رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغز «معلش».. قصة كتاب فرنسى أشعل مصر منذ ٧٠ عامًا

«لشىء فى نفس العقاد».. حكاية المصادرة المزعومة

لا تمر ساعة، دون أن تصافح عيناك واحدة من صفحات مواقع التواصل القائمة على حكايات أرشيف الصحف والمجلات، التى تبدو فى غالبها طريفة ومسلية وغير معروفة، لكنك لا تعرف إن كانت قصصًا حقيقية أم مكذوبة، خصوصًا أن معظمها يستند إلى روايات شفاهية، أو مقالات رأى، لا تدعمها أحداث سابقة أو لاحقة، أو حتى رواية نافية أو مؤكدة، لا شىء سوى ورودها فى صفحات لا يبذل صاحب الصفحة الجديدة أو محررها قليلًا من الجهد للتثبت منها، ولا مما لديه من معلومات، اللهم إلا عددًا قليلًا من الصفحات التى أحرص على متابعتها بشكل شخصى، منها صفحة «ريحة الورق» التى يحررها الزميل محمد جلال فراج، ويبذل فيها مجهودًا مقدرًا، فيسير وراء الخبر، ويدعمه بما يلزم من تقارير وصور تضعك أمام الصورة الكاملة لما حدث.

ولعل أهمية مثل هذه الصفحات، التى لا تتعامل بخفة مع ما يقع تحت يديها من أوراق، أنها من الممكن أن تكشف عن معارك شغلت الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية فى مصر طوال القرن الماضى، ولم تنته أو يتم حسمها حتى وقتنا هذا، ومنها ما نشره أحد الزملاء المهتمين بأرشيف الصحافة المصرية على صفحته الشخصية بموقع «فيسبوك» السبت الماضى، وتوقفت أمامه كثيرًا، ويخص كتابًا، غير معروف، للشاعر والمسرحى الفرنسى الشهير جان كوكتو بعنوان «معلش»، هذا الكتاب الذى قيل إنه قدم صورة غير منصفة للحياة فى مصر فى أربعينيات القرن الماضى، وتم منعه فى مصر ومصادرته.

والحقيقة أن الزميل طاهر عبدالرحمن الذى نشر رسالة أحد القراء تعليقا على كتاب كوكتو، وأتابع صفحته لما يبذله فيها من جهد، خالفه التوفيق فى أكثر من موضع، أولها أن الغلاف الذى نشره، مصاحبًا لرسالة ذلك القاريء، ليس لكتاب كوكتو، وإنما لكتيب آخر مصوَّر يحمل نفس العنوان، ويرجع إلى المصور المجرى إيتان سيفد، ولا علاقة لكوكتو به سوى أنه كتب مقدمته، ثانيها أنه اكتفى بنشر الرسالة التى يبدو أن صاحبها لم يقرأ الكتاب الأصلى، ولا يعلم عن محتواه الكثير، ولم يلتفت إلى أن الرسالة نشرت فى مجلة «آخر ساعة» التى كان العقاد أحد أعمدتها فى ذلك الوقت، ما يشير إلى احتمالية تزييف الرسالة أو التوقيع «لشىء فى نفس عباس»، ربما يتضح لاحقًا.

ثالثها أن الكتاب لم تتم مصادرته، فلم يترجم إلى العربية من الأصل، وكل ما حدث أنه تم منعه من التداول لفترة قصيرة بناءً على تقارير صحفية غير دقيقة، وما لبث أن تم رفع ذلك المنع بعد وقت قصير، ولك أن تتصور عدد قراء الكتب الفرنسية وقتها، عام ١٩٤٩، ومدى تأثرهم بذلك «المنع» الذى تم رفعه خلال أسابيع.

