رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيناء الأرض التى انتصرت على كل المتآمرين..

دراسة كاملة.. من أسطورة أرض الميعاد إلى أطماع التوطين (1)

مقدمة لازمة من باب تأكيد ما هو مؤكد وساطع..

موقف مصر المساند للقضية الفلسطينية موقف ثابت ومبدئى لم يتغير منذ النكبة، ولن يتغير مهما تبدلت الظروف. هو موقف لا تعبر عنه عبارات إنشائية، إنما صاغته مصر عبر العقود بدماء أبنائها الذين ربما يعرف عنهم الأشقاء فى فلسطين أكثر مما يعرف مصريون كُثر. وصاغته مصر بمواقفها السياسية المعلنة فى جميع المحافل الدولية وحفظها التاريخ، وهو الموقف الذى كان من أهم أسباب الحروب التى خاضتها مصر فى القرن العشرين.

وهو موقف متوافق تمامًا مع الموقف الفلسطينى الوطنى، لذلك فإننى لا أعتقد أن هذا الحديث هو حديث شائك، بل على العكس فهو حديث معلوماتى يجب أن يعرفه المصريون حتى يعرفوا قدر بلادهم وحتى يكونوا دائمًا على قدر المسئولية فى حمايتها. 

ولأن مصر اكتوت سابقًا وعلى مر القرون بنار هذه القصة العبرية التراجيدية، ولأن مصر فى العقود والسنوات الأخيرة تتعرض لضغوط كبرى من العرابين الكبار، ولأن مصر مستقبلًا مستهدفة فى جزء من ترابها، أخوض هذه المحاولة لعرض القصة كاملة حتى نصل للمشهد المعاصر.

فصول وصفحات متناثرة هنا وهناك بين مراجع تاريخية عتيقة وأخرى معاصرة، وعمل جماعى تنظيمى دءوب صبور طويل المدى، وتداخل عناصر عديدة من دول ومؤسسات اقتصادية وسياسية وأكاديمية، وعلى جانب آخر شعوب كانت تغط فى نوم حضارى طويل وتخلف وظلام علمى أُخذت على غرة، كل ذلك قاد إلى المشهد المعاصر على حدود مصر الشرقية والتى دفعت مصر بشرف وبشكل حقيقى ثمنه الذى لم يدفعه السماسرة والتجار وعشاق الأصوات الزاعقة. 

روايتان قادت إحداهما إلى الأخرى، وما زلنا فى انتظار باقى فصولهما، رواية دينية عتيقة، ورواية معاصرة تريد سرقة جزء من مصر، التاريخ بشخصيته الصارمة يرفض أن يتحول إلى مجرد حكايات للتسلية، ويعاقب الشعوب التى لا تنزله منزلته اللائقة، لهذا أكتب هذا المقال بأجزائه احترامًا لهذا التاريخ ورغبة فى الوصول لغاية واحدة، بلادنا وما يخصها من تلك الرواية المأساوية، وعلى وجه أكثر تحديدًا ما يمكن أن تتعرض له مستقبلًا. 

وفى الجزء الأخير أقدم السؤال الأكثر أهمية عن سيناء، رغم أن كثيرين يتجاهلونه ويحاولون أن يحصروا حديثهم فيما يواجههم فى كل لحظة بعينها، وحتى نصل إلى ذلك السؤال ونحاول البحث له عن إجابة تسهم فى الدفاع عن هذا الوطن، فلا بد أن أقدم هذا السرد الموجز للرواية السوداء الأطول فى تاريخنا المعاصر.

تبدأ القصة من نص فى سفر التكوين، حيث يكلم اللهُ النبى إبراهيم «س» قائلًا: «وأهبك أنت وذريتك من بعدك جميع أرض كنعان التى نزلتَ فيها غريبًا مُلكًا أبديًا..». ثم- ودون تقديم أى أسباب- يستبعد اللهُ إسماعيلَ وذريته من هذا الوعد الإلهى فى نفس سفر التكوين قائلًا: «أما إسماعيل فقد استجبتُ لطلبك من أجله، سأباركه لاحقًا وأجعله مثمرًا وأكثر ذرية جدًا، فيكون لاثنى عشر رئيسًا ويصبح أمة كبيرة. غير أن عهدى أبرمه مع إسحق الذى تنجبه لك سارة فى مثل هذا التوقيت من السنة القادمة».

