رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

باب للعشق وليس للكراهية يا ناس

أشرف عبدالشافى
أشرف عبدالشافى

يكتب: 

ذهبت إلى مسرح الطليعة لمشاهدة مسرحية «باب عشق»، وسط مجموعة من الصديقات والأصدقاء لا يعرف بعضهم البعض، ولا يجمعنا سوى المحبة والرغبة فى اللقاء وقضاء وقت مبهج فى أيام «مغشلقة»، تجمعنا فى كافتيريا الطليعة، وكنت مترقبًا وصول المتأخرين، ومشغولًا بكيفية تعريف الناس ببعضها البعض، لكن جزءًا كبيرًا من هذا الهم الكبير كان قد انتهى بمجرد أن جلسنا ودارت الحكايات وجاءت القهاوى والشاى والماء، وبعد لحظات كان الجميع يتحدث مع الجميع كأنهم يعرفون بعضهم البعض من سنين!

 

لماذا أكتب هذه المقدمة عن مشوار الطليعة؟، لأن المجموعة المتعددة المشارب والثقافات، والمختلفة تمامًا فى اهتماماتها وطبيعة عملها، انسجمت هنا على تلك الكافتيريا، ثم تسلطنت بمعنى كلمة «السلطنة» فى العرض الذى فاجأنى أنا بشكل شخصى.. فما أن عُزف النشيد الوطنى ورُفعت الستارة؛ حتى ارتفعت دقات قلبى خوفًا من ملل البعض أو زهق البعض أو لعنات البعض حتى ولو كانت سرية!، فأنا الذى تحمست وجاء كل واحد من هؤلاء تاركًا مشوارًا أو عزومة أو واجب توصيل عيل للتمرين أو الدرس، وتحملوا مشقة الوصول إلى المسرح قادمين من مدينة نصر أو الهرم أو أكتوبر، لكننى وبحمد الله كلما ضربت عينى خلسة عن يمينى وأخرى عن يسارى وجدتهم فى قمة الانسجام والتركيز أيضًا، فاستراح ضميرى، ومع اللوحة الأولى التى رسمها المخرج حسن الوزير فى إحدى الحانات- عهد هارون الرشيد- دبت البهجة مع صوت رائق وجميل لمطربة الحانة، التى قامت بدورها الموهوبة شيماء يسرى.

وعرفنا مبكرًا أن المنادى الذى يجوب المدينة كان يؤكد أن الأميرة «دعد» وريثة العرش تطلب شاعرًا للزواج منها، وأنها ترفض كل العروض المغرية من أمراء ووزراء انتظارًا لشاعر يحمل قلب فارس، ويقيم العدل فى أرجاء المملكة التى يحكمها والدها الملك فخرالدين، الذى جسد شخصيته باقتدار الفنان فكرى سليم، كما أجادت الفنانة هالة يسرى تأدية دور الأميرة دعد.

فى الحانة حالة بهجة راقصة باستعراضات محمد بحيرى، والتى تألقت فى تأديتها الفتاة المدهشة راقصة الحانة «مى زويد» بمنتهى الخفة والجمال مع صوت شيماء يسرى، وهنا سيظهر الشاعر «الفنان ماهر محمود إسماعيل» الذى يحمل الصفات التى تحلم بها الأميرة «دعد»، مضافًا إليها حلاوة صوته كلما ردد قصيدته اليتيمة «من أشعار الأستاذ الكبير درويش الأسيوطى وألحان رائقة للفنان محمد حسنى»، فهو شاعر تتغنى الناس بقصائده، وهو وسيم الطلعة، جيد الصوت، معتز بذاته لدرجة رفض إغراءات راقصة الحانة لبيع جسده، وهو فارس يحمل روح الشموخ ويرفض بيع قصيدته للتاجر طاهر- قام بدوره الفنان أحمد حسن- الذى يبيع ويشترى كل شىء، ولا يحمل من اسمه شيئًا! 

