رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف علّم المصريون القدماء «الدراما» للعالم كله؟

مصر أمة تحب الحياة! هذه هى السمة التاريخية الأهم لشخصية الأمة المصرية. يؤكد هذا ما أبدعته مصر فى فجر تاريخها من فنون أهدتها للحضارة الإنسانية ووثّقتها الوثائق المتناثرة الآن بين مصر وبين متاحف العالم. حين نقترب من الأصول التاريخية لبعض الفنون والأنشطة الرياضية يمكننا أن نطلق على الحضارة المصرية أنها الحضارة المظلومة بامتياز! فبعض ما خلقته من فنون- أصبح فيما بعد وحتى الآن فنونًا عالمية كونية عظيمة، وبعض ما أبدعته من رياضات أصبح فيما بعد وحتى الآن رياضات عالمية- قد تم نسبته لحضارات أمم أخرى!

وحتى نكون منصفين يجب أن نعترف بأن هذا الظلم التاريخى لم يتم- فى بدايته- عمدًا، وإنما كان نتيجة طبيعية لأحداث التاريخ وعلى وجهٍ أخص تاريخ مصر. فلقد انتقلت تلك الفنون والعلوم والرياضات من مصر إلى أممٍ أخرى- اليونانيين والرومانيين- فى أواخر عصور مصر المضيئة منذ حوالى القرن التاسع قبل الميلاد وحتى الغزو العربى لمصر فى القرن السابع الميلادى. ثم بدأت مصر تدخل عصرًا جديدًا بمفردات جديدة، توقفت فيها فنون وهرب منها علماء وتوقفت فيها رياضات، ثم بدأت لغتها فى الانزواء فى غياهب النسيان حتى نصل إلى زمنٍ أصبحت فيه حضارة مصر القديمة كهفًا مظلمًا معتمًا لا يعلم عنه أحد شيئًا مطلقًا!

توافد على مصر منذ انتهاء الأسرة العشرين فى نهايات القرن الحادى عشر قبل الميلاد آلاف من مناطق عديدة من حوض البحر المتوسط. بعضهم كانوا رحالة- بخلاف أسرى الحروب الذين أسرهم المصريون بعد تعرض مصر لمحاولات غزو بحرية شمالية- وكان هؤلاء الرحالة والزوار والتجار يتنقلون بين مصر وبين بلادهم بعد أن يعبوا ويسجلوا كل ما شاهدوه من علوم وفنون وتفاصيل الحياة اليومية، بدءًا من معتقدات المصريين الدينية وفعاليات احتفالاتهم الشعبية ومسابقاتهم الرياضية، وصولًا إلى عادات المصريين فى الملبس والمأكل والمشرب والاستحمام وطقوس النظافة الشخصية!

ذهبوا بكل ذلك إلى بلادهم فى جزر البحر المتوسط وأعادوا صياغة ما نقلوه وأعطوه مسميات تتوافق مع بيئتهم! حتى الأساطير الدينية كانت شبيهة بتلك المصرية باختلاف أسماء المعبودات وإدخال مفردات لوجستية تتناسب مع الجزر والجبال!

بعد أن أصبحت مصرُ جزءًا من إمبراطورية تستنكر كثيرًا من علومها وفنونها، وبعد أن ماتت أو اغتيلت بها فنون وعلوم ورياضات مع الغزو العربى لمصر، بدأت هذه العلوم والفنون فى الحياة مرة أخرى فى بلادٍ أخرى بمسميات يونانية خالصة! قرونٌ مرت حتى تم طمس العلاقة بين الحضارة الأم وبين علومها وفنونها حتى نصل إلى بدايات عصر النهضة الأوروبى. حين بدأت أوروبا عصر نهضتها وأعادت بحث ودراسة الأصول القديمة للعلوم والفنون لم تجد أمامها سوى الحضارة اليونانية فنسبت إليها كل شىء فى غيابٍ تام للغة المصرية وبعد أن أصبحت آثار مصر عبارة عن أطلال وطلاسم غير مقروءة شفرتها! 