«وفى هذا أنوه لهذا الخطأ المعلوماتى فى مشهد فيلم الممر حين ناظر الضابط الإسرائيلى نظيره المصرى قائلًا إن هذه الأرض وعد إلهى لذرية إبراهيم «س»، فيرد الضابط المصرى بأن إسماعيل «س» من نسل إبراهيم «س» بس إنتو بتنسوا، فيصمت الضابط الإسرائيلى، فى الحقيقة هناك رد وهو أن الله- حسب الرؤية اليهودية- قد استبعد إسماعيل وذريته العربية من هذا العهد، كنت أتمنى أن يستمر الحوار ويقدم الضابط المصرى ردًا مقنعًا- هو مضمون هذا المقال- على الرؤية اليهودية الكاملة غير المجتزأة».

قبل آلاف السنوات وإلى أرض كنعان أو فلسطين أتت القبائل العربية المتعددة فى هجرات من جنوب الجزيرة العربية واستوطنت هناك قبل القبائل العبرانية، لكن الوضع استقر بأن عاشت تلك القبائل- عربية وعبرانية- معًا. وقامت أحيانًا ممالك عبرانية صغيرة مستقلة مثل مملكة يهوذا، وأحيانًا أخرى أكثر سيطرت على كنعان بجميع مدنها وقبائلها الممالك والإمبراطوريات الكبرى القوية ومنها ممالك مصرية. وكانت مصر دائمًا هى الملاذ الآمن حين تتعرض القبائل العبرانية لمصاعب أو هزائم، كما كانت مصر أيضًا هدفًا دائمًا لمحاولات الغزو أو التسلل من تلك القبائل- العربية والعبرانية- معًا، لكن ما يهمنا فى هذا الموضع حدثان سوف يصوغان تاريخ اليهود والمنطقة فى القرون اللاحقة.

الحدث الأول فى القرن السادس ق. م، حيث انتصرت مملكة بابل على مملكة آشور، وانتصرت على الملك المصرى نخاو الثانى، وأخرجت فلسطين عن السيطرة المصرية وضمتها لممتلكاتها. ثارت مملكة يهوذا الفلسطينية اليهودية على بابل أكثر من مرة، حتى قام الملك البابلى نبوخذ نصر عام ٥٨٦ ق. م بإخماد ثورتها بكل عنف، ودمر أورشليم وهيكلها تدميرًا تامًا، وسبى كثيرًا من اليهود وهو ما يعرف بالسبى البابلى، ومن نجا منهم استقبلتهم مصر وأنزلهم ملكها فى تل الدفنة ١٢ ميلًا غرب القنطرة عند المدخل الشرقى للدلتا، ومنها تفرقوا فى مصر فى منف وتانيس، وبعضهم وصل للصعيد وأسوان.

بعدها بسنوات أعاد الفرس مرة أخرى مَن سُبى منهم فى بابل لأورشليم، وتم بناء الهيكل مرة أخرى، وتواصلت الأحداث التاريخية حتى نصل إلى العصر الرومانى حين أصبحت مصر وفلسطين تحت السيطرة الرومانية. فى العصرين اليونانى والرومانى كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود فى مصر وليبيا وسائر ولايات الإمبراطورية الرومانية، وتفجرت صراعات دموية كبرى بين اليونانيين والرومان من ناحية، واليهود من ناحية أخرى، قتل خلالها مئات الآلاف من الطرفين حتى نصل للحدث الثانى المهم فى العام ٧٠ م، حين قام اليهود بفوضى عارمة مسلحة ضد الرومان، وكونوا عصابات مسلحة مثل «عصابة الخنجر»، وكانت الفوضى شديدة لدرجة أن الرومان بعثوا بجميع الفرق الرومانية فى مصر إلى فلسطين لإخمادها. قام الرومان بمحاصرة أورشليم حتى سقطت وقُتلت أعداد كبيرة من اليهود وحرق الرومان منازلهم، وألغوا منصب «الحبر الأعظم» وتم تدمير الهيكل للمرة الثانية والأخيرة.

