رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الروائى سنان أنطون: أكتب عن العراق لأنه وطنى وأطيافه وحكاياته وناسه تعيش معى.. وأبطال «خُزامى» بذور حقيقية اكتست بخيال الكاتب

الروائى سنان أنطون
الروائى سنان أنطون

- استلهمت الشخصية الرئيسية من شاب عراقى فى أمريكا تعرض لعقوبة الهروب من التجنيد

- اهتممت بالأوضاع المعيشية فالأطر الاقتصادية تحدد مسار كل إنسان فى الحياة

يفصل الروائى والشاعر العراقى سنان أنطون عن وطنه العراق، الذى غادره فى عام ١٩٩١ بعد اندلاع حرب الخليج الثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ما يربو على ثلاثة عقود، ومع ذلك، فإنه ما زال مسكونًا به فى كتاباته الروائية التى باتت أقرب لوثيقة فنية عن فترات حرجة من عمر هذا البلد ما زال أثرها باقيًا ومؤثرًا فى مآلات الشعب العراقى.

فى الشعر، أصدر سنان أنطون ديوانى «موشور مبلل بالحروب»، و«ليل واحد فى كل المدن»، أما فى الرواية فقد صدرت له حتى الآن رواية «إعجام» ٢٠٠٤، التى تُرجمت إلى لغات عدة، و«وحدها شجرة الرمان» ٢٠١٠، التى اعتبرها الروائى العالمى ألبرتو مانغويل «واحدة من أكثر الروايات الاستثنائية التى قرأها»، و«يا مريم»، التى وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية ٢٠١٣، و«فهرس» ٢٠١٦، وأخيرًا «خُزامى» الصادرة حديثًا عن «منشورات الجمل». 

فى هذا الحوار، نناقش مع الروائى العراقى أطيافًا مما حملته روايته الأحدث «خُزامى»، المسكونة مثل أعماله الأخرى بالوجع العراقى والذى يتمظهر فى هذه الرواية عبر استشكال فوضى «الذاكرة» وانتقائيتها حين تصير، سواء بغيابها أو بحضورها، هى لب أزمة الفرد فى شتاته وفى تعاطيه مع راهنه ورؤيته لمستقبله. 

■ خرجت من العراق منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا لكن أعمالك جميعها ما زالت مسكونة به.. أى علاقة تقيمها مع وطنك؟ أهى النوستالجيا لماضٍ بعيد تتمنى استرجاعه أم هى النفور من هذا الماضى «مثلما كان عُمر فى (خزامى)»؟ هل تكتب عن العراق حنينًا له أم تألُمًا منه؟

- العلاقة بالمكان، أى مكان، معقدة وعميقة، فكيف إذا كان المكان هو البلد الذى ولد فيه الإنسان وعاش أول عقدين من حياته فيه؟ لا شك أن ذاكرته ستطل على البلد حيثما كان وستعود لتسترجع ماضيه وستؤثر على علاقته بحاضره. 

علاقتى بالعراق معقدة وعميقة بكل تأكيد، لكنها لا تشبه علاقة عمر بماضى البلاد كما فى رواية «خُزامى». فليس لدىّ «نفور» من الماضى، ولا حنين استرجاعى، ونظرتى ليست حدية ولا متطرفة. هناك حنين، وهذا طبيعى، لكنه حنين تأملى، وهذه نقطة مهمة. أى أننى أنظر إلى الماضى، من موضع الذات الناقدة المتأملة، الحذرة من الوقوع فى شراك الحنين الساذج الذى ينظر إلى الماضى كما لو كان متحفًا اختيرت تفاصيله بعناية لترسيخ سردية ما، وحذف الكثير من الحقائق أو إخفائها فى الدهاليز. 

أنظر إلى الماضى كطيف وبانوراما تحمل الكثير من التناقضات ويتجاور فى أرشيفها الجميل والقبيح، والمر والحلو. أكتب عن العراق لأنه وطنى ولأن أطيافه وحكاياته وناسه كلها تعيش معى.

■ الشخصيتان الرئيسيتان فى رواية «خُزامى» عانتا من اضطراب ما بعد الصدمة بصور وسياقات مختلفة.. فهل كانت تلك هى النقطة الأولى التى منها تبلورت فكرة الرواية؛ الرغبة فى استكشاف ما تسببه جراح الوطن؟

- رأيت قبل سنوات طويلة شابًا يعمل فى محل بالولايات المتحدة، وكانت أذنه مصلومة. عرفت حالًا أنه من العراق، لأن هذه كانت عقوبة الهروب من الجيش فى التسعينيات. وتأكدت من أنه عراقى. ظلت صورته فى ذاكرتى. كما التقيت أكثر من شخص فى سنوات العيش فى الولايات المتحدة كانوا قد غيّروا أسماءهم لتسهيل حياتهم والاندماج فى المجتمع الجديد أحيانًا، أو للتخلص من تبعات العنصرية. كانت هذه بذور نمت فيما بعد لتكون شخصية عمر فى «خُزامى» حين بدأت أفكر بثيمة صراع المظلوميات وآفة الذاكرة الانتقائية ونسيان الماضى السياسى من جيل إلى آخر. 