كتيب إيتان سيفيد المصور، تضمن حصيلة رحلته من صور فوتوغرافية لعامة المصريين، وبعض الفنانين والأهرامات والمعابد، وكان ينشرها فى الصحف الفرنسية، وكتب مقدمته جان كوكتو بعد مراسلات طويلة بينهما نتيجة قراءة سيفيد كتاب كوكتو، وفتنته به، وهو الذى قيل عنه إنه «تأريخ ملهم، ورواية مصورة شعرية، قصة سفر وفيرة تشيد بمصر، البلد الذى يصعد فيه الرجال إلى الآلهة»، وقال سيفيد إن كلمات كوكتو دفعته إلى إجراء تعديل فوتوغرافى للنص الذى ظل فى شكل مسودة لسنوات طويلة، وإنه أذهلته «حدة النظر السابقة لجان كوكتو، ورؤيته الخالدة لهذا البلد»، فلم يكن كتاب كوكتو أكثر من يوميات مسافر، قالت عنه الكاتبة الكبيرة سناء البيسى ما نصه: «زار جان كوكتو مصر مرتين الأولى عام ١٩٣٩، والثانية فى عام ١٩٤٩، عندما قدم إليها مع فرقة الكوميدى فرانسيز، ولقى تكريمًا كبيرًا، ليعود إلى باريس ويؤلّف عنها كتابه (معلش) الذى تحدث فيه مطولًا عن الشعب المصرى، وعمالقة الفكر والفن، أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب الريحانى وسليمان نجيب، وأقام مقارنات عديدة بين أهل القاهرة والإسكندرية، وأهدى الكتاب لصديقه الوجيه المصرى محمد وحيد الدين».

أما رسالة قارئ «آخر ساعة»، محمد عبدالسميع، فتضمنت ما نصه: «إن الآراء التى نشرها جان كوكتو فى كتابه «معلش» منتقدًا بها مصر، وإن كانت مرة مجحفة، فى بعض فقراتها، إلا أنها على مرارتها تلك لا يصح أن نغالط أنفسنا إزاءها، ونقول إنها مفتريات ونسكت، ويجب ألا يكون رد فعل هذه الآراء عند المسئولين، مجرد منع تداول الكتاب فى مصر فقط.. وليس جان كوكتو هو أول ولا آخر من يكتب فى انتقاد مصر والمصريين، فالصحف فى الخارج مليئة بمثل هذا، وأقربها مسألة الصحف السويسرية وغيرها، وإن كانت مقالات بعضها مدسوسة وموعزًا بها من جهات للتشهير بنا.. ومن جهة أخرى فليس لنا أن نؤاخذ جان كوكتو وحده على نشر هذه الآراء القاسية، بل يجب أن نؤاخذ أيضًا من استضافوه، وصحبوه خلال زيارته، فطبلوا له وزمروا، وأقاموا حفلات رقص وخمر! ولم يحاولوا أن ينصفوا البلد الذى يعيشون فيه بكلمة تعلى من قدره.. سامحهم الله».

وبين ما كتبه عبدالسميع، وكتبته الكاتبة الكبيرة سناء البيسى، يبدو أن هناك مسافة كبيرة، لا يحسمها سوى ما كتبه كوكتو بنفسه، الكتاب ومحتواه، ومن استضافوا كاتبه، وصحبوه فى جولته، فكتب عن مصر وعنهم، ويبدو أنه بذلك أغضب آخرين لم يرهم ولم يسمع بهم.. وتلك قصة أخرى.

سناء البيسى: هذا ما كتبه كوكتو.. وتم منعه «لفترة من الوقت»

لم تخف الكاتبة الكبيرة سناء البيسى فتنتها بما كتبه جان كوكتو عن مصر والمصريين، بل ونقلت عنه فقرات مطولة فى مقال لها بعنوان «عام بلا رجعة» نشرته «الأهرام» فى يناير ٢٠٢١، وتحدثت فيه عن عام فيروس «كوفيد- ١٩» الذى ضرب العالم وقتها، ويبدو أنه كان بمثابة فرصة لها لإعادة قراءة الكتاب والكتابة عنه، ولا يسعنى هنا إلا أن أنقل عنها بعضًا من فقرات الكتاب الذى قالت فى مقدمتها له إن الكتاب تم منعه من التداول فى مصر لفترة قصيرة ثم بعدها رفع ذلك المنع. 