 

منذ ذلك التاريخ ولمدة تتجاوز الخمسة عشر قرنًا عاش اليهود فى بلاد شتى فى الشرق الأوسط وفى دول أوروبا الشرقية والغربية فى شكل مجتمعات منغلقة على نفسها، وكانوا مقتنعين تمامًا بأن هذا الشتات هو قدر الله الذى كتبه عليهم. طوال هذه القرون الطويلة لم تظهر أبدًا فى أدبيات اليهود الدينية فكرة أرض الميعاد، لم يعتقد اليهود طوال تلك القرون بأن لهم حقًا مقدسًا فى أرض فلسطين، رغم أن بعضًا منهم ظلوا يعيشون بها مثلهم مثل باقى مواطنيها العرب، حتى نصل للقرن السادس عشر، حيث سيتم خلق أسطورة دينية جديدة تمامًا هى «حق العودة للأرض المقدسة» طبقًا للوعد الإلهى الوارد فى النص السابق من سفر التكوين.

لقد مهد لما حدث فى القرن السادس عشر مقدمات سابقة بدأت فى العصور الوسطى أو عصور الظلام الأوروبى، ثم استمرت فى بدايات عصر النهضة. لقد سادت فى أوروبا المسيحية فى العصور الوسطى موجة عداء عنيفة ضد اليهود. كان الأوروبيون المسيحيون يعتقدون أن اليهود عنصر دخيل- لأن اليهود ساميون، بينما الأوروبيون آريون أو هندو أوربيين- على الحضارة الأوروبية وليس من حقهم جنى ثمارها، وكان الظهور الأول لمصطلح «ضد السامية» مبكرًا جدًا فى العصر الهلنستى، ثم تم تنشيطه مرة أخرى فى العصور الوسطى.

وتم تنشيط ذاكرة الأوروبيين بالمواجهات الدموية القديمة بين اليهود والمسيحيين فى العصر الرومانى التى قتل خلالها مئات الآلاف من المسيحيين، كما ظهرت دعايات كبرى ضد اليهود فى أوروبا وتم اتهامهم بما يسمى تهمة الدم- التى لم يتم حسمها تاريخيًا- بأنهم يذبحون صبيًا مسيحيًا لخلط دمائه بفطيرة عيد الفصح، ضاعف من مشاعر العداء ما تميز به اليهود فى قدرتهم على السيطرة على اقتصاديات الدول الأوروبية فى أوقات قصيرة عن طريق التجارة والربا. أدت تلك الأفكار إلى وجود اضطهاد دينى أوروبى مسيحى صريح وعنيف ضد اليهود فى القرون من الثالث عشر إلى السادس عشر. اتخذ ذلك الاضطهاد عدة أشكال، منها مذابح دموية، وطرد من الأعمال، ثم من الدول الأوروبية الشرقية إلى الدول الأوروبية الغربية، تلاها طرد من تلك الدول الأوروبية الغربية، وكان المطرودون يتوجهون إلى بلاد الشرق الأوسط، تركيا ودول شمال إفريقيا والعراق، فتستضيفهم وتمنحهم الأمان والحياة، ثم يبدأون فى تكوين ثروات هائلة.

 

ثم وقع الحدث الأكبر والأهم، فى النصف الأول من القرن السادس عشر، الذى وجد فيه ساسة أوروبا مفتاحًا ذهبيًا سحريًا للتخلص من اليهود فى أوروبا للأبد، قس ألمانى يسمى مارتن لوثر اصطدم بالكنيسة وقاد ما يسمى بحركة الإصلاح الدينى وأسس المذهب البروتستانتى. لكنه أيضًا وفى محاولة منه لاستقطاب اليهود فتش فى نصوص العهد القديم وقرر تقديم رؤية دينية جديدة، ويمكن اعتبار أنه هو من خلق تلك الأسطورة الدينية «حق عودة اليهود» إلى أرض فلسطين تمهيدًا لعودة السيد المسيح «س». 

كانت رؤيته، فيما يتعلق باليهود، انقلابًا كاملًا على المسيحية.. انقلابًا رفضته غالبية الكنائس وقتها، لأنه برأ اليهود من تهمة قتل السيد المسيح «س»، وأكد أن اليهود هم شعب الله المختار وأبناؤه، وأن هذا الوصف لم يسقط بظهور السيد المسيح.