بدأ علم المصريات خطواته الأولى فى القرن التاسع عشر، لكنه لم يستطع فك طلاسم تلك الحضارة سوى بعد مرور عدة عقود. كانت خطواته الأولى بطيئة جدًا فى الوقت الذى كانت آلاف الموسوعات تُكتب وتنسب كل شىء للحضارة اليونانية! فى القرن العشرين فقط بدأت الحضارة المصرية تسترد بعض إرثها المنسوب لغيرها، لكن حتى الآن ما زالت تلك الحضارة المصرية مظلومة مسلوبة من إرثها ولا يزال أمام العالم المعاصر خطوات كبرى من البحث والتجرد حتى يرد إليها إرثها!

فن التمثيل المسرحى أو «الدراما» هو نموذج مثالى للفنون التى أبدعتها مصر ثم تمت نسبتها لحضارة أخرى هى الحضارة اليونانية، حتى إن الاسم نفسه «دراما» تم اشتقاقه من لفظ يونانى «دراماتوس» بمعنى «واقعة ممثلة»! رغم أننا الآن نمتلك وثائق تثبت بشكل قطعى أن المصريين هم من خلقوا هذا الفن قبل مولد الدراما اليونانية على الأقل بثلاثة آلاف عام! لدينا وثائق لأقدم ثلاثة نصوص لتمثيليات مسرحية مصرية كان يتم تمثيلها بالفعل بمشاركة ممثلين وبشكلٍ يضاهى التمثيل المسرحى المعاصر!

أقدم تمثيلية مسرحية موثقة فى التاريخ الإنسانى هى ما يعرف بالدراما المنفية، نسبة لمنف عاصمة مصر الأولى فى الدولة القديمة. «تمثيلية منف» أو «تمثيلية بدء الخليقة» تم تدوينها فى بدء عصر اتحاد مصر كدولة موحدة بعاصمة واحدة هى منف، ولدينا نسختان من نفس المتن، النسخة الأولى تعود للأسرة المصرية الأولى حوالى ٣٢٠٠ ق.م، بينما النسخة الثانية هى نص منسوخ من النسخة الأصلية الأولى على قطعة حجر أسود موجود الآن بالمتحف البريطانى. كان هذا الحجر مستخدم كقاعدة لطاحون تطحن عليها الغلال لقرون طويلة ويعود للأسرة الخامسة والعشرين «نهاية القرن الثامن قبل الميلاد»، مُحى بعض الأجزاء من الحجر وبقى بعضها الذى تمت مطابقته بالوثيقة الأقدم!

 

كانت هذه «المسرحية المُمَثّلة» تقدم تفسير المصريين لأصول الأشياء وكيف ظهر النظام الكونى فى صورته الأولى، وكيف تم خلق هذا الكون! كان يتم تمثيل النص بطريقة «الراوى»! شخصية الراوى قام بأدائها أحد كبار رجال الدين أو «كاهن مرتل»، كان يلقى جزءً كبيرًا من الرواية على نظام «الحكى»، وحين يصل للحديث عن شخصية معينة يتقدم من يقوم بدور هذه الشخصية فيمثل ما قامت به الشخصية ويقوم بمحاورة باقى الشخصيات التى لها أى دور فى هذا الجزء! كانت المسرحية الأولى والأقدم ذات طابع دينى فلسفى، لذلك كانت الشخوص عبارة عن الإله الخالق مع بعض الشخوص النورانية.. كان كل ممثل يتقمص دور أحدهم ويرتدى ملابسه ويضع على وجهه قناع الشخصية! تميزت المسرحية الأقدم بغلبة الحركات على الحوار، كانت بها فصول متعددة، يتناول كل فصل أحد مكونات الفلسفة الدينية المصرية. فمثلًا هناك فصل عن قصة أوزوريس وما تبعها من صراع بين ابنه حورس وبين شقيق أوزوريس «ست»، وكيف أن «بتاح» الخالق قام بحسم الصراع بينهما.. فى هذا الفصل قام ممثلو الشخصيات الثلاث بحوارات مطولة قبل أن يستمر «الراوى» فى تكملة باقى الفصول من المسرحية، منتقلًا إلى فصولٍ أخرى! كان الراوى يبدأ بجملة «حدث أنه..» ثم يروى ملخص الفصل قبل أن يتقدم الممثلون، كلٌ حسب دوره فى أداء الحركات الخاصة بدوره وقبل أن يبدأ فى إلقاء الجزء الخاص به من الحوار، والذى كان يتطلب حفظه جيدًا والتدرب عليه قبل العرض الرسمى، والذى كان يوافق بعض الأعياد الدينية!