تنقل الكاتبة الكبيرة سناء البيسى من كتاب «معلش» ما نصه: «السيارات فى مصر فخمة وقوية، وباستثناء طريق الهرم، والطريق الذى يربط بين القاهرة والإسكندرية وقامت برصفه شركة شل مع طريق الفيوم، لا يوجد فى مصر طرق. وأول شىء يُلفت النظر فى مصر من نافذة السيارة، هو هذا المزيج من الرفاهية والبؤس.. أصوات الكـلاكسات لا تنقطع، وسائقو السيارات يزمرون بلا داع، كما يلهو الأطفال بالزمارة.. ضجة على كل لون تشبه ضجة مارسيليا».

«رجال البوليس يغطون رءوسهم بمعاطفهم، ويتفرق الرجال الذين يرتدون القمصان الخفيفة فى جميع الاتجاهات وقد غطوا رءوسهم بالصحف، وتغطى الطرابيش كلها بالمناديل، وتنصرف الجموع المحتشدة، وتستعيد الكـلاكسات حقوقها، وإن المرء ليتكهن فيما قد يحدث مع ثورة يقوم بها هذا الشعب؟! إن سائقى السيارات يكثرون من التزمير، لأنهم يظنون أن صوت الكـلاكس كفيل بإطفاء نور الإشارة الأحمر، وقد سألت سائق السيارة: لماذا تكثر من استعمال الكـلاكس؟ فأجابنى قائلًا: لكى أطفئ النور الأحمر، فأخذت أشرح له أن هذا النور يتغير بحركة ميكانيكية، وأنه مهما يستعمل الكـلاكس لا يمكن أن يغيّره إلى الأخضر، ولكن حدث فى هذه اللحظة بالذات أن أضاء النور الأخضر، فالتفت نحوى بشماتة وأشار بيده قائلًا: هل رأيت؟!»..

وتقول الكاتبة الكبيرة سناء البيسى: «يحضر كوكتو يوم الاحتفال بالمولد النبوى ويصف الفرحة فى عيون الناس، والتبتل فى ذكرى رسول الله، ويكتب عن الحلوى المعروضة فى كل مكان على هيئة عرائس وفرسان، التى يُشير إليها الأطفال، فتُقبل الأمهات على شرائها بنفوس راضية، ليُزينّ بيوتهن بها لعدة أشهر، وبعدها يأكلها الأطفال، أو يصنع من سكرها حلوى طرية دافئة تسمى «سد الحنك»، ومعناها أن من يتناولها يُذهله طعمها حتى يكاد لا ينطق بعدها من شدة الإعجاب والتدله»..

جان كوكتو

وتعود لتنقل عن كوكتو قوله: «فى مصر الموت صناعة أصلية ثابتة، والانشغال بالمقابر يسيطر على الحياة.. عندما وجدت نفسى أواجه الأهرامات لأول مرة، امتلكنى الإحساس بأنى أتنفس الخلود.. ومهما يسافر الناس ويعودوا ليحكوا عما رأوه من جمال فى بلاد بعيدة، فلن يكون الوصف أبدًا مثل الرؤية، وهذا هو انطباعى عندما رأيت أبوالهول المهيب.. لقد بدأ مرشدنا بالإعلان عنه قبل ظهوره فى الأفق بجلسته الرابضة ورأسه الفرعونى وجسد الأسد، وأطرافه التى كانت غائرة فى الرمال حتى عام ١٩٢٦، وأبدًا لا يوجد تعتيم عن دور أبوالهول، فهو يكاد يُعلن عن موقفه بقوله: أنا الحارس لهذه القبور وقتما كانت تحوى أصحابها، والآن لم أزل حارسها، ورغم رحيلهم عنها لم تزل مهابتها وعظمتها تزداد عامًا من بعد عام.