وجد ساسة أوروبا فى دعوته فرصة ذهبية لطرد اليهود تحت دعاوى إعادتهم لأرضهم المقدسة. رفض اليهود ذلك تمامًا، وقرر ساسة أوروبا إجبارهم على ذلك بشتى الوسائل وتكونت جماعات «التطهيريين» من كبار الساسة ورجال الاقتصاد والمال فى دول أوروبية على رأسها إنجلترا التى رأت فى ذلك مصلحة مباشرة لها بخلاف التخلص من اليهود على أراضيها، وذلك فى ضمان السيطرة عن طريق اليهود فى فلسطين، على طريق مستعمراتها، بدأت النداءات لليهود للعودة وبدأ جمع الأموال، وأيضًا رفض اليهود. 

فرارًا من الاضطهاد الأوروبى قرر اليهود التوجه إلى الأرض الجديدة- أمريكا- ما أغضب ساسة أوروبا الذين لم يريدوا لليهود أن يشاركوهم فى تلك الأرض وخيراتها، فتكونت مجموعات فى أمريكا فى بداية توطن الأوروبيين بها لإقناع اليهود بأن هذه ليست وجهتهم الصحيحة. 

وعلى طريقة الإرهابى وهو يوجه حديثه للفنان عادل إمام فى أحد الأفلام قائلًا له: إنت مكانك مش هنا.. إنت مكانك فوق فى السما، قاوم الأوروبيون موجة هجرة اليهود لأمريكا، وحاولوا إقناعهم بأن مكانهم ليس هنا، وإنما هناك بعيدًا فى أرض الميعاد المقدسة، لأنهم شعب الله المختار.

نجح النصابون الأوروبيون من الساسة ورجال المال فى نشر موجة دينية زاعقة بين الأوروبيين فى القرنين السابع عشر والثامن عشر تتلخص فى أن أى مسيحى مؤمن بشكل حقيقى ومخلص عليه ألا يدخر جهدًا فى إعادة شعب الله المختار إلى فلسطين، حتى يتم التمهيد لعودة السيد المسيح «س»، نجحوا لدرجة أن بعض مسيحيى أوروبا قرروا الهجرة إلى هناك انتظارًا لتلك العودة، ولدرجة أن أولى المستوطنات فى القرن الثامن عشر كانت مستوطنات من هؤلاء المسيحيين، نجحوا لدرجة أن الفن الأوروبى فى تلك القرون اصطبغ تمامًا بفكرة وجوب نزع فلسطين من سكانها ومنحها لليهود، مثل قصيدة الفردوس المفقود «إن الله سيشق لليهود طريق البحر ليعودوا فرحين مسرورين إلى أرض الميعاد».

نجحوا لدرجة أن المواعظ الدينية فى الكنائس اكتظت بالتهديد بالنار والجحيم والكبريت المنصهر لكل مسيحى لن يعمل على عودة اليهود لأرض الميعاد تمهيدًا لعودة السيد المسيح «س»، كانت حالة تشبه الحالة التى كانت عليها مساجد مصر فى العقود التالية لنصر أكتوبر، وبعد سيطرة خطاب التيارات الدينية المتطرفة التى نشرت فكرة وجوب العمل على إعادة الخلافة الإسلامية، وتشبه الخطب التى شهدتها منابر مصر بعد سقوط مبارك وحتى ثورة يونيو، فكلهم متشابهون فى طريقتهم مع اختلاف لون وشكل وتطريز العمائم والقفاطين.

كان يهود أوروبا الشرقية أكثر استجابة للنداء رغمًا عنهم، فهم قد تعرضوا لموجة اضطهادات فى أوروبا الشرقية، وكانوا ينزحون لدول أوروبا الغربية التى أغلقت أبوابها، فاتجهوا لأرض الميعاد، وبدأت حركة الاستيطان اليهودى الحقيقى فى القرن التاسع عشر، وكانت أول مستوطنة يهودية هى مستوطنة «أرض جلعاد» على مساحة مليون ونصف المليون فدان شرق الأردن ليهود أوروبا الشرقية عام ١٨٥٦م، أى قبل أن يظهر هرتزل على الساحة، وقبل أن يعقد مؤتمره الصهيونى الأول بأربعة عقود.

 

اعتبر اليهود أن تلك الحركة الصهيونية الناشئة حركة علمانية ضد تعاليم الديانة اليهودية وضد التوارة، وأنها- حسب تعبير الحاخامات وقتها والواردة فى كتاب ذرية إبراهيم- تحاول لى ذراع الله وتحدى مشيئته التى كتبت على اليهود الشتات، وألا يجتمعوا فى أرض واحدة، قوبل هذا الرفض اليهودى الأول بعنف ودموية أوروبية ضد اليهود لإجبارهم قسرًا عنهم على الخروج من أوروبا.