■ يربط عنوان الرواية «خُزامى» بين خطى السرد؛ فكلا البطلين له مع الخزامى قصة، إحداهما فى الماضى والأخرى فى الحاضر والمستقبل.. هل أردت من خلق هذا الارتباط التأكيد على أن ظلال الماضى لن تغادر المستقبل مهما تعددت المحاولات؟ وإلام تقود هذه الفرضية؟

- تبلور الخزامى واحدة من الثيمات الأساسية فى الرواية وهى العلاقة بالماضى واختلافها، بل تناقضها لدى الشخصيتين. فعطر الخزامى لدى سامى يربطه بذكريات جميلة من ماضيه الذى يبتلعه الخرف يومًا بعد يوم. والخزامى لدى عمر هو طريق الأمل بمستقبل وغد يجعله يدفن ماضيه ويتخلص من تبعاته. فهو يربط حياة الشخصيتين رمزيًا وهو كذلك أداة مهمة فى البنية السردية أيضًا، إذ إنه يسبب تقاطع مسارى الشخصيتين. 

أما عن ظلال الماضى وعلاقته بالمستقبل، فسأكرر مقولة وليم فوكنر: الماضى لا يموت أبدًا، فهو لم يمض بعد. الماضى ورؤيتنا له جزء من معادلة الحاضر والمستقبل، وهذا ينطبق على الذات وعلى الجماعة والخطاب السياسى.

■ يغلب الاعتماد على الراوى العليم فى السرد المتشظى عن الشخصيتين الرئيسيتين بالرواية.. فلم اعتمدت هذا الخيار رغم الاختلاف بين الخطين السرديين بالرواية؛ فإن كان الراوى الخارجى ملائمًا لسرد حياة سامى بعد أن فقد ذاكرته وغُيّب عن حياته، فلماذا يحضر أيضًا ليسرد حياة عمر الذى يعانى من إلحاح ذاكرته ووطأتها عليه؟

- يحضر الراوى العليم فى رواية «خُزامى» ليعطينا ما يسمى «نظرة الطائر» من فوق. وهذا ضرورى. فهناك أمور وتعقيدات وتفاصيل مادية ونفسية قد لا يعرفها عمر، ولا يمكن أن يعيها لأنه يعيش فى إطار تبعات الصدمة التى تعرّض إليها، والتى تحجب عنه الكثير بوطأتها وتؤثر على رؤيته وقراءته للأحداث والشخصيات. كما يربط الراوى العليم بإطلالاته هنا وهناك بين الأجزاء المختلفة ويحرك النص فى إيقاع تصاعدى.

■ إلى أى مدى تتشابه قصتا عمر وسامى فى «خُزامى» مع الواقع، هل ثمة وجود حقيقى لهما أو لأطياف منهما؟ هل يرسم الواقع، لا سيما حينما يكون ضاغطًا مثلما هو الحال مع شعوب تعرضت لقسوة الشتات، الشخصيات الروائية بصورة أفضل من الخيال؟

- لا أريد أن أعمم، لكن لمعظم الشخصيات بذور حقيقية/ واقعية. لكنها أثناء الكتابة والتفكير والتحرير تتحول لتكتسب وتأخذ الكثير من التفاصيل والأبعاد من أماكن أخرى ومن الخيال. الواقع هو دائمًا البئر الأولى. كما أننى لا أظن، ولا أرى، أن الحدود بين الواقع والخيال واضحة دائمًا أو حادة يصعب عبورها. فهناك دائمًا تداخل.

■ وما سبب اهتمامك الخاص بالتركيز على أثر اختلاف الطبقة الاجتماعية والوضع المعيشى للبطلين فى وطنهما على مسارهما اللاحق؟

- نحن لا نولد فى فراغ ولا نولد سواسية اقتصاديًا. كل إنسان يولد ويعيش حياة تحددها مسبقًا أطر اقتصادية واجتماعية تضعه فى مكان ما على تراتبية أو هرمية «الرفاه فيها لمن هم فى القمة والأعالى، ويتناقص كلما اقتربنا من القاعدة». طبعًا هناك من يفلح فى الصعود درجة أو اثنتين، وهناك من يقفز إلى القمة. لكنها استثناءات. وتستخدم هذه الاستثناءات لترسيخ أسطورة أن القمة بمتناول الجميع إن هم عملوا وكدحوا، ولتعمية الاستغلال المقونن والمتغلغل فى البنى. 