أبوالهول ذلك الأثر الخالد له سحره الخاص وجمال لا يتبدل.. أشعر بالرهبة والمهابة وأنا أمشى من حوله، وهى نفس الرهبة التى كنت أشعر بها عندما كنت أجول فى بلادى وطرقاتها أثناء وقف إطلاق النار والصمت الرهيب يخيّم على كل الأرجاء، وها آنذا حول أبوالهول.. نفس الصمت وتوأم ضوء القمر.. لا أؤمن أبدًا بأن حملة نابليون هى التى أسقطت أنف أبوالهول، لأن نابليون كان معروفًا عنه احترامه التاريخ والآثار العظيمة، ولا بد أنه قد نقل هذا الإحساس لجنوده.. أبوالهول شأنه شأن الآثار العالمية العظيمة له خاصية فريدة، فما تكاد تراه حتى يعتريك الخوف، وشبه الشلل والتحديق ببلاهة إلى ما لا مثيل له فى الكون، ولكن بعد فترة تكاد تألفه حتى تشعر بأنه قد يسير إلى جوارك ويأكل من يديك.. لقد ذهبت إلى منطقة الأهرامات وأبوالهول ليلًا، وليل القاهرة له وقع خاص فى النفوس.. كان المشهد خلابًا مذهلًا فى صمت الليل تحت أضواء النجوم الخافتة.. وفى الطريق تستلفت نظرى الكتابة باللغة العربية التى أجد فيها غموضًا وألقًا وسحرًا وتناسقًا وفكرًا وجمالًا فنيًا كبيرًا له مذاق خاص لن تجده فى حروف أى لغة أخرى من لغات الكون.. على جانبى الدلتا فى طريقنا أرى الوجوه المصرية المحببة للفلاحين كأنهم هم الذين رآهم يوسف فى رؤياه.. السماء رائعة فى القاهرة، وفى وقت الغسق ترى الشمس والقمر مجتمعين.. فى طريقى كل شىء يُذكرنى بحضارة الفراعنة، أتذكر كليوباترا وطقوسها، وأحاول تجريد تلك الشخصية من عباءة أسطورتها، لأتخيلها كليوباترا الأنثى التى عشقت وأحبت وقامت بأكبر تضحية».

أى هجوم على مصر والمصريين فى هذه الفقرات، أو فى غيرها؟!.. الحقيقة أن لا أحد يعرف، وربما كان الوحيد الذى أدرك ذلك هو السيد عباس محمود العقاد، أو الأخ محمد عبدالسميع الذى لم يجد مكانًا لنشر رسالته أفضل من المجلة التى تفرد صفحاتها لما يكتبه الأستاذ الذى جمعته بالدكتور طه حسين علاقة غيرة ورفض وانتقاد دائم، ووصلت إلى عداوة معلنة، أو عدم محبة، أو سمها ما شئت.. لكنك إن تابعت معى فربما ينكشف أمامك جزء آخر من الأمر، أو زاوية أخرى، لكنها ربما لا تكفى لمعرفة كاملة بما دار داخل الكواليس.

كوكتو عن طه حسين: المصريون يحبونه ويخافونه ويعملون له ألف حساب

فى كتابه «معلش» الذى لا يتحدث عن مصر وحدها، بل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، تتضمن جولته فى مصر وتركيا واليونان، يقول جان كوكتو عن القاهرة نصًا: «بالرغم من زحامها، إلا أنك تشعر بأن هناك ملائكة يقومون بحمايتها»، ثم ينتقل إلى الحديث عن الإسكندرية، وعن رموز الفن والأدب المصرى، ويبدى رأيه فى أصدقائه طه حسين وسليمان نجيب وتوفيق الحكيم ونجيب الريحانى، هؤلاء الذين يتحدث عنهم عبدالسميع، الذى من الزقازيق، فى رسالته إلى «آخر ساعة»، على أنهم «طبلوا له، وزمروا، وأقاموا حفلات رقص وخمر»!!

ولن أنقل هنا غير قليل من الفقرات التى كتبها كوكتو عن عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، الذى لم يكن يحبه «عباس»، ويبدو أن «عبدالسميع» أيضًا كان يوافقه الهوى.

يقول كوكتو عن طه حسين: «إنه كفيف.. لكنه يرى، وهو يرى إلى أبعد مما يُسمح برؤيته فى مصر، احترمته بعد زيارتى له والاقتراب من تفكيره، إذ يمكن لأى شخص بمجرد مقابلته، أن يرى مدى قوته وصلابة رأيه وعزة نفسه، هذه القوة التى تزيد عما كانت حين كان وزيرًا، فقوة المفكر العظيم تتزايد بلا شك عندما يكون صاحبها فى الظل.. إنهم فى مصر يستشيرونه فى كل شىء، ويحبونه، ويخافونه، ويعملون له ألف حساب.. وهو لا يقول «قرأوا لى» وإنما يقول «قرأتُ»، ولا تستطيع أن تكذب سمعك، أو عينك أمام هذا القول منه، وقد حدث فى إحدى ليالى الأوبرا الإيطالية التى شاركته سهرتها، أن شعر بالملل لأن المغنية كانت قبيحة الشكل رغم جمال صوتها، فمال ناحيتى هامسًا: «أى أهمية لجمال صوتها، إنها قبيحة للغاية»!!

