رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تنظيمات المسلمين السرية عبر التاريخ «2»

المرحلة الثالثة أو المعاصِرة.. وآخر عناقيد الدم

كما ذكرت فى الجزء الأول أن المرحلة الأولى فى تاريخ التنظيمات السرية للمسلمين، والتى شغلت القرون الخمسة السابقة لغزو المغول كانت هى عصر التغول الأكبر المخضب بالدماء لتلك التنظيمات. فى السنوات التى تلت الحملة الصليبية الأولى فى القرن الثانى عشر الميلادى، بدأت فكرة التنظيمات السرية القائمة على الهوس الدينى تنتقل بشكل هيستيرى للغرب المسيحى، وكانت جماعة فرسان المعبد هى الأولى والأكثر شهرة والتى تماست فى سنوات نشأتها الأولى مع تنظيم الحشيشية الذى أسسه حسن الصباح ونشأت بينهما صراعات ثم تفاهمات قبيل الحملة الصليبية الأولى.

المرحلة الثانية فى تاريخ التنظيمات المسلمة السرية، والتى تشغل القرون من السادس الهجرى حتى سقوط الدولة العثمانية منذ قرن، لم تكن بالقوة والزخم كسابقتها، ويمكن القول إنه لم يكن هناك تنظيم سرى بلغ من القوة ما يجعله يحتل صفحات كبرى من التاريخ كما حدث فى المرحلة الأولى. استمرت الفرق والمذاهب التى نشأت فى القرون الأولى لكنها تحوّلت إلى مذاهب دينية علنية، حتى وإن ظل بعض عقائدها سريًا لا يعلمه سوى الأتباع.

التنظيم الوحيد الذى نجح فى تحقيق هدفه كان فى شبه الجزيرة العربية، حين تلاقت الأهداف والغايات بين فكرة دينية تقول بوجوب إعادة المسلمين للإسلام، وبين جنوح القبائل للزعامة بعد أن بعدت عن تلك المناطق من بلاد العرب مفردات القوة السياسية منذ قرون طويلة، فتم لهم ما أرادوا بأن قامت دولة استندت فى شرعيتها على فكرة دينية خالصة. 

 

ثم نأتى للقرن العشرين وقد ظهرت مفردات جديدة سابقة له أثرت فى الفكر الإسلامى الدينى. أهم تلك المفردات كانت الحركة الصهيونية وما سبقها من ظهور حركة الإصلاح الكنسى وظهور المذهب البروتستانتى على يد مارتن لوثر الألمانى، وتبنى هذا المذهب لما سُمّى بعد ذلك بالمسيحية الصهيونية الداعية والداعمة لحركة نقل اليهود- حتى لو قسرا عنهم- إلى أرض الميعاد أو فلسطين حتى يكون ذلك تمهيدًا لعودة السيد المسيح «س» وبداية ما يسمى بالألف عام السعيدة التى سيحكم فيها الأرض! أدى ذلك إلى حدث نهائى وهو قيام إسرائيل.

سبق ذلك الحدث النهائى سقوط ما يسمى بالخلافة العثمانية، واحتلال الغرب الدول التى كانت تقع تحت سيطرة الدولة العثمانية، والتى أُطلق عليها فى وثائق الدول الغربية الاستعمارية «تركة الرجل المريض».

هنا، وبعد كمون استمر قرونًا بدأت حركة إنشاء جمعيات سرية مسلمة فى النشاط مجددًا، لكنها ارتكنت- دينيًا- إلى فكرة جديدة واحدة بمسميات مختلفة. 

حيث تمت إعادة تنشيط وبعث مقولة منسوبة للنبى «صلى الله عليه وسلم»، معناها أنه وبعد النبوة ستكون هناك خلافة راشدة ثم حكم جبرى متوارث، ثم أخيرًا تعود الخلافة الراشدة لتعم الأرض، كانت العبارة الأخيرة فى هذا النص هى الأساس والحلم الذى سيكون عنوانًا لجميع التنظيمات السرية والعلنية المسلحة التى ستحتل المشهد فى الدول المسلمة طوال القرن الماضى حتى الآن، هى الفكرة التى ستكون التبرير الدينى المعاصر للقتل واستباحة الدماء، المقابل أو الموازى للأفكار التبريرية التاريخية القديمة التى عرضتُها «فكرة الحاكم القرشى أو فكرة حق فلان فى الخلافة على أرضية دينية». 