مع نهايات القرن التاسع عشر ينقلب موقف اليهود الدينى رأسًا على عقب بعد المؤتمر الصهيونى الأول، ويتم الاتفاق على رؤية دينية يهودية جديدة تقول إن ما تعرض له اليهود من موجات اضطهاد دموية أجبرتهم على التوجه لأرض الميعاد، إنما هى إرادة الله، وإنهم لم يختاروا ذلك ولم يحاولوا لى ذراع الله. 

هذا الانقلاب الدينى كان بداية مرحلة سياسية جديدة هى التى نعرفها جميعًا من تبنى إنجلترا رسميًا الحلم الصهيونى وبدء تكوين منظمات يهودية لجمع الأموال، وتنظيم عمليات نقل اليهود، ثم تبنى اليهود أفكارًا تلمودية إرهابية عنيفة تبيح لهم سفك دماء أهل فلسطين ومن يعترض تنفيذ مشيئة الله، واضطلعت إنجلترا برسم وتنفيذ سيناريو تسليم أرض فلسطين للحركة الصهيونية الاستعمارية،

تكونت عصابات مسلحة برعاية بريطانية كاملة شاركت فى عمليات عسكرية فى الحرب العالمية الأولى واكتسبت خبرات قامت باستخدامها فى قتل الفلاحين الفلسطينيين فى قراهم، واستخدمت تكتيكات عسكرية مثل خطة «حدوة الحصان» و«الأرض المحروقة»، وهما باختصار تعنيان محاصرة أى قرية من ثلاث جهات، والبدء فى عمليات قتل جماعى، وترك ناحية واحدة فقط لمن يريد أن يهرب.

تلك العصابات هى التى واجهتها الجيوش العربية ١٩٤٨م والتى استطاعت هزيمة تلك الجيوش، كلمة عصابات هنا كلمة خادعة، فهذه العصابات كانت جيشًا حقيقيًا مسلحًا ومعدًا بطرق تفوق تلك التى كانت عليها الجيوش العربية، كما أن تلك العصابات كانت من حيث العدد ثلاثة أضعاف الجيوش العربية «ستين ألفًا مقابل حوالى عشرين ألفًا من الجيوش العربية» والأهم أن القيادة الموحدة لتلك الجيوش العربية لم تكن بريئة تمامًا من اتهامات تمس الشرف والولاء.

 

منذ القرن التاسع عشر كانت عمليات شراء الأراضى والمنازل تسير بسرعة كبيرة وبأسعار مغرية لمن أراد البيع من سكان فلسطين، وقد تولت ذلك منظمات صهيونية على رأسها الوكالة اليهودية، فى عام ١٨٣٧م كان عدد اليهود الفلسطينيين أقل من عشرة آلاف يهودى مقابل ما يقارب نصف مليون فلسطينى عربى، وهذه هى الديموجرافيا السكانية بنسبتها الحقيقية للشعب الفلسطينى بعربه ويهوده قبل الاستعمار الصهيونى، وهى نسبة تختلف عن النسب القديمة التى كان اليهود يمثلون فيها نسبًا أعلى كثيرًا، وهذه النسبة- عام ١٨٣٧م- كانت نتيجة سير وتطورات التاريخ التالى لما قام به الرومان من هدم الهيكل وتدمير أورشليم وطرد اليهود منها رسميًا، فهذا هو الواقع السكانى الذى كانت عليه فلسطين فى منتصف القرن التاسع عشر.. عشرة آلاف يهودى فلسطينى من سكان فلسطين ومواطنيها، ولهم نفس الحقوق مثل الفلسطينيين العرب البالغ عددهم ما يقرب من نصف مليون.

ثم قفز هذا الرقم بفعل عمليات الشراء- فى حوالى ثمانية عقود- إلى ما يقرب من ٥٥ ألف يهودى عام ١٩١٧م، مقابل سبعمائة ألف فلسطينى عربى، بما يوازى ٨٪ من السكان، وهؤلاء أيضًا لا يمكن اعتبارهم محتلين أو مغتصبين، لأنهم قاموا بشراء منازلهم التى وافق فلسطينيون على بيعها، «وفى هذا أود الإشارة إلى أننى أتمنى أن يعى المصريون الآن ما يحدث فى مصر حاليًا. فهناك فارق بين أن تكون هناك حالات شراء فردية، وأن تكون هناك موجات شراء جماعية من جنسيات بعينها من المفترض أن حامليها قد دخلوا مصر كضيوف باحثين عن الأمان».

