رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصينيون المُحدثون: أفكار وتأملات

منذ بدأت سياسة «الإصلاح والانفتاح» الصينية «عام ١٩٧٨»، بقيادة الرئيس الأسبق «دينج هسياو بينج»، وعلى مدار سنوات طويلة، استمرت لعدة عقود مُتواصلة، انتهجت الصين استراتيجية واعية تتجنب الانزلاق إلى حروب أو صراعات أو «مُناكفات»، محلية أو إقليمية أو عالمية، يترتب عليها استنزاف ولو جانب من جهدها أو طاقتها الحيوية، التى وجَّهتها، بتركيزٍ شديدٍ، إلى دعم عملية البناء المادى والمعنوى للشعب والدولة، ووفرت كل طاقتها لإيجاد حلول ناجعة لمشكلاتها الخاصة، وفى مقدمتها مواجهة الفقر الذى كان يعيش فيه قطاع واسع من الصينيين، فضلًا عن جهد إعالة مليار وأربعمائة مليون صينى، وتطوير أوضاعهم، وتوفير أسباب الحياة الكريمة لهم. 

وقد استفادت الصين- ببراعة- من مناخ المواجهة الشرسة التى أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية «عام ١٩٤٥»، واشتعال أوار «الحرب الباردة» بين الغرب بزعامة «الولايات المتحدة»، والاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكى السابق، التى انتهت بكسر العدو السوفيتى اللدود، وإعلان تفكيك معسكره مع بداية تسعينيات القرن الماضى، وكان التقارُب مع الولايات المتحدة بوابة الدخول إلى السوق العالمية، أولًا بالتعرُّف على أسراره، ثم بالتواصل مع مستحدثاته العلمية والتقنية، والتداخل العميق مع جانب كبير من مقوماته المادية: «بنوك، شركات عملاقة، تكنولوجيات مستحدثة، ونظم اجتماعية متطورة... إلخ»، الأمر الذى انتهى بتفوق صينى كاسح على النحو الملحوظ والمعلوم.

وفى هذه الفترة التى استمرت حتى ما قبل جائحة كورونا «كوفيد- ١٩»، كان توصيف المسئولين الصينيين لدولتهم باعتبارها «دولة محدودة الدخل تنتمى إلى مجموعة الدول النامية»! فيما كانت تخطو خطوات واسعة للاقترب المنهجى المدروس، الحثيث، من مُرَبَّع الدول الكبرى فى العالم، إما على صعيد الإنجاز الاقتصادى الملموس، أو على مستوى الإمساك براية التقدُّم العلمى، أم لغيرها من الأسباب.

وانتهجت الصين استراتيجية بذل الجهد الفائق، لإنجاز الصعود الهادئ إلى مواقع القمة، ولتحقيق التفوق الاقتصادى الذى اجتاح العالم ونشر سطوته، شيئًا فشيئًا، على امتداد المعمورة، وآيته أنه فى عام ١٩٧٨، عام بدء مسيرة التحول الأسطورى، بلغ حجم التجارة الخارجية للبر الرئيس الصينى ٢٠.٦ مليار دولار وحسب، أى أقل من نصيب تايوان بنسبة ١٢٪، وحينها تبنَّى «دينج هسياو بينج» هدفًا طموحًا للغاية لسياسة «الإصلاح والانفتاح» التنموية، وهو أن يكون الناتج القومى الإجمالى خلال عقدين من السنين «١٩٨١- ٢٠٠٠»، «رباعيًا»، «أى أربعة أضعاف ما كان عليه آنذاك»! 

«وهذا الهدف كان يعنى أن معدل النمو السنوى للاقتصاد الصينى ينبغى أن يكون ٧.٢٪»، الأمر الذى كان محل تشكُّك الأوساط الاقتصادية الأكاديمية داخل الصين وخارجها، خاصة أن تعداد سكان الصين فى تلك الآونة كان قد بلغ المليار نسمة، «منهم ٨٠٪ من الفلاحين وكثير من الأميين. دولة زراعية فقيرة ومتخلفة كهذه تريد أن تحتفظ بمعدل نمو سنوى يبلغ ٧.٢٪ خلال ٢٠ عامًا.. بالطبع هو شىء يصعب تصديقه»! «البروفيسور (لين يى فو)، (قراءة فى الاقتصاد الصينى: كشف أسرار أقوى اقتصاديات العالم)، ٢٠١٧»!