مع هذا النص تمت إعادة الحياة لنص آخر منسوب للنبى «صلى الله عليه وسلم» عن تجمع اليهود فى فلسطين، ثم قيام حرب كبرى بينهم وبين المسلمين تنتهى بانتصار دينى ساحق للمسلمين، هى الحرب المنتظرة التى سوف ينحاز فيها الحجر والشجر للمسلمين ما عدا شجر الغرقد.

بدأ رجال الدين فى استعادة وتنشيط دورهم القديم بسوفت وير حديث، وهو الدفاع المستميت عن هذين النصين المنسوبين للنبى «صلى الله عليه وسلم»، ثم التشبث بأحد تفاسير أول سورة الإسراء والذى يتحدث عن دخول المسلمين المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة أيام عمر بن الخطاب، حسب ذلك التفسير.

 

وجد رجال الدين دورًا جديدًا لهم يشبه تمامًا الدور الذى قام به أسلافهم الأولون فى القرون الأولى، الذى ثبت فساده تمامًا بعد حوالى خمسة قرون من القتل وسفك الدماء. 

حتى الآن- وبعد كل ما مرت به مصر- لا يجرؤ كثير من رجال الدين الكبار على إنكار أو نفى نسبة هذين النصين عن النبى «صلى الله عليه وسلم»، وأكثرهم ادعاءً بالاعتدال هم من يحاولون تقديم تفسير عصرى لحديث عودة الخلافة بأنها يمكن أن تعود فى شكل عصرى يكون اتحادًا عصريًا بين الدول الإسلامية، لكنهم لا يقتربون من إنكار نسبة الحديث للنبى «صلى الله عليه وسلم»، رغم أن علماء الحديث أنفسهم قرروا ضعف الرواية المحلق بها عبارة «ثم تعود خلافة راشدة تعم الأرض»، وقالوا إن الحديث أتى فى روايات أخرى مختلفة دون هذه العبارة الأخيرة، ورغم أن هناك رواية تؤكد عودة تلك الخلافة فى عهد عمر بن عبدالعزيز. 

منذ الربع الأول من القرن العشرين هناك توافق واتفاق فكرى بين طائفة رجال الدين الإسلامى والفكرة الأم التى قام جميع التنظيمات السرية الإرهابية على أساسها وهى وجوب الاعتقاد بعودة الخلافة ووجوب العمل على حدوث ذلك، كانت الاختلافات فقط فى الوسائل، وفى تحرى التمسك بأحكام الشرع- من وجهات نظرهم المختلفة- فى سبيل القيام بذلك.

وبدلًا من الصراع حول مَن له حق الخلافة قرشيين بصفة عامة ثم «أمويين- عباسيين- علويين» وقيام رجال الدين أو الفقهاء والعلماء بتقديم أسانيد دينية تؤيد الأطراف المختلفة، أصبحوا فى القرن العشرين يقدمون أسانيد دينية تدعى أن الإيمان بعودة الخلافة أمر حتمى دينيًا، وكما حدث فى القرون الأولى من سفك دماء المسلمين بعضهم بعضًا، فقد وجهت كل التنظيمات المسلحة فى القرن العشرين أسلحتها تجاه دولها وشعوبها.

 

لم تكن جماعة الإخوان هى الأولى، فقد سبقتها جماعات أخرى فى تركيا وسبقتها جماعات أخرى فى بلاد مسلمة غير عربية، لكن تنظيم الإخوان كان هو الأنجح لأسباب كثيرة لا علاقة بينها وبين عبقرية مؤسسه أو تفرده فكريًا أو تنظيميًا.

حين نخرج بعيدًا عن الأحداث المعاصرة ثم نضع صفحة تنظيم الإخوان فى موضعها الصحيح من التاريخ نكتشف حقائق مثيرة جدًا، فذلك التنظيم بكل معاركه ضد الدولة المصرية طوال قرن كامل لم يكن سوى صفحة واحدة فى موسوعة كبرى تضم آلاف الأسماء، سواء أسماء التنظيمات أو مؤسسيها، حسن البنا لم يكن متفردًا أو عبقريًا، لكنه كان يعرف ما يريد. وهذا الذى حدده كغاية ربما أتى به من تلك الموسوعة. 