يفقد التاجر الأمل فى شراء الشاعر وقصيدته التى كان يحلم بتوصيلها إلى الأميرة ليتزوجها ويرث العرش، فيستغل حاجة أحد العبيد إلى الحرية مقابل المال، فيستأجره لسرقة القصيدة فيفشل لأنه «عبد» وليس لصًا محترفًا، ويقع العبد هارون- قام بدوره الفنان إسلام بشبيش- فى قبضة الشاعر الذى يتخذ منه رفيقًا فى رحلته التى سيقطعها من تهامة إلى نجد كى يصل بقصيدته الدعدية إلى الأميرة بنفسه دون وسيط، وبرفقة العبد الذى يجد نفسه مرافقًا لشاعر طيب وساذج وسريع الثقة فى الغرباء!، فبينما هما فى الصحراء ظهر «غيلان- الفنان محمد أمين» راعى الغنم فأنقذهما من العطش، وحكى الشاعر حكايته للغريب، فطلب الراعى أن يقرأ له القصيدة، وهنا يهجم عليه ويغرس السكين فى قلبه، يموت الشاعر بينما صوته يردد: «ستقتلك قصيدتى يا غيلان».

هناك فى القصر يجلس الملك مع ابنته الأميرة، ورغم ما بينهما من محبة وتفاهم فإن الرجل يطلب من ابنته أن تُعجل باختيار فارسها لأن إمارات مجاورة أعلنت عن تمردها بسبب رفضها الزواج من وجهائها، ومع ذلك يتحمل عواقب رغبات ابنته التى يثق فى رجاحة عقلها، ويجلس يستمع معها بشكل يومى لعشرات الشعراء القادمين من البلاد بقصائدهم، وبينهم طامعون وأفاقون وهواة مغامرات، وتألق فى تأدية هذا الدور مجموعة من الشباب الواعدين، بينما المؤامرات تحاك داخل جدران القصر بين ثلاثة أشرار «وزير الدولة وقائد الحرس والسياف»، وهم بالترتيب الفنانون «محمد صلاح وخالد العيسوى ومحمد جاد»، والثلاثة يتآمرون للفوز بقلب الأميرة وميراثها الشاسع، حتى وإن اختلفت طرائقهم فى محاولات الوصول إلى الأميرة فإنهم «متآمرون وأغبياء» باستثناء محاولات ثالثهم للظهور بدور الحكيم الناصح لوزير الدولة مرة، وللسياف مرة، وأدى الفنان محمد جاد هذا الدور باقتدار كبير، وهو يجعل من اسم قائد الحرس رنينًا خاصًا حين يردد «بكر.. اسمعنى يا بكر.. ليه كده يا بكككر؟!».

قُتل الشاعر، وهرب العبد التابع له، وباءت مؤامرة الثلاثة الأشرار فى القصر بالفشل، وارتدى غيلان أزهى الثياب وذهب إلى الأميرة بقصيدته المكتوبة بدم الشاعر، ويستقبله الملك والأميرة ويقرأ أول بيت من القصيدة ثم يصاب بالدوار، وتتردد كلمات الشاعر المغدور كمطرقة تدك رأسه «ستقتلك قصيدتى يا غيلان»، لكنه يتماسك ويبرر ما جرى بأنه شيطان الشعر الذى يعصف برءوس الشعراء ويواصل قراءة «الدعدية»، وتعلن الأميرة عن موافقتها عليه زوجًا ووريثًا للعرش، تختاره وهى تضمر شيئًا وتخفى أشياء، فقد مات الملك قبل حفل الزفاف ولم تعلن الخبر حتى تتأكد من شكوكها فى هذا الشاعر الذى سيصبح ملكًا وزوجًا، وهناك حيث الحانة وبهجتها وغنائها وخمورها، يأتى «العبد هارون» الشاهد الوحيد على جريمة غيلان، ويكشف لرئيس الحرس عن حقيقة القاتل، وتختبر الأميرة «غيلان» مجددًا فتطلب منه قراءة القصيدة، وتعصف كلمات الشاعر المغدور برأسه، لكنه يعود ويتماسك، فتسأله الأميرة عن البلد الذى جاء منه، وكان الشاعر المقتول قد ذكر فى قصيدته أنه من تهامة، بينما غيلان يرعى الغنم فى نجد، فيتلعثم ويرتبك وينتهى الزيف؛ حتى وإن كان الثمن هو دم الشاعر المغدور فى بلادنا بشكل عام.

