رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا تعلمون أولادكم ؟


 أذكر أن شابا كان يحلم بالالتحاق بكلية الطب ، و سعى لها سعيها و هو مخلص ، فأخذ بكل أسباب الاجتهاد و السهر و التركيز في المذاكرة . غير أن الله لم يقسم له ما تمنى . فقرر – سعيا وراء حلمه – أن يعيد السنة سعيا لتحسين المجموع ، و قد كان هذا مسموحا فيما مضى . المفاجئ أن هذا الشاب حصل على نفس مجموع الدرجات دون زيادة أو نقصان !

فانصاع لإرادة الله و اجتهد في كليته التي قدّرها الله له في عامه الأول ، و عوّض ما فاته بأن أصبح أستاذا متخصصا في علم الكيمياء بعد أن تفوق في بعثته الدراسية إلى الخارج ، و عاد ليكون أحد أهم الباحثين في مجاله بأكاديمية البحث العلمي حتى أنه رشح لرئاسة الأكاديمة قبل عدة سنوات .
أحكي هذا الموقف بداية لأقول ، للمتشبثين بحلم الالتحاق بكليات القمة و الهاربين مما يسمونه كليات القاع ، إن النجاح و التفوق في الحياة لا ينتظر منك درجة إمتحانية و لا يتعلق بمجموع في الثانوية . نعم ، مجموع الثانوية هو واحد من أهم العوامل التي كانت تساعد الشباب على تحقيق ما يسمى بالحراك الاجتماعي الصاعد ، لكنه – و للأسف الشديد – لم يعد الوحيد القادر على تأهيل الشباب لتحسين أوضاعهم و الترقي في حياتهم ، و هذا أمر شرحه يطول . و بالتالي لا أفهم سر التوتر الذي مايزال يصاحب كل من يمر بشهادة الثانوية العامة ، أو يدفع غير الأمناء منهم للغش في امتحاناتها .
و على هذا فإن جهودا مكثفة قامت بها وزارة التعليم لمكافحة ظاهرة الغش الجماعي التي اعتدنا تتبع أخبارها صحفيا مع امتحانات الثانوية العامة . فقد كانت تصدمنا مثل تلك الأخبار المنشورة إعلاميا أو المروية لنا شفاهيا مما يتناقله الناس عن حالات غش في كثير من لجان الثانوية العامة و خاصة في عدد من المحافظات و المناطق التي اشتهرت بقيام أولياء الأمور – و بمساعدة مدرسين غير شرفاء ! – بتوصيل الإجابات للطلاب داخل اللجان سواء عن طريق تهديد المراقبين أو ابتزازهم أو المبالغة في إكرامهم ، أو عن طريق استخدام مكبرات الصوت من مناطق بعيدة نسبيا عن دائرة اختصاص قوات الأمن المكلفة بتأمين لجان الامتحان .
  فطنت وزارة التعليم هذا العام لكل الحيل التي يقوم بها المحتالون فوضعت خطة محكمة نراها ناجحة – حتى الآن – في تحجيم الظاهرة ، بحيث لم نسمع عن حالات صارخة تكاد تتحول إلى ظاهرة كتلك التي كنا نتابعها كل عام . و اتخذت تلك الجهود صورا كثيرة كاستخدام الباركود ، و متابعة اللجان بكاميرات مراقبة ، وتفتيش الطلاب باستخدام العصا الإلكترونية قبيل الدخول إلى لجان الامتحان مباشرة للتأكد من عدم وجود أي شيء يرتبط بالمادة موضع الامتحان ، فضلا على تجريم اصطحاب الهواتف المحمولة مع الطلاب داخل مقار اللجان . 
و الملاحظ هذا العام أن وزارة التعليم قد اتخذت إجراءات تتواكب مع ما حققته الأجيال الجديدة من ابتكارات في أساليب الغش باستخدامهم طرق و أدوات تكنولوجية مبتكرة . إذ أوضحت الوزارة، أن عقوبة حيازة التليفون المحمول دون استخدامه تكون الحرمان من المادة التى يؤدى فيها الامتحان، موضحة أنه يعاقب على الشروع فى الغش بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة تصل إلى خمسين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، ويحرم الطالب الذى يرتكب غشا أو شروعاً فيه أو أى فعل من الأفعال التى تخل بأعمال الامتحانات من أداء الامتحانات فى الدور الذى يؤديه والدور الذى يليه من العام ذاته، ويعتبر راسباً فى جميع المواد.
  و قد اتخذت الوزارة اجراءات فعلية لتأمين أوراق الامتحانات من لحظة خروجها من المطبعة حتى وصولها إلى الطلاب داخل اللجان. و بمتابعتي لهذا الملف اكتشفت أن هناك فرقا بين ما يمكن تسميته  التسريب وعملية الغش نفسها ، حيث إن التسريب يكون قبل بدء موعد الامتحان يومياً، أما الغش يحدث بعد تسلم الطالب ورقة الأسئلة. و قد وضعت الإجراءات للتصدي للحالتين حال وقوعهما .
يحسب للوزارة أيضا وقف تحويلات الطلاب قبل بدء الامتحانات بفترة و تقييدها بموافقة لجنة مختصة بالوزارة ، غير أن القرار التنظيمي الأهم – فيما أظن – كان عدم السماح بعقد لجان في المناطق التي سبق أن ثبت فيها وقوع حالات غش جماعية في نحو خمس محافظات ، و استبدال تلك اللجان بلجان أكثر انضباطا . 
و مع تسليمنا بحتمية و ضرورة كل تلك الإجراءات يبقى لدينا الرجاء من كل المراقبين أن يحافظوا للطلاب على الحد الأقصى من الهدوء و عدم دفعهم إلى التوتر عند القيام بعمليات التفتيش خارج اللجان أو المراقبة داخل اللجان . فالهدوء حق للطالب ،بنفس القدر الذي نقر به أن الالتزام واجب عليه .
و هنا تبقى كلمتنا النهائية لمن يساعدون الطلاب على القيام بتلك الجريمة سواء داخل اللجان أو خارجها ، فالمنطق يقول إن ضمان العدالة و الرضا بمعيار ثابت للجميع يتحدد من خلاله الخطوات الأولى و الأهم في طريق مستقبل الطالب من الناحية العلمية و الأكاديمية . و لكن ، من يظن أن تلك الشهادة – رغم تسليمنا بأهميتها - هي نهاية المطاف ، يكون مخطئا . فكم شاهدنا من دفعتهم نتيجة الثانوية العامة إلى تغيير جذري في توجهاتهم و اهتماماتهم على عكس أحلامهم و خططهم السابقة لتلك النتيجة ، فإذا بهم يغضبون و يتذمرون و يعترضون ، و لكنهم في النهاية يكتشفون أن قدر الله كله خير ، وأنه - سبحانه - ما حرمهم إلا ليتفضل عليهم و يعطيهم ، و ما أشقاهم – كما ظنوا - إلا ليسعدهم ، و ما ابتلاهم – كما حسبوا – إلا لأنه أحبهم .. فيضطرون إلى المضي في سبيل غير الذي خططوا له ، و إذا به طريق النجاح و التميز و التفوق الذي شكّل حياتهم فيما بعد و جعلهم قادة مجتمع و رموزا في تخصصات لم يسعوا إليها إلا مدفوعين بمجموع لم يتمنوه .