النص المسرحى الثانى فى الأقدمية هو ما يسمى «مسرحية إدفو»، والنص الأكثر اكتمالًا لها منقوش فى معبد إدفو الذى يعود للعصر البطلمى «القرنين الثانى والثالث قبل الميلاد». لكن النص نفسه فى المعبد يحتوى على عشرات الأدلة على أنه قد تم نسخه من بردية تمت كتابتها فى أواخر الدولة الحديثة، ثم نجد فى الرسوم المصاحبة للنص أن من قام بدور «الراوى» أو المرتل هو «إمحوتب» الحكيم والمعمارى للملك زوسر، أحد ملوك الأسرة الثالثة «فى القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد»! أى أن النص المسرحى الأول لهذه المسرحية يعود لذلك التاريخ! وفى هذا النص المسرحى نجد تطورًا واختلافًا عن النص الأول «دراما منف»، فقد تميزت مسرحية إدفو بحوارات مطولة جدًا بين الممثلين! وكان يتم تمثيل هذه المسرحية سنويًا يوم الواحد والعشرين من شهر أمشير! .

المسرحية الثالثة فى الترتيب الزمنى هى ما يعرف بورقة الرمسيوم أو «دراما التتويج»، وهى تمثيلية تتويج الملك سنوسرت الأول بعد موت والده الملك أمنمحات الأول من الأسرة الثانية عشرة «الدولة الوسطى» القرن العشرين قبل الميلاد! لقد عثر عليها مكتوبة فى ورقة بردى عام ١٨٩٥م فى منطقة الرمسيوم غرب مدينة الأقصر. بالنص ستة وأربعون منظرًا تمثل جميع الشعائر الدينية والسياسية المصاحبة لتتويج الملك، واشتركت فى تمثيل هذا النص الدرامى حيوانات حقيقية بجوار الممثلين، كما تمت الاستعانة بديكور يحاكى القصر الملكى من أعمدة وأشجار ونباتات وخبز وحلى! وكان الراوى يبدأ أيضًا بجملة «حدث أنه..» ثم يقوم بعد ذلك أحد الممثلين بأداء الحركة أو الشعيرة أمام الملك.. بما يعنى أن هذا النص قد تم تمثيله أمام الملك نفسه بعد التتويج كنوع من الاحتفال السياسى الدينى!

من هم الممثلون؟ وما هو المسرح؟.. ومن هو المشرف أو المخرج؟

كان يتم انتقاء الممثلين من كهنة المعبد وموظفيه وأسرهم، وكان يتقمص دورَ الراوى الكاهنُ الذى يحمل رتبة «رئيس مرتلى المعبد». كانت هناك «مجاميع» تقوم بدور الكومبارس الصامت ويقوم بتوزيعها وتحفيظها دورها الكاهن الراوى ذاته! وقد يقوم ممثل بأداء أكثر من دور فى نفس العرض المسرحى، أو أن يتناوب على تمثيل شخصية مهمة أكثر من ممثل! فالتمثيل هنا كان مقصورًا على فئات بعينها هى الفئات المرتبطة بالمعبد وأسرها!

«الموسيقى التصويرية» لم تكن غائبة عن التمثيل المسرحى المصرى! فلقد عرف المصريون الموسيقى والأوركسترا وفرق المغنين وابتكروا آلات موسيقية- سوف أتحدث عنها تفصيلًا فى جزءٍ منفصل- وقد كانت تتم الاستعانة بفرقة مغنين مكونة من «مغنى المعبد» وموسيقييه، كان يتم توزيعهم فى أماكنهم قبل بدء العرض!

أما مسرح العرض فلم يكن مسرحًا واحدًا، فوحدة المكان لم يتقيد بها القائمون على العرض! فكان يتم تمثيل بعض المشاهد فى بعض أفنية المعبد أو بعض المحاريب الداخلية، أو يتم الانتقال بين مكانين بعيدين، مثل معبد الأقصر والكرنك، بل وبعض المشاهد كان يمثل على ضفاف النيل! أو بجوار البحيرة المقدسة، وكان على بعض الممثلين أن يقوموا بأداء أدوارهم فى قوارب تسبح على مياه البحيرة!