 

هذا عن الدراما أو الحدوتة بشكل مختصر ومرتبك بالطبع، فهى لوحات فنية قصيرة جدًا تعرض أجواء الأماكن وطبيعة شخوصها بثلاث وسائل أساسية، الديكور للفنان «فادى فوكيه» الذى قدم حلولًا سهلة فى تغيير اللوحات ووضع بصمات محددة لكل مكان، فانتقل من الحانة إلى القصر وذهب مع النص والمخرج إلى الصحراء بلمسات بسيطة لم يشعر بها الجمهور، الذى تعودت عيناه على كل مكان يذهب إليه النص ومخرجه، النعومة التى جاء بها مهندس الديكور الواعد لم تكن لتكتمل إلا برؤية بصرية أخرى، وهى الأزياء التى صممتها الفنانة «مها عبدالرحمن» ببساطة لوحات الديكور، فجاءت بروح العصر الذى ذهب إليه النص والمخرج «هارون الرشيد»، ولم يتبق للمخرج سوى متعة «الأذن» التى اكتملت بموسيقى وألحان الفنان محمد حسنى باللعب على تيمات الشجن والبهجة فى التراث الموسيقى المصرى، ومن الواضح أن محمد تلميذ جيد فى مدرسة بليغ حمدى، حيث تراقص مع أشعار وقصائد درويش الأسيوطى فى لوحات الحانة المبهجة، وبكى محزونًا فى لوحات الغدر والخيانة.

ما أقوله لك مجرد انطباعات شخصية، وليست أحكامًا نقدية ملزمة لك أو لغيرك، فلست ناقدًا ولا يحزنون، لكننى شاهدت عرضًا سهلًا ومتناغمًا ينقل المعانى الكبرى عن العدل والحرية والحقد والكراهية فى مواجهة الشعر بفروسيته ونبل مقاصده، ببساطة متناهية وسلاسة جعلت اللغة العربية الفصحى خفيفة الظل؛ رغم إتقان جميع الممثلين نطقها الفصيح فى نادرة من نوادر استخدام الفصحى فى عرض مسرحى، وكل هذا الذى قلته لك فى السطور السابقة من انطباعات شخصية صنعه مخرج كبير الاسم والمكانة هو «حسن الوزير»، الذى قدم سعدالله ونوس ومحمود دياب، وأخلص إخلاصًا شديدًا للمسرح فى الأقاليم، وعلى مدى تاريخه المسرحى حرص على صناعة أجيال مسرحية فى كل محافظات مصر تقريبًا، ومن الطريف أن أحد أصدقائى، وهو الدكتور محمد حفنى نقيب أطباء السويس السابق وفنان الجراحة، كان ضمن ضيوفى لمشاهدة العرض، ولأنه مسرحجى قديم فقد استغرق مع المخرج حسن الوزير فى حوار طويل عن المسرح فى السويس وأشهر المسرحيين هناك، ولأن حسن من بورسعيد أيضًا فقد تناغما كأنهما صديقان قديمان!

المهم أن حسن الوزير وبخبرات مسرحية معتقة وبحساسية كبيرة، استطاع ترويض «باب عشق» النص البديع والصعب الذى كتبه إبراهيم الحسينى وحصل به على جائزة ساويرس؛ ليظهر على هذا النحو من الجمال والرقة.