لكنه بمفرده لم يكن ممكنًا أبدًا أن يحقق تلك الغاية، ولا أن يكون مصيره ومصير تنظيمه أكثر حظًا من مغامرين كُثر لم يسمع بهم أحد، فحسن البنا لم يكن عبقريًا أو متفردًا فى أساليب التجنيد التى لم تكن سوى نقل كامل دون أى إبداع لما حدث فى القرون الخمسة الأولى، نفس طرق التجنيد التى اتبعتها طوائف الباطنية الإسماعيلية، وفى بعض المشاهد كانت نقلًا كاملًا لما قامت به جماعة القرامطة قبل نجاحها فى تكوين دولتها.

ولم يكن متفردًا أو مبدعًا فى الفكرة الأساسية وهى العمل على عودة الخلافة، حيث كانت الفكرة آنذاك حلمًا راود بعض حكام العرب بالفعل ودشن لها دينيًا رجال دين قبل أن يظهر حسن البنا على الساحة السياسية.

أما الأسباب التى كتبت له ولتنظيمه فى بداياته النجاح، ثم الاستمرار فى البقاء قرنًا كاملًا فهى أسباب خارجية بامتياز. 

فتمامًا كما حدث فى القرون الأولى حين كان الطامعون يجدون ضالتهم فى أفكار دينية ومسلمين مهووسين بها، فلقد حدث هذا مع حسن البنا، لكن هذه المرة لم يكن الطامعون أفرادًا، بل كانوا دولًا وأجهزة مخابرات وثقها كتاب «لعبة الشيطان»، ولم ينفها حسن البنا نفسه وحاول تجميلها وشرعنتها لأتباعه، المخابرات الإنجليزية فالألمانية ثم الأمريكية فى مرحلة ثالثة ومستمرة‍.

 

هل انتهى تنظيم الإخوان السرى رغم كل ما حدث ورغم كشف كل المستور أمام العامة؟!

الإجابة المتسقة مع التاريخ هى لا.. قاطعة لا تحتمل التجميل أو الهروب أو خداع الذات، خاض التنظيم عدة معارك ضد الدولة المصرية طوال المائة عام السابقة، هناك معارك حاسمة تم فيها هزيمة التنظيم وخال المصريون فى كل مرة أن هذا التنظيم قد تم إلقاؤه إلى سلة مهملات التاريخ، لكنه كان يجمع شتاته وتمتد له أيادٍ خارجية ثم يعود أكثر شراسة، لقد تم حل التنظيم سابقًا أكثر من مرة وتمت إدانة قياداته وتم إعدام بعضهم بالفعل، لكنه عاد وقد جنّد من المصريين أضعافًا مضاعفة، وفى كل مرة كان يجند من المصريين مَن استطاعوا التسلل إلى مواقع هامة فى مؤسسات الدولة المصرية، لكن النجاح الأكبر كان فى تجنيد أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين وبعض موظفى الإدارات المحلية المختلفة.

كيف سمحت الدولة المصرية- شعبًا وحكمًا ومؤسسات- بحياة هذا التنظيم على الأرض المصرية بعد كل معركة وبعد كل الجرائم الدموية التى كان يقترفها على الأرض المصرية؟! كيف عاد كل مرة وقد تعاظمت قدراته الاقتصادية وتشعبت علاقات خياناته وتعاظمت قدراته على القتل؟! مَن يحتمل تاريخيًا وزر هذا المشهد الذى دفعت مصر ثمنه بعد سقوط نظام مبارك؟! 

هذا المشهد الذى لخصه الحوار بين المشير طنطاوى واللواء عبدالفتاح السيسى بعد ظهور نتيجة الانتخابات التى منحت التنظيم حكم مصر، حين عبّر المشير عن حزنه من أن يقال إن المجلس العسكرى قد سلم مصر للإخوان فرد عليه اللواء السيسى بعبارة لخصت المأساة: «الناس اختارت». 

هذا المشهد الذى غلّ أيدى مؤسسات مصر الوطنية التى تحترم دستور مصر وإرادة المصريين. مَن المسئول عنه تاريخيًا ووطنيًا؟!

