رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«رائد الواقعية».. اعترافات المخرج الكبير صلاح أبوسيف: «عشقت السينما من مقاعد الترسو والنشالون والفاشلون فى الدراسة وجامعو أعقاب السجائر كانوا رفاقى»

المخرج الكبير صلاح
المخرج الكبير صلاح أبوسيف

للمخرج الكبير صلاح أبوسيف وجوه كثيرة تتجاوز كونه مخرجًا فريدًا فى السينما المصرية، فلم يستسلم للوهم الجميل الذى كان يطلقه الصحفيون حوله، ولم يستسلم للقناع الساحر الذى صُنع له فى حياته، وفضل أن تُروى تفاصيل مسيرته وذكرياته كما حدثت، لا كما يريد أن تظهر، أو يريد مريدوه أن يرووها. 

السنوات الـ٨١ التى عاشها أضافت الحكمة إلى الخبرة، لكنها لم تحرمْه من الإبداع فى ظروف شاقة ومؤلمة، قد لا ينجح فى احتمالها مخرجون أصغر سنًا، كما أن السنوات الصعبة لم تغير طباعه الإنسانية؛ فظلّ حتى آخر يوم فى حياته هادئًا، خجولًا، متواضعًا، حريصًا، دءوبًا، مستقيمًا، لا يدخّن، لا يفْرط فى الطعام ولا يحرم نفسه منه، ولم يضبط فى غُرزة حشيش يومًا، أو يُقال إنه كان يسهر فى بار محدد.

وفق الكاتب الكبير عادل حمودة، الذى سجّل مذكراته فى كتاب صدر عن دار «ريشة» للنشر والتوزيع عام ٢٠٢٠، كان صلاح الدين أبوسيف مسعود فهمى مادة خام للإنسان، منذ اليوم الأول فى حياته، حتى اللحظة الأخيرة.. لذلك، أخذ ما يستحق من الصحافة، لكن فى صفحات النقد لا فى صفحات الفضائح، فلم يطارد فتيات الكومبارس فى مخزن الديكور، ولم يفتح أبواب حياته الخاصة لأحد.. فما هو سره؟ 

أحد أحلامى الطاغية.. إصدار كتاب يضم أهم مقالات النقاد عن أفلامى

على امتداد الانضباط والنظام الصارم الذى التزم به صلاح أبوسيف طوال حياته، كان يبدأ يومه مبكرًا، يستيقظ ليُعد كوبًا من الشاى فى السابعة صباحًا، وفى ذلك الوقت كان ينطلق من منزله ليتجول فى شوارع وسط القاهرة، حوالى ٧٠٠ متر قبل أن تزدحم الشوارع بعوادم السيارات وصراخ البشر. يصل إلى كافتيريا فندق «كوزمبوليتان» العتيق؛ ليتناول القهوة مع أصدقائه. ومع الأصدقاء، يروى شيئًا جديدًا كل يوم، ويُنصت إليه الجميع. لهجته المميزة التى تتّسم بنطق التاء «ثاء» لم تكن الشىء الوحيد الذى يلفت الانتباه إليه، إنه يروى كواليس وأسرارًا وتفاصيل عن فيلمه الجديد، أو عن دولة زارها أو مهرجان سينمائى عاد منه مؤخرًا أو ظاهرة شاذة فى المجتمع أثارت انتباهه، ويبدو- فى حديثه الوقور- أقرب إلى الطبيب الخبير، أو مدير البنك، أو عالم الاجتماع المُلم بأدق التفاصيل، كما أنه لا يتحدث عن الماضى أو يتمادى فى سرد وتمجيد ذكرياته الشخصية كمن وصلوا إلى مثل عمره، وكانت تلك إشارة إلى أنه لا يزال مشغولًا بالحاضر والمستقبل، وليس غارقًا فى الماضى. 

