رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دراسة كاملة.. من أسطورة أرض الميعاد إلى أطماع التوطين 2

السطو على سيناء.. كيف واجهت مصر«خطط التوطين» الملعونة؟

ربما بعد وصول تنظيم الإخوان للسلطة كانت هى المرة الأولى التى يسمع فيها كثيرٌ من المصريين أنّ مصريين آخرين وصلوا لحكم مصر يفكرون- ولو مجرد تفكير- فى التنازل عن قطعة من أرض مصر! وأول مرة يسمعون فيها عبارات مثل توطين أشقاء فلسطينيين فى قطعة من سيناء! لكن الحقيقة أن سيناء ومنذ عام ١٩٤٨ أصبحت بحكم حدودها الجغرافية فى مواجهة أمواج متلاحقة من الأحداث السياسية. قبل أن نتطرق إلى ظهور فكرة توطين فلسطينيين فى سيناء لأول مرة، هناك سؤال حاسم فى كيفية تحديد القرارات الخاصة بسيناء. ما هو وضع سيناء فى أسطورة أرض الميعاد التى عرضتُ قصتها فى الجزء الأول؟ كيف تنظر الدولة التى قامت على تلك الأسطورة إلى سيناء؟!

يجيب مجموعة من الحاخامات عن هذا التساؤل فى كتاب ذرية إبراهيم إجابة صريحة.. «يؤمن اليهود بأن ما حدث فى سيناء من تنزيل الأوامر أو التوراة هو أحد الفواصل المهمة فى التاريخ اليهودى؛ لأن سيناء هى المكان الذى شاهد فيه الشعب اليهودى تنزيل التوراة، التى تعد الميثاق والتأكيد للعهد الإلهى، وتوسيعٌ له باعتبار سيناء امتدادًا لأرض كنعان»! 

لكن الأكثر صراحة هو ما ورد فى التلمود- وهو كتابٌ يمثل التراث اليهودى وتفسيرات وشروح الحاخامات الأوائل المتراكمة عبر العصور- فيما يخص سيناء ويحدد موضعها فى الأسطورة الجديدة. فكما قام لوثر بخلق الأسطورة من نص دينى قديم، فقد استكمل اليهود بعده اللعبة بالتفتيش فى التراث اليهودى عمّا يمنحهم حجة دينية لأطماعهم فى سيناء! ووجدوا ضالتهم فى هذا النص التلمودى «وتجلى الرب فى حاران قائلًا، قم فامضِ إلى أرض كنعان، أنت وامرأتك وكل من ولد فى بيتك، وكل النفوس التى اهتدت بك فى حاران. فلكَ أعطى الأرض من نهر مصر إلى حد النهر الكبير نهر الفرات»!

 

بعد هزيمة الجيوش العربية عام ٤٨ وصدور قرارات تقسيم فلسطين أصبحت غزة- حسب اتفاقات الهدنة- ضمن الأراضى المحددة للفلسطينيين وأصبحت خاضعة للإدارة المصرية ونزح إليها حوالى مائتى ألف فلسطينى من مختلف بقاع فلسطين! وشكّل هذا مأساة إنسانية كبرى، وظهرت لأول مرة فكرة توطين بعض الفلسطينيين من سكان ولاجئى قطاع غزة فى فلسطين فى الفترة بين انتهاء حرب ٤٨ وقيام ثورة يوليو٥٢! ظهرت الفكرة بشكل رسمى لأول مرة فى سبتمبر ١٩٥١م حين وافقت الحكومة المصرية على مشروع وكالة الغوث الدولية التابعة للأمم المتحدة «أونروا» لمنح الفلسطينيين ربع مليون فدان فى شمال غرب سيناء لإقامة مشاريع زراعية وسكنية!