جاء حسن بوجوه جديدة فى مغامرة يحبها ويعشقها لتأكيد رسالته أن المسرح لن يقوم على نجم شباك، بل يقوم بمواهبه الواعدة التى تبحث عن الفرصة وتجتهد فى الوصول إليها، ستلاحظ من مخرج بهذا الأسلوب حرصًا شديدًا على تنجيم أبطال العرض، بمن فيهم الكومبارس أو المجاميع، فى كل لوحة سيظهر لك شاب منهم ليأخذ مساحته على الخشبة ولو لدقيقة، ستتذكر جميع الوجوه ولن تحفظ وجهى البطل والبطلة فقط، هذه براعة مخرج ينتمى للمجاميع ويجلس بينهم يحفزهم، ويؤكد لهم أن الأمل باق رغم شعوره الخاص بالوجع والألم، فخلال سنوات طويلة مضت لم يأخذ حسن الوزير فرصته للإخراج على مسارح الدولة دون أن يعرف هو أو غيره سببًا محددًَا للقطيعة مع مخرج قدم له المسرح القومى رائعة محمود دياب «أرض لا تنبت الزهور» عام ١٩٩٦ تقريبًا، ومن يومها على حد علمى لم يقدم حسن الوزير عروضًا على مسرح الدولة!، أقول «على حد علمى».

كثيرون شاهدوا هذا العرض من نقاد وأدباء، وكثيرون كتبوا عنه، وفى اعتقادى الشخصى أن العرض صنع حالة فُرجة لطيفة؛ بصرف النظر عن الرأى النقدى المتخصص الذى كان له رأى آخر، واستبعد «باب عشق» من المشاركة فى المسابقة الرسمية للمهرجان القومى للمسرح، فليست انطباعاتنا الشخصية مقياسًا للنجاح والتفوق، ولا يجوز التقليل من الرأى النقدى المتخصص الدارس وصاحب الخبرات الأوسع فى اختيار الأعمال المناسبة وفق معاييره، وقد لاحظت أن هناك محاولات جديدة لصناعة قطيعة بين مسرح الدولة والفنان حسن الوزير بإشاعة أجواء عدائية بين «باب عشق» ولجنة اختيار الأعمال المشاركة فى المهرجان، وحاول البعض تصوير الاستبعاد على أنه مؤامرة ضد الفنان الكبير حسن الوزير شخصيًا!، وتلك إهانة لحسن الوزير الذى لم يقدم للمسرح المصرى ما يستحق عليه تدبير مؤامرات صغيرة أو كبيرة!، حسن الوزير له فى كل محافظة مصرية بصمة مسرحية وليست بصمة إجرامية!، حسن الوزير لم يخلص لشىء سوى للمسرح، حسن الوزير لم يصارع أحدًا ولم يتكالب على غنيمة أو جائزة، وعندما عاد ليقدم باب عشق كان قد اكتمل تمامًا وصنع سيمفونية بديعة ومتناغمة، وكان يتمنى أن تقابل عودته هذه بما يليق بتاريخه، عاد بباب للعشق، ومن عاد بباب للعشق لن يبحث عن الكراهية.

وقد جلست إلى الفنان حسن الوزير واستمعت إليه طويلًا، صحيح هو غاضب لكنه لا يشكو أحدًا ولا يتهم أحدًا، لكنه يتعجب مثل أى مشاهد للعرض من هذا الرأى النقدى الذى استبعد باب عشق!، ويتمنى أن تتشكل اللجنة بكامل أعضائها لتشاهد العرض بعيدًا عن القرار الذى تم اتخاذه بالاستبعاد، وهذا ليس مطلبًا كبيرًا ولا صعبًا، فقد توزعت اللجنة على العروض ولم يشاهد باب عشق سوى اثنين أو ثلاثة على ما أظن، وكل أعضاء اللجنة أصدقاء للفنان حسن الوزير ويعرفهم ويعرفونه ويحق له أن يدعوهم لمشاهدة عرضه بصرف النظر عن قرارهم النقدى المتخصص. المسرح المصرى والفن المصرى عمومًا فى أشد الحاجة للحوار العاقل، وليس هناك مجال لفتح جبهات وحروب لا مبرر لها ولا يستفيد منها سوى أعداء الفن المصرى.. وقد أصبحوا كالجراد المنتشر.