وإذا لم يكن لديه عمل عاجل، يبدأ يومه بالكتابة أو القراءة عن السينما، أو يتقدم فى تحضير أحد الأفلام، ويتحكم فى طعامه وشهواته بميزان حسّاس. ذلك الميزان هو الذى ساعده على العيش طويلًا رغم مرض السكرى الذى أصابه، كان يروّضه بكل جوارحه وقدراته على الامتناع عمّا قد يضرّه، فلم يمتد تأثير المرض إلى باقى أجهزة الجسم. 

كان ملتزمًا بنظام صارم، يكتب كل خواطره وأفكاره وما يجول بذهنه فى مفكرة ترقد على مكتبه المُرتب، الذى لا يعرف الفوضى المعروفة عن المبدعين والفنانين، وتضم المفكرة مواعيده واتصالاته وأسماء الأصدقاء الذين استعاروا منه كتبًا أو شرائط فيديو، كما أن مكتبته كانت مرتبة رغم اتساعها، حتى غَزَت غرفتين فى بيته، وتضم مؤلفات فى الأدب والسياسة والتاريخ والفقه والشريعة والسينما بكل فروعها، وينعكس الترتيب على ذاكرته القوية، فيستطيع أن يروى لك كيف حصل على الكتاب أو الشريط ومن أين. 

لا يميل إلى الموضة، ولا يقبل التغيير، ولا يتقبل المفاجآت بسبب البيئة الشعبية الفقيرة والظروف الصعبة التى وجد فيها نفسه، وعانى من كبت الرغبات وقهر الحاجة والطموح المكتوم، ولا يعرف قيادة السيارات، ويمنح زوجته مفتاح سيارته لتتولى الأمر، وإذا لم تستطع، يلجأ إلى «التاكسى»، ويحبّ المشى إذا لم يكن متعجلًا.

يغرق «أبوسيف» فى عشق ذاته وأعماله، ويحتفظ بأرشيف ضخم يضم أغلب ما كُتب عنه وعن أفلامه، وعُمر ذلك الأرشيف يزيد على نصف قرن، ويقول إن «أحد أحلامى الطاغية، هو إصدار كتاب يضم أهم مقالات النقاد عن أفلامى؛ لنرى كيف يختلف النقاد على العمل الواحد». 

وفى أرشيفه مقالات نقدية كتبها عن أفلام صنعها آخرون، خاصة أنه دخل السينما من باب الصحافة.. عرف سطوة ماكينات الطباعة قبل سلطة الكاميرا وسحرها. 

جدتى كانت تصفنى بـ«وش الفقر» ومتاعب أسرتى بدأت بقدومى إلى الدنيا

كان ميلاد «صلاح» دراميًا، كما الطريقة التى عشق بها السينما. 

أعلنوا مولده، قبل أن يولد بشهر. أرسلوا إلى والده يبلغونه «مبروك، جالك صلاح الدين»، وكان وقتها جنينًا لا يزال فى علم الغيب، أما والده فكان عمدة قرية فى الصعيد، وتحديدًا محافظة بنى سويف، رجل ثرى ثراءً فاحشًا، يملك أغلب أراضى القرية، ومزواج، يغيّر نساءه كما يغير ثيابه، وأغلب زوجاته من الريف، إلى جانب زوجة واحدة من القاهرة، هى أم صلاح، التى كانت تسكن حى بولاق، ويزورها الرجل فى المناسبات، كلما اشتاق لها. والسر فى إرسال برقية إلى والده بميلاده قبل شهر من نزوله من بطن أمه، أنه حين ولدت شقيقته الكبرى، أبرقوا إلى والده ولم يأتِ إلا بعد شهر، فضبطوا المواعيد هكذا، وكأن المواصلات بين بنى سويف والقاهرة تستغرق شهرًا، كى يأتى الرجل فى الوقت المناسب. 