لكن «المُعجزة الصينية» تحقَّقت بسواعد أبناء الصين، وبالتخطيط العلمى الدقيق القائم على أسس «الجدوى الاقتصادية» السليمة، وبفقه «الأولويات» الواضح الأهداف والوسائل، وبحفز الإرادة الوطنية الشعبية، فبين عامى ١٩٧٩ و٢٠٠٠ بلغ معدل النمو الاقتصادى فى الصين ٩.٩٪، أى أعلى من النسبة المأمولة «٧.٢» بـ٢.٧٪ «المصدر السابق»! 

ثم انطلق الاقتصاد الصينى بلا قدرة على اللحاق به من أى من الاقتصادات العالمية الأخرى، وفى مقدمتها الاقتصاد الأمريكى الجبّار، لتحتل موقع ثانى اقتصاد فى العالم، وتوقَّعت الأوساط الاقتصادية العالمية، «وفى مقدمتها البنك الدولى»، أن يصبح الاقتصاد الصينى أكبر اقتصاد فى العالم عام ٢٠٣٠، وربما قبل ذلك، وهو ما تثبت الحقائق الاحتمال الأكبر لتحققه، فوفقًا لـ«معدل القدرة الشرائية» للعملة الصينية، حسب الخبير الاقتصادى المتميز «أحمد السيد النجار»: «بلغ الناتج المحلى الإجمالى الصينى نحو ٢٦٦٥٧ مليار دولار عام ٢٠٢١، مُقارنة بنحو ٢٢٦٧٥ مليار دولار للولايات المتحدة الأمريكية، أى أن الفارق يبلغ ٣٩٨٢ مليار دولار لصالح الصين، كما بلغت الصادرات السلعية الصينية نحو ٢٤٩٩ مليار دولار عام ٢٠١٩، مقارنة بنحو ١٦٤٦ مليار دولار للولايات المتحدة فى العام نفسه».

وبالطبع فقد كانت لهذا التحول الاقتصادى الكبير تداعيات وتوابع كبرى، إما لجهة مجمل السياسات المحلية والخارجية الصينية، أو لجهة ردود الأفعال العالمية على هذا «المُتغير» الكونى المستحدث الذى سيقلب أحوال «الدنيا» رأسًا على عقب!

وقد سمح الوضع الاقتصادى الجديد للإدارة الصينية، بما جلبه من «وفرة» مالية، أن تلتفت إلى الوضع الداخلى الذى شهد على امتداد بضعة عقود «شدًا للحزام» على بطون الجميع، خاصةً جموع الفلاحين الفقراء والفئات محدودة الدخل فى المجتمع، البالغة مئات الملايين، لانتشالهم من حالة الفقر المُدقع والعوز الشامل، وهو ما حدث مؤخرًا، حيث احتفت الصين بتحرير هذه الملايين الغفيرة من أوضاعهم البائسة، فى أكبر عملية مُماثلة فى التاريخ العالمى كله! 

ويلحظ المراقب للأوضاع فى الشارع الصينى ملامح لا تخفى على متابع، من ارتفاع مستويات البيئة المحيطة ومستوى الملبس والمأكل والمشرب، ناهيك عن توفير فرص التعليم رفيع المستوى، والتأمين الصحى واسع النطاق، ونسبة البطالة المنخفضة،... إلخ، وهو ما حوَّل هذا العدد الهائل من البشر فى الصين من «نقمة» أو «ابتلاء» كما يرى البعض، يُشكِّل مجرد إطعامه وتلبية حاجاته الأساسية حفاظًا على الوجود المادى/ البيولوجى، مصدرًا للأرق والارتباك والمُعاناة- إلى «فرصة» تحققت على أياديه المجتهدة ما يوصف بأنه «معجزة» لا نظير لها فى التاريخ الإنسانى، خاصة أن عمر هذه «المعجزة» لم يزد على أربعة عقود وحسب، مقابل نحو أربعة قرون للإنجاز الغربى النظير، والأهم أنها لم تستند إلى نهب واستغلال الشعوب الضعيفة وثرواتها، كما حدث فى بناء النموذج الرأسمالى الغربى الاستعمارى، الذى صعد إلى القمة على تلال من جمائم الضحايا من «الهنود الحمر» فى أمريكا الشمالية إلى العبيد السمر فى إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وهو ما استتبع بناء استراتيجية للعمل السياسى والدبلوماسى الخارجى، شملت المعمورة بأكملها، تستوجب الوقوف أمامها لتأمل شمولها وعُمقها فى مقالٍ قادم.