أما عن الجمهور، فلم يكن مقدرًا أن تمثل هذه المسرحيات أمام الجمهور الذى لا يحق له دخول بعض الأجزاء الخاصة بالمعبد. لذلك فإن بعض المشاهد لم يكن يشاهدها إلا جمهور قليل، لكنها لم تكن مسرحيات سرية أو باطنية! أحيانًا كان يتأثر الجمهور القليل بالتمثيل وتزداد حماستهم لدرجة تفاعلهم مع الممثلين واشتراكهم فى ترديد بعض عبارات الفرقة الموسيقية!

 

اهتم المصريون بتجهيز أدوات المسرح أو ديكوراته اهتمامًا كبيرًا، وكان ديكورًا ثريًا متنوعًا يشمل سفنًا وأسلحة وزينات وتيجانًا ونماذج لحيوانات كأفراس النهر وحيوانات حقيقية كالماعز والثيران، وأوانى بها مشروبات حقيقية كالجعة والنبيذ، وإكسسوارات مذهبة وأردية وأزياء راقية!

«السيناريو» أو «التعليمات المسرحية» المفصلة كانت حاضرة بقوة فى كل النصوص المسرحية التى حفظها التاريخ لنا! شملت تلك التعليمات رسومات توضح مواضع الممثلين وحركاتهم، أو فى صورة رسومات مصحوبة بعبارات فى أسفل النص. فمثلًا حين يكون هناك دور لممثل صامت نرى رسمًا توضيحيًا فوقه جملة توضح ما سيفعله الممثل دون أن يكون له حق الكلام. ففى مسرحية إدفو هناك منظر لممثل صامت يمثل دور روح كتب فوقها «إنى أنطح بقرنى من يتآمر على قصرك»، فالممثل لا يقول هذه العبارة بل عليه أن يتقمص الحركة فيفهم الجمهور دورَه!

بناءً على تلك المفردات السابقة الموثقة، يمكننا أن نغمض الأعين ونتخيل عرضًا مسرحيًا مصريًا عمره يتجاوز خمسة آلاف عام كالآتى..

عمال المعبد يعملون كخلية نحل لأيام أو ربما أسابيع سابقة قبل العرض الرسمى الموافق ٢١ أمشير. تجهيز الديكور والملابس والإكسسوارات. فِرق من كهنة المعبد من ذوى الدرجات الرفيعة يتولون تحفيظ الممثلين أدوارهم بمن فى ذلك مجاميع الكومبارس. فرق المغنين تستعد وتراجع نص المسرحية ومتى وأين سوف يبدأون «دخلتهم»، ومتى سيستخدمون آلاتٍ بعينها لمنح أجواء الشجن مع مقتل أوزوريس، ثم موسيقى البهجة مع انتصار حورس.. يقومون بعمل بروفات حقيقية.. مع التأكد من صلاحية آلاتهم الموسيقية ومدى احتياج بعضها لأعمال صيانة مثلًا فى الأوتار أو طبقة الجلد أو غيرها.

يوم العرض يصطف جميع المشاركين بكامل زينتهم وبريقهم.. كبار رجال الدولة والمعبد ونخبة مصر من العلماء فى مختلف فروع العلوم والفنون يدخلون ويقفون أو يجلسون فى المساحات المخصصة لهم.. تبدأ الفرقة الموسيقية قطعًا بلفت انتباه الحاضرين لبدء العرض بدقات على الطبول أو بالنفخ فى أبواق معينة لكى يصمت الجميع وينتبهون لبدء العرض ولتلقى الرهبة والجلال فى قلوب الحاضرين.. ثم يبدأ الراوى فى «الحكى» من مكانٍ يسمعه الجميع.. ويتوقف قليلًا قبل أن تشترك الفرقة الموسيقية بتمهيد للمشهد.. ثم يتقدم الممثلون ليقوموا بتمثل المشهد فى حركات محددة سلفًا مصحوبة بموسيقى تتناسب مع كل مشهد..!

هذه هى مصر منذ خمسة آلاف عام.. كلما مددتُ يدى لأغترف شربة من نهر حضارتها الهائل أزداد يقينًا بأن هذا العالم لم يأتِ بجديد بعد أن ألقت كلمتها ومنحت منحتها النورانية لهذا الكون.. هذه هى مصر الحقيقية.. أمة تحب الحياة.. أمة منحت العالم كل فنونه ورياضاته وعلومه.. أمة عصية على الظلام.