رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصينيون المُحدثون: أفكار وتأملات «6 - 6»

أشرنا فى المقالات السابقة إلى أن العملاق الصينى بعد أن أتم إرساء دعائم قوته الذاتية، بدأ فى الزحف المنَظَّم لاحتلال المقام اللائق بتاريخه وحضارته ونهضته، وقدراته الكامنة والمعلنة الفائقة، فبعد أن ضمن موقعه الاقتصادى فى الصدارة، اتجه إلى «تأمين» إنجازاته ومصالحه العليا بطرح العديد من المشاريع و«المبادرات» التى تربطه وتربط مستقبله ومصيره بدول العالم، شرقًا وغربًا، ذكرنا منها: مشروع منظمة «البريكس»: المشروع العالمى البديل لـ«مشروع القرن الأمريكى»، ومبادرة «الحزام والطريق» مشروع القرن الاقتصادى الكوكبى، ومبادرة «التنمية العالمية»، ونستكمل فى هذه السطور إلقاء الضوء على مجموعة المبادرات «المتممة» وأهمها:

4 - مبادرة «أمن البيانات العالمية» والحوكمة الرقمية:
 مع التطور الهائل للاستخدام الخاص والعام لوسائط وأدوات التواصل الإلكترونى، الرسمى والخاص، الحكومى والاجتماعى، واحتلال الأنشطة الرقمية مكانة شديدة الأهمية بالنسبة لأمن الدول والمجتمعات- جاءت «المبادرة» مجددًا من الطرف الصينى، فى سبتمبر 2020، بالإعلان عن السعى لوضع مجموعة قوانين ناظمة تحمى الخصوصية الشخصية والعامة للأفراد والنظم والشعوب، التى تمس أمن وازدهار المليارات من البشر، واستقرار الأوضاع على امتداد العالم كله، عبر مبادرة «أمن البيانات العالمية» والحوكمة الرقمية، التى تستهدف النظر إلى أمن البيانات بموضوعية وعقلانية، والالتزام بالحفاظ على سلسلة التوريد العالمية المفتوحة والآمنة والمستقرة، ومعارضة استخدام تكنولوجيا المعلومات لإلحاق الضرر بالبنية التحتية الرئيسية للدول الأخرى أو سرقة البيانات المهمة، واتخاذ تدابير لمنع ووقف التعـدى على المعلومات الشخصية، وعدم إساءة استخدام تكنولوجيا المعلومات لإجراء مراقبة واسعة النطاق للدول الأخرى، أو جمع المعلومات الشخصية بشكل غير قانونى لمواطنى البلدان الأخرى.. إلخ.

5-  مبادرة «الأمن العالمى»:
ولأن أمن واستقرار وتقدم البشرية والصين، وضمان استمرار الحضارة والازدهار الإنسانيين، لا ينبتان ويتطوران إلا فى بيئة آمنة ومستقرة، فقد أخذت الصين على عاتقها مسئولية طرح مبادرة شاملة لإقرار السلام العالمى، عبر اقتراح الرئيس الصينى «شى جين بينج»، فى حفل افتتاح المؤتمر السنوى لمنتدى «بواو» الآسيوى لعام 2022، «مبادرة الأمن العالمى» التى تضع مستقبل البشرية جمعاء فى الاعتبار، وهى مبادرة تدعو إلى الالتزام بمجموعة متكاملة من المبادئ التى لا غنى عنها لضمان أمن ومستقبل الأمم والدول، وهى: 
«الالتزام برؤية الأمن المشترك والشامل والتعاونى والمستدام، والعمل معًا للحفاظ على السلام والأمن العالميين؛ والالتزام باحترام سيادة ووحدة أراضى جميع البلدان، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، واحترام الخيارات المستقلة لمسارات التنمية والأنظمة الاجتماعية التى يتخذها الناس فى مختلف البلدان؛ والالتزام بالتمسك بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ورفض عقلية الحرب الباردة، ومعارضة الأحادية، ورفض سياسات التحالفات والمواجهة بين التكتلات؛ والالتزام بأخذ الشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان على محمل الجد، والالتزام بمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، وبناء هيكل أمنى متوازن وفعال ومستدام، ومعارضة السعى لتحقيق الأمن على حساب أمن الآخرين؛ والالتزام بالحل السلمى للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور، ودعم كل الجهود التى تؤدى إلى التسوية السلمية للأزمات، ورفض المعايير المزدوجة، ومعارضة الاستخدام التعسفى للعقوبات الأحادية والولاية القضائية طويلة الذراع؛ وأخيرًا الالتزام بالحفاظ على الأمن فى المجالات التقليدية وغير التقليدية، والعمل معًا على حل النزاعات الإقليمية والتحديات العالمية، مثل الإرهاب وتغير المناخ، والأمن السيبرانى والأمن البيولوجى».