الطبقة محدد أساسى لوجود الفرد ورؤيته وثقافته. وبالتالى سيكون، بالنسبة لى، مهمًا فى الشخصيات التى تعيش وتموت فى رواياتى. وبالنسبة لرواية «خُزامى» يبدو واضحًا أن الخلفية الطبقية تلعب دورها فى التأثير على تجربة اللجوء والتأقلم فى المجتمع الجديد. كما أن الانحدار الطبقى يؤثر على الحنين إلى زمن يظن أنه كان «زمن الخير» للجميع لكنه كان زمن البؤس لمن هم من طبقات أخرى.

■ الموسيقى، والأغنيات العراقية والمصرية من أساسيات نسيج وحبكة رواية «خُزامى»، فما الذى تروم تحقيقه من توظيف الموسيقى بالسرد الروائى، هل هى محاولة للقبض على ما تحمله من ذكريات بالنسبة إليك؟

- الموسيقى والأغانى تفصيل يومى مهم فى حياة معظم البشر. نسمعها ونكررها وندندنها وتعيدنا أو تأخذنا إلى أماكن. لذلك من الطبيعى أن تكون موجودة فى النص الأدبى. لكنها تلعب دورًا إضافيًا فى «خُزامى»، فكارمن، الممرضة التى تعتنى بسامى حين يُصاب بالخرف، تكتشف أن الموسيقى تُستخدم كعلاج لمرضى الخرف والألزهايمر، لأنها تعيدهم إلى ذكريات جميلة فى ماضيهم. وفى المراحل المتقدمة من المرض تعيد أغانى ياس خضر وأم كلثوم «سامى» إلى أجمل ساعات ماضيه، فتعطيه بعض الهدوء والفرح فى أيامه الأخيرة. وقد استمتعت بكتابة المقاطع التى تتداخل فيها الموسيقى مع السرد لأننى أعشق الموسيقى أيضًا ووضعت الأغنيات التى أميل إليها.

■ إلى أى مدى تركز على أن تكون كتابتك للرواية بشكل عام تأسيسًا لسردية خاصة تجابه السرديات الرسمية؟ هل يمكن اعتبار ذلك هو الهدف العام الذى يحركك نحو كتابة الرواية؟

- الكتابة هوس وحاجة تدفعها الرغبة فى إنتاج نص جميل وعميق يشتبك مع الوجود. ليست مواجهة السرديات الرسمية الهدف العام، بالنسبة لى. ولكن الظروف الفردية والسياق الاجتماعى والسياسى الذى يتكون فيه المرء/ الكاتب، وانحيازاته السياسية والفلسفية، تلقى بظلالها على رؤيته للعالم وبالتالى كتابته. عشت فى العراق فى زمن الديكتاتورية وكانت المنظومة الثقافية مكرسة عمومًا لترسيخ رواية النظام عن الحرب ولتبجيل «القائد»، وهكذا كانت روايتى الأولى «إعجام» عن الحياة فى زمن الديكتاتورية من وجهة نظر سجين يرفض الحالة بأكملها. طبعًا بمرور الزمن وتراكم القراءات أصبح واضحًا لدىّ أن النص الروائى حيز مهم للذاكرات المقصية والمهمشة والمنفية عن الرواية الرسمية أو عن رواية المنتصرين.

■ فى «خُزامى» لا تحضر فقط اللهجة العراقية المحلية فى سرد الحوارات ولكن هناك أيضًا لهجات يمنية ولبنانية.. فما سبب اهتمامك بحضور هذه اللهجات رغم ما قد تقود إليه من صعوبة أحيانًا فى التلقى لدى البعض وصعوبة أخرى لاحقة حين يخضع النص للترجمة؟

- قد يلاقى البعض صعوبة، لكن الكثير من القراء والقارئات من مصر وتونس والمغرب وبلاد أخرى يكتبون لى ويؤكدون أنهم يستمتعون بقراءة الحوارات بالمحكية. نعم قد تكون هناك مفردة أو عدة مفردات عصية على الفهم، لكن السياق يسمح للقارئ بأن يخمن، كما أننا نعيش فى عصر الإنترنت ووفرة المعلومات ويمكن البحث عن المعنى.

الحوار فى كل رواياتى بالمحكية، لأن الشخصيات فى العالم الحقيقى لا تتحدث بالفصحى. لا أنا ولا أنت نتحدث بالفصحى فى حياتنا اليومية. لو كتبت الحوار بالفصحى فسيكون هذا ترجمة فعليًا. هناك كوارث فى كثير من الروايات العراقية والعربية تتحدث فيها الشخصيات وكأنها فى مسلسلات تاريخية مدبلجة، كتابة الحوار بالفصحى تسطح الخصوصية المناطقية والطبقية. المحكيات العربية، والمحكيات المختلفة داخل البلد الواحد هى تنويعات جميلة. فضلًا عن أننى لا أكتب للترجمة، وما يهمنى هو أن يكون النص حقيقيًا وطبيعيًا.