فى الفترة بين ١٩٥١ و١٩٥٣ أعيد طرح المشروع أكثر من مرة، وتم تخصيص ٣٠ مليون دولار لتنفيذ بنيته الأساسية، رغم صدور دراسات فنية تقول بعدم صلاحية الأرض المخصصة للزراعة! رفض الشعب الفلسطينى الفكرة تمامًا وقاد الحزب الشيوعى مظاهرات الرفض! ومنذ مارس ١٩٥٤م وبعد أن استقرت حكومة الثورة فى مصر توحد الموقف المصرى مع الموقف الفلسطينى فى رفض الفكرة! حاولت إسرائيل إرغام مصر والفلسطينيين على تنفيذ المشروع بالتضييق على قطاع غزة وشن غارات على المخيمات هناك وهاجمت مواقع للجيش المصرى فى القطاع، وأسفرت موجة الاعتداء عن استشهاد ٣٩ وإصابة ٣٣. منذ ذلك التاريخ قررت مصر بدء الأعمال الفدائية العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلى، وتولى ذلك العمل القائد العسكرى المصرى مصطفى حافظ، الذى اعتبره الفلسطينيون بمثابة الأب الروحى للمقاومة الفدائية، وبدأ كثير من الفلسطينيين فى تسمية أبنائهم على اسم القائد المصرى، وكان بمثابة الشبح الخفى للاحتلال الصهيونى!

ظهرت مشاريع أخرى فى الخمسينيات وحتى حرب يونيو، مثل مشروع جوزيف جونسون، رئيس مؤسسة كارنيجى الأمريكية للسلام، والذى قدمه بتكليف رسمى من حكومته، وشمل تخيير كل لاجئ فلسطينى بين العودة أو التوطين فى الدول العربية مع مراعاة أمن إسرائيل، ورفض عبدالناصر رفضًا قاطعًا توطين فلسطينيين فى سيناء!

هذا يعنى أن الفكرة قد اقترحتها هيئة تابعة للأمم المتحدة فى فترة ما بعد حرب فلسطين أثناء الحكم الملكى وقبل جلاء الإنجليز عن مصر، وأن غزة وقتها كانت واقعة تحت الإدارة المصرية. وأن الحكومة المصرية قبل ثورة يوليو قد وافقت على الاقتراح وشرعت فى تنفيذه. وبعد ثورة يوليو انشغلت مصر فى صراع سياسى لمدة عامين حاولت خلالهما إسرائيل استغلال ظروف مصر الداخلية ودفع المصريين والفلسطينيين بالقوة لتنفيذ الفكرة. وأنه منذ عام ١٩٥٤م وبعد استتباب الأمور لحكومة الثورة توافق الموقف الفلسطينى الوطنى مع الموقف المصرى فى رفض أفكار توطين لاجئين فلسطينيين فى أرض سيناء! بل وبدأت حكومة الثورة فى تبنى المقاومة الفدائية الفلسطينية، وموقف مصر هذا كان من أسباب العدوان الثلاثى على مصر!

حاولت منظمات أمريكية أهلية بتكليفات رسمية أن تعيد الحياة لنفس الفكرة، لكن عبدالناصر رفضها تمامًا!

 

تعرض مبارك لضغوط كبيرة من إدارات أمريكية لطرح فكرة توطين فلسطينيين فى سيناء، لكنه رفضها تمامًا. ومن المعلومات المتداولة أنه وحتى أقل من عام من يناير ٢٠١١م عُرض على مبارك عن طريق مسئولين إسرائيليين توطين فلسطينيين فى سيناء، لكنه رفض رفضًا قاطعًا. وقد عرضت شبكة «بى بى سى» وثائق عن ثلاثة مشاريع، توطين فلسطينيين من الخارج فى مصر فى إطار تسوية شاملة، مقترح لتبادل الأراضى، نقل تبعية قطاع غزة لمصر! وقد أكدت جميع الوثائق المنشورة- ومنها مذكرات وزير الخارجية الأسبق أبوالغيط وبيانات مبارك نفسه- رفض مبارك جميع الأفكار والخطط التى تدور حول نفس الفكرة وموقفه هو موقف الدولة المصرية الثابت، والذى يتسق مع تكوينه العسكرى المؤمن بقداسة الحدود المصرية.