6- مبادرة «النقاط الثلاث» للقضية الفلسطينية: 
وتأكيدًا على عزم الصين لعب الدور السياسى العالمى الريادى، إن لم نقل القيادى، المكافئ لقوتها الاقتصادية، والداعم لمسيرتها الحثيثة باتجاه القمة، والحامى لمصالحها الجيو سياسية الكونية، فقد اتجهت أنظارها إلى المنطقة العربية، صاحبة القدرات البشرية والإمكانات المادية الهائلة، التى تتحكم فى اثنين من أهم مصادر القوة العالمية: النفط، والممرات المائية الاستراتيجية، وخاصة قناة السويس، فقدمت مبادرة «النقاط الثلات»، الخاصة بحل معضلة الصراع الفلسطينى الصهيونى «بعد ما خرجت أغلب الدول العربية من ساحة الصراع»، والتى تتضمن بنودها العناصر التالية: 
ـ أولًا: إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ـ ثانيًا: ضمان احتياجات فلسطين اقتصاديًا ومعيشيًا، وينبغى للمجتمع الدولى زيادة المساعدات الإغاثية والإنسانية لفلسطين.
ـ ثالثًا: من الضرورى الالتزام بالاتجاه الصحيح المتمثل فى مفاوضات السلام، ويجب احترام الوضع التاريخى القائم للمقدسات الدينية فى القدس، والتخلى عن الأقوال والأفعال المتشددة والاستفزازية، والدفع لعقد مؤتمر سلام دولى على نطاق أوسع وبمصداقية أكثر، وتأثير أكبر وتهيئة الظروف لاستئناف مفاوضات السلام، وبذل جهود ملموسة لمساعدة فلسطين و«إسرائيل» على تحقيق التعايش السلمى.

«القمة العربية الصينية الأولى»:
وكانت الخطوة الأهم فى هذا السياق إعلان الصين مشاركتها ممثلة فى رئيسها «شى جين بينج»، مع قادة الدول العربية الأعضاء فى جامعة الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية، فى وقائع القمة العربية الصينية الأولى فى مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، وذلك بهدف تطوير العلاقات بين الجانبين العربى والصينى فى مختلف المجالات، وتعزيزًا لأواصر التعاون المشترك، والارتقاء بعلاقات الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين العربى والصينى، وتثمينًا للروابط التاريخية بين شعوبنا، والتفاعلات الثرية بين حضارتينا العريقتين، وعلاقات الصداقة المتينة بين دولنا، لحرصنا المشترك على تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة لمستقبل أفضل، بوصفها نموذجًا لعلاقات الصداقة والتعاون الودى، والعمل على تعميق التعاون العربى الصينى فى مختلف المجالات من خلال الآليات القائمة فى إطار منتدى التعاون العربى الصينى، وتعزيز دور هذا المنتدى فى الدفع بجهود التنمية وبالعلاقات بين دولنا نحو آفاق أرحب.. كما جاء فى نص «إعلان الرياض» الصادر فى بتاريخ 9/12/2022م. 
لكن الصين لم تكتف بإعلان هذا الموقف الإنسانى النبيل وحسب، إذ لم تكد تمر بضعة أيام، حتى استيقظ العالم العربى، ومنطقة الشرق الأوسط، والعالم كله، على أنباء مفاجئة، حول دور صينى عملى، وكبير، فى إنجاز حدث بالغ الأهمية، بتحقيق «مصالحة تاريخية» بين قوتين إقليميتين كبيرتين فى أهم مناطق العالم، منطقة الخليج النفطى، شريان الحياة الحضارية العالمية الأكبر: بزعامة المملكة العربية السعودية، مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بقدراتها ودورها الذى لا يمكن تجاهله فى منطقة الخليج والشرق الأوسط الحيوية، بمساعٍ صينية مرموقة لنزع فتيل الاحتراب بين الطرفين، ولاستئناف العلاقات بين الرياض وطهران، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما، وعلى تأكيد احترام سيادة الدول، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، وتفعيل الاتفاقية العامة للتعاون بين البلدين، فى مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقعة عام 1998.
***
نموذج يحتذى، ولا يقلَّد: 
هكذا إذن يغادر «التنين الصينى» رقدته الطويلة، ويصحو من غفوته الممتدة، ويتقدم فى ثقة وثبات لتحمل الأعباء «الكونية» التى تعادل ما حققه على أرض الواقع من إنجاز بجهد وكفاح، وإصرار ودأب، وتعب وكمد، ووعي وإدراك.
وهى كلها دروس غالية يمكننا الاستفادة منها، والتعلم بتواضع من نجاحاتها ومسيرتها، مع التأكيد مجددًا بأن «التجربة الصينية» رغم كونها تتضمن دروسًا بالغة الأهمية للنهوض، وجدول أعمال ناجحًا للتقدم والإنجاز، جوهرها الإصرار على التقدم بالاعتماد على الذات، والتنمية المستقلة المنتجة، لكنها، مع هذا، دروس غير قابلة للتكرار السطحى، ونموذج يحتذى ولا يقلَّد، ويستلهم ولا يكرر، وهو ما حاولنا توضيحه فيما تقدم من مقالات وسطور، لعل أن يكون بها ما يفيد وطننا الغالى، ويساعده على مواجهة ما يحيط به من تحديات وتهديدات، ولشق طريقه «المصرى الصميم»، نحو الاستقرار الازدهار.

* الأمين العام للحزب الاشتراكى المصرى.