 

هذه هى الصفحة المعتمة الضبابية من الرواية. نص دينى مثل آلاف النصوص لم يكن له أى معنى، أو تفسير خاص، أو حضور سياسى معين طوال أكثر من خمسة عشر قرنًا من الزمان، عاش اليهود خلالها كمواطنين فى شتى دول العالم، حتى أراد قادة أوروبا التخلص من الوجود اليهودى من دول القارة لأسباب كثيرة متعددة، أهمها أسباب اقتصادية وسلوك اليهود أنفسهم، فوجد هؤلاء القادة الأوروبيون ضالتهم فى الأسطورة التى خلقها مارتن لوثر، رفض اليهود تلك الأسطورة حتى تم إجبارهم على قبولها. وبعد قبولها تحولوا إلى الإرهاب الدموى الصريح، واقترفوا من المذابح ما فاق ما اقترفته أوروبا ضدهم، وبعد أن تمت سرقة دولة فلسطين بالنصب والشراء والإرهاب، بدأت صفحة جديدة من العلاقات بين الكيان الجديد ورعاته التاريخيين، وأهمهم وأقواهم بالطبع القوة العسكرية الغربية الأهم والشركات المسيطرة على اقتصاد العالم.

 

بقيت ثلاث نقاط مهمة، الأولى أن هناك ساسة أمريكيين يؤمنون تمامًا بما ذهب إليه مارتن لوثر- المسيحية الصهيونية- وبعضهم جلس على مقعد الرئاسة فى البيت الأبيض وحاول بكل قوته أن يسهم فى دفع الأمور تجاه تحقق الأسطورة بعودة السيد المسيح «س»، ومن أشهر هؤلاء كارتر وريجان.

النقطة الثانية، أن الكنيسة المصرية رفضت رفضًا تامًا كل خزعبلات مارتن لوثر فيما يخص حق اليهود فى أرض فلسطين، ولم تغيّر موقفها عبر القرون التى تلت إعلان لوثر لأساطيره، بينما غيّرت بعض الكنائس فى العقود الأخيرة مواقفها، كانت الكنيسة المصرية تجدد الإعلان عن موقفها على فترات، وآخر ما ورد عنها كان على لسان البابا شنودة الذى رفض فيه تمامًا هذا الانقلاب على المسيحية، ووصف ما حدث بأنه احتلال صهيونى لا علاقة له بالكتاب المقدس. النقطة الثالثة، أن السيناريو الذى نفذته أوروبا ضد اليهود يشبه ما تحاول بعض المؤسسات الأكاديمية الأمريكية الآن بدءه فيما يخص حركة «الأفروسنتريك»، وربما لا يدرك بعض المصريين أن بعض تلك المؤسسات تعمل على خلق هذه الأسطورة السمراء منذ سنوات طويلة، لكنها بلغت ذروتها مؤخرًا. أتمنى أن تدرك مؤسسات عقل مصر أن ملخص فكرة الأفروسنتريك هو أن يجعلوا من مصر أرض ميعاد جديدة لمجموعات بعينها، وهذه المرة لن تكون أرض ميعاد إلهية دينية، إنما حضارية تدعى حقًا فى حضارة مصر وإرثها، فأكبر عملية نصب سياسى فى التاريخ الحديث بدأت بفكرة ابتدعها رجل ألمانى، ثم أصبحت اليوم واقعًا ندفع ثمنه، أتمنى ألا يستهين العقل المصرى المعاصر بأفكار النصب السياسية الجديدة التى تستهدف مصر بشكل مباشر حتى نستيقظ يومًا على أنها تحوّلت من فكرة نصب هزلية إلى واقع علينا دفع ثمن مواجهته.

الجزء الثانى

ما يُخطط لسيناء.. لماذا سيناء؟.. وما موقعها فى أسطورة مارتن لوثر؟.. خطط التوطين وقصتها الكاملة.. مَن اقترح؟.. مَن وافق؟.. ومَن رفض؟