هل هى لعبة السياسة، أم هناك مَن قصروا فى القيام بواجباتهم الوطنية، أم هل لم يكن القائمون على بعض مؤسسات مصر فى تلك العقود لديهم الوعى الكامل اللازم للقيام بهذه الواجبات؟!

فى كل مرة كانت مصر تتخيل أنها قد تطهرت من هذا التنظيم، كانت الأحداث السياسية وبعض القرارات الكبرى الخاطئة تلقى بأطواق النجاة لهذا التنظيم الباطنى. 

سيعود هذا التنظيم بعد سنوات طالما كرر المصريون أخطاءهم كل مرة، وطالما استمرت «الشرعنة الدينية» للفكرة الأم حتى لو عارض رجال الدين واستنكروا جرائم الجماعة فى مصر. ستحدث هذه العودة طالما بقى الاستنكار والرفض الدينى محصورًا فى الأفعال والجرائم، بينما ينقلب إلى تأييد أو على أحسن تقدير إلى صمت مريب حين يكون الحديث عن الفكرة الرئيسية.

 

لماذا كانت الجماعة تعود كل مرة بعد سنوات من دحرها على الأرض المصرية؟!

الإجابة لأن الدولة المصرية- الشعب والمؤسسات الثقافية والسياسية- فى كل مرة كانت تحارب التنظيم المسلح حربًا مسلحة يدفع ثمنها رجال الأمن بمختلف انتماءاتهم، دون أن تمتلك تلك الدولة لا الرؤية ولا الإرادة الحقيقية الصارمة فى مواجهة الفكرة ذاتها وحرقها. 

لكن هذه المرة التى عاصرنا معركتها هى مختلفة ولا شك، نعم مختلفة لأن التنظيم وصل لحكم مصر، ولأن الدولة المصرية، ممثلة فى قيادتها السياسية الأعلى، لديها الإرادة والرؤية لخوض الحرب بطريقة صحيحة.

لكن أزمة مصر الحالية فى مواجهة هذا الخطر أنه فى السنوات الماضية وعقب هزيمة التنظيم المسلح لم يرتقِ أداء كثير من القائمين على مؤسسات المواجهة- الثقافية والتعليمية والدينية- إلى مستوى الإرادة والرؤية السياسية. 

وإننى أعتقد أن هناك سببين لذلك، الأول منهما هو عدم امتلاك بعض تلك المؤسسات الثقافة والوعى اللازمين للقيام بدورها، وهذا يخصم من نصيب الدولة المصرية فى أى مواجهة محتملة، لأن عدم إدراك مَن يخوضون المعركة طبيعة العدو وتاريخه، أو عدم وضع ذلك العدو فى موضعه الصحيح من التاريخ، أو التهوين من قدراته، أو حتى عدم ضم خصوم مهمين فى حسابات المواجهة، كل ذلك من شأنه أن يضعف من موقف أى دولة فى مثل تلك المعارك. 

والسبب الآخر يخص بعض المؤسسات الدينية المهمة ويخص بعضًا من طائفة الوعاظ والقائمين على مخاطبة الجماهير من العلماء، ويمكن تلخيص هذا السبب فى عبارة واحدة.. «أنهم لا يريدون». 

لا يريدون لأن هذه الرؤية التى صرح رأس الدولة المصرية بها، وتلك الإرادة المعلنة بقوة وتصميم على تنفيذ هذه الرؤية، تهددان بقوة عرش النفوذ الدينى الروحى وسوف تؤديان حتمًا إلى ترويض هذا الدور القوى الذى عاد إلى رجال الدين فى الشأن السياسى العام بعد قرون طويلة من الكمون، ولأن كثيرًا منهم مقتنعون عن حق بالفكرة الأم التى ارتكن إليها تنظيم الإخوان وغيره من تنظيمات القرن العشرين، هم لا يؤمنون برؤية الدولة المصرية، ويرون أن تنظيم الإخوان قد أخطأ الطريق إلى غاية دينية سامية نبيلة، وربما من سيحاول مرة أخرى سيتلافى تلك الأخطاء.

حصر المواجهة فقط فى تنظيم الإخوان وهياكله وقياداته هو خطأ كبير، نجحت الدولة حتى الآن فى حصار هذا التنظيم على الأرض لكننا لم ننتقل بعد إلى مواجهة الفكرة ذاتها.