رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الفتة» و«الثريد».. أحب الطعام إلى الرسول

ساعات قليلة وتبدأ إجازة عيد الأضحى المبارك، وتنطلق معها فيديوهات الجرى وراء الأضاحى أو قدامها، مطاردتها أو الهروب منها، تختلف حسب المكان والأشخاص والقدرات، وتتنوع حسب الأماكن والظروف، خراف أم جاموس، أم بطة بلدى، كل حسب مقدرته، وحسب فهمه معنى الأضحية، وطريقته فى تقديمها، والتعامل معها، والحقيقة أننى ممن ينبسطون من موجة الفيديوهات التى تغزو مواقع التواصل الاجتماعى فى تلك المناسبة، ويتفاعلون معها «بالضحك» فقط لا غير.. وكفى به تفاعلًا، على أننى ما زلت أذكر ما صاحب تلك الموجة فى العام الماضى من أحاديث حوّلت «الفتة» إلى واحد من ألطف «الترندات» التى صاحبت عيد الأضحى، ولا أخفيك أنه بالنسبة لى كان هو «الترند» الأريح والألطف منذ سنوات طويلة، فهو فى كل الأحوال أفضل كثيرًا من «الترند السنوى» لعيد الأضحى، والمتعلق بأحاديث ذبح الأضاحى، وعدم جواز تهنئة غير المسلمين فى الأعياد، وتكفير الجميع للجميع، كما أنه أفضل كثيرًا مما استهلكناه فى الأسابيع الماضية من «ترندات» تخص «الفتى» بشأن حجاب المرأة، هل هو فريضة أم سنة، أم مجرد عادة، و«الفتى» فى هندسة الطرق، وسرقة اللوحات، وغيرها من حوارات يدلى فيها الجميع بدلوه دون علم، ودون خبرة، ودون جدوى.

ورغم أنه كله «هبد وفتى» فإن ترند «الفتة وأخواتها» كان هو الأحب والأقرب إلى القلب، تابعته، وقرأت بشغفٍ و«انشكاح» غالبية ما كتبه فيه أهالى مصر المحروسة المتعصبون بالفطرة لكل ما هو محلى وخاص، ومحمى بقوانين العائلة والقبيلة والشلة والقرية والمدينة، والمتساهلون بالفطرة «برضه» فى تفانين تسبيك الطعام، وما يمكن إضافته إليه من نكهات، ومكونات، حتى أنك تكاد لا تعرف أصل الطبخة التى تأكلها، ولا ما هى مكوناتها التى بدأت بها، ولا إلى أى منطقة على الخريطة تنتمى، لكنك إن تجرأت وقلت إن ما تصنعه هو الأصح، أو الأنسب، أو الأطعم، انهالت عليك سهام النقد، والتجريح، والسخرية، والملامة، أى نعم هو «ترند ثقيل على المعدة» لكنه «طِعِمٌ فى اللسان، خفيف فى الميزان»، فهو ترند دسم، «تشمه وانت بتقراه، وتشوفه بالألوان، وتحس بطعمه كمان».. لا فرق بين أى «بوست» أو «تغريدة» إلا فى درجة التعصب للطبخة، وفى تفاصيلها، أو مكوناتها، أو بلدة المنشأ.. سواء كانت بالخل والثوم، أم بالصلصة الحمراء، بالأرز الأبيض، ولا المفلفل، أم بالشعرية، وبالعيش الناشف أو الشمسى، ولا بدون عيش خالص، بقطع اللحم المحمرة أم «بالشاورما لحمة ولا فراخ»؟ وتتفق جميعها فى إن كلها تحبها، وتشمها، وتشوفها، ويسيل لعابك خلال قراءتها.

على أن «الفتة» يا صديقى هى كل ما قاله «الفتايين» على صفحات التواصل الاجتماعى.. هى كل هذا، لحسن الحظ أو لسوئه، فهى بالخل والثوم والبصل فقط، وهى بالصلصة فقط، وبهما معًا، وهى بالأرز الأبيض، والأرز المفلفل، أو الشعرية، وبالعيش، وبقطع اللحم، ومؤخرًا بـ«الشاورما».

هى الفتة التى يعشقها المصريون، حتى إنهم أصبحوا أشهر أهل الأرض الآن فى «الفت».. وأرجوك لا تنكر أن «الفت» أصبح أحد أبرز معالم الشخصية المصرية فى العصر الحديث، وبعد أن كان المصرى معروفًا فى العالم كله بأنه «ابن نكتة» ويقدر «يضحك طوب الأرض»، أصبح هو «الهباد الأعظم»، و«الفتاى الأعظم»، الذى يلقى بدلوه فى كل شىء، فى الفن والاقتصاد، والسياسة، والمجتمع، وهندسة الطرق، وأغلفة الكتب.. كل شىء لا بد أن «يفتى» فيه، ويقول «رأيه اللى مالوش أى تلاتين لازمة»، وإلا شاور عليه الناس فى الشارع وهم يصيحون من حوله «اللى ما دخلش الترند أهو»!

واعلم، أعزك الله، أن الفتة ليست مقصورة على المصريين، ولا مكونات واحدة وثابتة لها، بل ربما كانت هى الأكلة الأكثر انتشارًا وتنوعًا على وجه المعمورة، والأكثر عمقًا فى التاريخ، حتى قيل إن مكوناتها الأصلية تعود إلى قدماء المصريين، وإنهم أول من قام بطهى ذلك المزيج من فتات الخبز المحمص والأرز واللحم، مضافًا إليه المرق، وقيل إنها كانت من الأكلات الفاخرة المقصورة على قصور الملوك، أما عن «الصلصة» فقد جاء فى الأثر أن أول من أضافها إلى «الفتة» هم أمراء الدولة الفاطمية، وذلك لإكسابها مذاقًا مختلفًا وشهيًا، وكانوا يكلفون الطهاة بعد ذبح الأضاحى بتوزيع أطباق «الفتة بالصلصة» على عامة الشعب، ولم تتم إضافة «الدقة»، المكونة من الخل والثوم والبصل إليها، مع تحمير الخبز أو «تحميصه» بالسمن البلدى، إلا فى العصر الحديث.

و«الفتة» فى مصر والأردن وفلسطين هى أخت «الثريد» فى المملكة العربية السعودية، وقريبة «المثرود» أو «المثرودة» فى ليبيا، ونسيبة «الفتات» و«التشريب» فى جنوب العراق والكويت، ابنة عم «الكبسة» فى دول الخليج، ولكل منها طريقة ومكونات، وطعم ولون ورائحة، لكنها جميعًا تتفق فى كونها وجبة مكتملة العناصر تعتمد على ذلك المزيج من الخبز والأرز واللحم والمرق، كما تتفق فى أنها الوجبة الأكثر قربًا إلى النفس، حتى روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، فى تفضيلها أنه قال: «إِن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»، وقال أيضًا: «السحور بركة والثريد بركة والجماعة بركة»، وتقول إحدى الموسوعات المخصصة للطعام إن الثريد هو الخبز والمرق، وقد كان هذا الطعام شائعًا فى الجاهلية وفى أيام الإسلام، وإنه كان «أحب الطعام إلى رسول الله».

وكل سنة وكل المصريين واللى يحبوا مصر بخير ومحبة وسلام.. «وربنا ما يقطع لنا فتة».