل تحديد الأطباء رأيهم، والنوع الثالث هو إصابات لا تستدعى التدخل الجراحى ويمكن للمريض أن يعيش بمعالجات غير جراحية. ومن العمليات الجراحية التى كان الأطباء يمارسونها باستمرار هو ختان الذكور وتم تصويرها فى أكثر من موضع، منها ما تم رسمه على جدران مقبرة الطبيب «عنخ ماحور» فى سقارة من الدولة القديمة! وقام الجراحون المصريون بعمليات بتر لبعض الأعضاء مثل حالة بتر قدم ومارس المريض بعدها حياته الطبيعية لمدة أربعة عشر عامًا! والمفاجأة المذهلة هى قيام الجراحين المصريين بصناعة أول أطراف صناعية فى العالم! فقد كُشف عن إصبع صناعى مصنوع بمهارة من الخشب كجزء تعويضى والحالة لسيدة من الأسرة ٢١ أو ٢٢، أى من القرن العاشر قبل الميلاد! كما قام بعمل أربطة وضمادات حول بعض الكسور لإعادتها لوضعها الطبيعى، كما ورد فى بردية هرست الطبية!

مما برع فيه المصريون وتركوا لنا بعض الوثائق الدالة على براعتهم هو طب الأسنان، فقد لاحظ علماء المصريات انخفاضًا كبيرًا جدًا فى حالات الأسنان التالفة فى مصر القديمة فى الفترة من ٤٠٠٠ إلى ١٠٠٠ قبل الميلاد، كما لاحظوا أن غالبية الرفاة الباقية والمومياوات احتفظت بمجموعات من الأسنان فى حالة ليست سيئة. وسجلت الوثائق حالة وفاة بسبب إصابة أسنان وهو الموسيقى «جد ماعت إس عنخ» من الأقصر الذى مات فى عمر الخامسة والثلاثين بسبب عدوى لخراج فى اللثة! وتوجد مومياء هذا الموسيقى فى متحف رويال أونتاريو فى تورنتو بكندا! 

لم يغفل المصريون حيواناتهم وكما توصلوا لتشخيصات لأمراض البشر، توصلوا لقدرٍ معقول من المعرفة بتشريح كثيرٍ من الحيوانات، وابتكروا أول صورة من صور الطب البيطرى فى العالم. فبردية كاهون أو لاهون المكتشفة عام ١٨٨٩م تضمنت حالات أمراض عيون تصيب الحيوانات. عقيدة تحنيط بعض الحيوانات جعلته يتعرف على تشريح تلك الحيوانات مثل القطط. كما عُثر على أسد محنط فى منطقة سقارة. وفى نفس البردية هناك روشتة علاج لكلب مصاب، وتعليمات طبية تعليمية تخص الثيران.

وأخيرًا فقد برع المصريون فى ابتكار أنظمة غذائية صحية تقوم على مجموعة من المأكولات والمشروبات تحتوى على جميع العناصر التى يطلبها الجسم البشرى مثل عصير الشعير والبلح.. «اللبن، ثلاثة أنواع من البيرة، خمسة أنواع من النبيذ، شرائح من اللحوم...»!

فى الجزء الثانى.. كيف انتقلت علوم الطب والصيدلة المصرية إلى العالم قبل غزو الإسكندر مصر؟!