 

بعد وصول جماعة الإخوان لحكم مصر اتخذت حكومتها عدة خطوات رسمية معلنة- تم توثيقها فى مئات الوثائق المصرية والغربية- لتنفيذ مخطط توطين فلسطينيين فى سيناء! منها تصريح مرشد الجماعة عن إقامة مخيمات فى سيناء، الشروع فى التوسع فى منح الجنسية المصرية، تقديم مذكرة للكونجرس لمساءلة إدارة أوباما وهيلارى كلينتون حول دعمهما التنظيم بما يزيد على ٨ مليارات دولار فى إطار تنفيذ مخطط التوطين، تقرير مجلة فورين بوليسى، القريبة من دوائر صنع القرار، يشير إلى أن جون كيرى هو من قدم العرض التفصيلى لمحمد مرسى، وتضمن ذلك العرض تنازلًا أمريكيًا بريطانيًا ومعهما بعض دول الاتحاد الأوروبى ودولة خليجية عن ديون مصر الخارجية مقابل البدء فى تنفيذ خطة توطين فلسطينى بسيناء، وزامن ذلك قيام الدولة الصهيونية بتدوين جملة «قطاع غزة وسيناء» فى بعض تصاريح العبور لفلسطينيين وقيام بعض أعضاء حركة حماس بشراء أراضٍ فى الشيخ زويد ورفح عبر وسطاء من سيناء! وأهم وثيقة هى تصريح الرئيس الفلسطينى أبومازن عن رفضه مشروع التوطين الذى عرضه عليه محمد مرسى، وهو مشروع إسرائيلى اسمه «جيورا آيلاند»!

هكذا يمكن القول إنه منذ خمسينيات القرن الماضى حتى عام ٢٠١٣م مع ثورة المصريين ضد حكم تنظيم الإخوان رفض الشعب الفلسطينى ورفضت مصر أفكار التوطين فى سيناء، واعتبراها أفكارًا تمس السيادة الوطنية المصرية وتمس تقديس المصريين لأرضهم، كما أنها مضرة بالقضية الفلسطينية ومهدرة لحقوق الشعب الفلسطينى. المقاومة الفلسطينية الوطنية لم تغير موقفها عبر العقود فى التمسك بحقوق الشعب الفلسطينى فى أرضه. لم يخرج عن هذا الإجماع المصرى الفلسطينى الطبيعى والمنطقى والمتسق مع جميع المواقف السابقة للشعوب التى تقع أوطانها تحت الاحتلال الأجنبى سوى ما تُسمى بالتنظيمات السرية المتأسلمة، سواء كانت مصرية أو فلسطينية! فتنظيم الإخوان فى مصر قَبِل واتفق وتوافق مع فرعه الفلسطينى على تنفيذ الرغبة الأمريكية الإسرائيلية فى البدء فى تصفية القضية الفلسطينية حسب الرؤية الأمريكية! ولم يجهض هذا التوافق سوى ثورة المصريين وتخلصهم من حكم التنظيم، مؤيدين فى ذلك بقواتهم المسلحة، سواء بقراراتها الحامية للتراب الوطنى، والتى أجهضت ما حاولت الجماعة تنفيذه فى عام حكمها، أو فى حماية تلك القوات إرادة المصريين وثورتهم فى ٣٠ يونيو!

 

بعد تولى إدارة الرئيس السيسى حكم مصر، وكما كان متوقعًا، فإن مصر قد تعرضت- ولا تزال- لموجات ضغط كبرى لمحاولة إعادة الحياة لتلك الأفكار المرفوضة مصريًا، ومن وقتٍ لآخر تتم محاولة ابتزاز القيادة المصرية ببث شائعاتٍ تسىء إلى هذا النظام الوطنى، أو تتم محاولة إلقاء بالونات اختبار ساذجة لجس نبض الرأى العام المصرى حول نفس الفكرة! 

المرجفة قلوبهم فقط هم من تنزلق أرجلهم كل مرة إلى نفس الفخ وينسون أن هذا الرجل هو نفسه الذى أصدر قرارات بصفته وزير الدفاع لحماية وصيانة الأرض المصرية، وأن للدولة المصرية الوطنية ثوابت ومقدسات تصوغ مواقفها لن تتغير مهما كانت الضغوط ومحاولات الابتزاز!

موقف مصر ثابت ومبدئى ويتسق تمامًا مع موقف الشعب الفلسطينى المتمسك بالدفاع عن أرضه، وعن حق عودة لاجئيه لأراضيهم ومنازلهم.

فى الجزء الأخير من المقال نتطرق إلى السؤال الأهم.. هل أفكار التوطين فى سيناء- من وجهتى النظر الأمريكية والإسرائيلية- هى حقًا لتقديم حلول نهائية للقضية الفلسطينية أم مجرد خطوة فى مشروعٍ أكبر لا تعلنان عنه؟!