ويقول فى موضع آخر: «طه حسين يستقبل زواره يوم الأحد، ويقدم الأصدقاء الجدد فى الجلسة دون أن يخطئ، وعند انصرافهم يصفهم وصفًا دقيقًا.

إنه من أصل ريفى، لكنه أرستقراطى حقيقى، وأنت إذا ما واجهت نظارته السوداء وهى تنظر إليك، خُيِّل لك أن تاريخ مصر القديمة، بعصورها المتتالية، بهزائمها وانتصاراتها، يشق طريقه نحوك، وأن الدخول إلى عالمه ليس بمهمة بسيطة، بل فى منتهى الوعورة، لكنك فجأة وسط مظاهر المهابة والأبهة تلك تجد نفسك معه على شاطئ النيل، تتنزهان بخطى وئيدة، وقد تأبط ذراعك وقهقة بصوت عال.. إنه شامخ ومتواضع وكتوم ومنطلق وقلب عصفور.. وجدته يختلف مع زوجته حول نقطة فى روايتى «الآلة الجهنمية»، وسألنى عمن تكون «إيفون» التى كتبت عنها بالضبط، وكنت أعرف بداخلى أنه يريد أن يكون فى كـلامى انعكاس يخص والدتى، فالرواية ترتكز على عقدة أوديب، لكنى أجبته: «هى مجرد أم وطفلها»، فقال «انتصرت زوجتى إذن»، وقام بتغيير الموضوع لننشغل ثلاثتنا فى موضوع آخر حتى لا يحرجنى بالتوضيح».

العقاد بدأ الهجوم لأسباب أخلاقية.. ولم ير منه غير العنوان

الكتاب الذى صدرت طبعته الأولى فى باريس عام ١٩٤٩، عن دار نشر «جاليمار»، وصدرت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية عام ١٩٥٦، عن «بيتر أوين»، المملكة المتحدة، لم يتم تداوله سوى بين المنشغلين بالأدب والمسرح والسينما فى ذلك الوقت، وتباينت ردود فعلهم بشأن ما جاء فيه، وبنى عليه البعض تصورات لكتب أخرى، ومعارض فوتوغرافية، على أن المهم هنا هو أن سبب عدم ترجمة الكتاب لم تكن له أى علاقة بمحتواه، ولا بهجوم على المصريين، ولا لسخرية منهم، ولا أى شىء سوى أن جان كوكتو كان معروفًا وقتها بانتمائه إلى مجتمع «الميم»، وكانت رحلته تلك مباشرة بعد وفاة «صديقه» الأقرب، وربما خشى «بكوات» زمان، ممن يعرفون اللغة الفرنسية، من الربط بينهم وبينه، أو بينهم وبين ما يحمله رأسه من أفكار وتصورات، بل إن منهم من شن ضده حملة صحفية كان سندها الوحيد هو «العنوان»، ومنهم السيد عباس محمود العقاد الذى كتب مقالًا مطولًا تحت عنوان «معلش من واردات الغرب» لم يتناول فيه سطرًا واحدًا من الكتاب، بل صب جام غضبه على العنوان، وعلى صاحب الكتاب، وأغلب الظن أنه لم يقرأ منه غير الصفحات التى تغزل فيها بالدكتور طه حسين، «وأدبه وبصيرته وحسن تعامله مع المواقف المحرجة»، فقال فى مقاله إن «معلش» أصلها بالفصحى «إن ما عليه شىء»، وأن كوكتو رغم حُبه الشرق «لكنه لم يحببه قط لأحسن ما فيه، لكنه يحب شرق معلش، ويحييه على طريقته ظنًا منه أنه لا توجد كلمة تماثلها باللغات الأوروبية»، ثم أخذ يستعرض معرفته باللغة الفرنسية، مرددًا الكثير من العبارات التى تحمل نفس المعنى.