ورغم تلك الحيلة، أتى الوالد متأخرًا كعادته، ووصل بعد مولد «صلاح» بأسبوع، ولم يهتم به، قدر اهتمامه بالضغط على أمه كى تعقل وتعود معه إلى القرية لتعيش هناك، وتنضم إلى حريمه اللائى يجلسن تحت قدميه، لكنها رفضت.. كان رفضها مبنيًا على تجربة الحياة فى الصعيد، التى عجزت عن التأقلم معها، لاختلافها عن نساء الريف، فكانت سيدة متعلمة، تقرأ وتكتب، وتطالع الصحف والمجلات، وتحبّ حياة المدينة وانفتاحها، كما أنها لم تقبل أن يعيش أولادها فى الجهل، دون تعليم مثل أولاد زوجها من نساء أخريات. 

وعانت تلك السيدة هَجر الزوج لذلك السبب. ويروى صلاح أبوسيف، فى مذكراته، أن والده استغل عيد ميلاده العاشر لإقناع أمه بالعودة معه إلى الصعيد، وحين رفضت، مارس جبروته ضدها. هجرها، وحرمها من المال، ومن خيرات الريف التى كان يأتى محملًا بها، ودفع «صلاح الثمن» فكانت جدته تصفه بـ«وش الفقر»، الذى ما أن حضر إلى الدنيا هلّت المشاكل والعوز والحاجة على الأسرة، وانقطع الخير عن البيت. ولم يعرف صلاح حقًا أن المتاعب بدأت بقدومه إلى الدنيا، إلا حين شعر بهذه المتاعب. عاش حياته بلا أب، لم يعرف حنانه ولا دعمه، رغم أنه كان على قيد الحياة، ولم يرتع فى خيره رغم أنه كان رجلًا ثريًا وصاحب أملاك، ولم يشعر بحمايته، رغم أنه كان قويًا وقادرًا. ورغم أن أمه أقامت دعوى نفقة وكسبتها، لم يقدر أحد على تنفيذ الحكم، لأن الزوج والعمدة المستبد كان هو القانون فى القرية، ولا أحد يمكنه الوقوف بوجهه.. كان الخصم والحكم، القاضى والجلاد، الذى لا يجرؤ أحد على دخول القرية دون إذنه. 

بفضل «التزويغ» من المدرسة.. عرفت السينما ودفعت مصروفى فى التذاكر

عاش الطفل صلاح متمردًا، منذ اليوم الأول فى حياته.. رفض دخول الكتّاب كما الأطفال الآخرين، وكان «يزوّغ» من المدرسة حين التحق بها. 

وفى إحدى مرات «التزويغ».. اكتشف السينما. 

راح يتجول فى شوارع القاهرة التى انبهر بها منذ اللحظة الأولى، لاختلافها الشديد عما رآه فى بولاق.

وصل حى عابدين ليرى صورًا معلقة على الحائط.. فسحرته، وألهبت خياله. 

وكان ذلك حائط سينما «إيديال»، التى اندفع إلى داخلها ليكتشف عالمًا لم يرَه فى حياته. 

وأمام شباك التذاكر سأل عن ثمن التذكرة.. فعرف أنه قرش صاغ، أى مصروف يومين، ولم يتردّد فى التضحية به ودخل السينما. 

يقول: «أخذت تذكرة واخترقت الصالة وجلست فى أول صف واندهشت لأن الناس كانت تجلس فى الصفوف الخلفية، ولكن فسرت ذلك بأننى دفعت ثمن تذكرة درجة أولى بينما هم يحملون درجة ثالثة، ويبدو أن شخصًا أحس بورطتى فسألنى: أنت جالس فى الأول ليه؟».

ردّ صلاح «أنا تذكرتى بقرش»، فقال الرجل: «كلنا تذاكرنا بقرش لكن لازم ترجع للوراء حتى ترى الشاشة جيدًا». 

وعاد إلى الخلف عدة صفوف ليعرف قيمة النصيحة الثمينة، وتابع العرض الذى استمر لساعتين بانبهار شديد.. وشعر بأنه فى حلم لذيذ لا يريد أن يستيقظ منه.

وشاهد خلال ذلك العرض فيلمين أحدهما لشارلى شابلن والآخر للإيطالى إيلامو لينكولن. 

وخرج من السينما مفلسًا ليعود إلى البيت سيرًا على الأقدام، ولكن لم يشعر بطول المسافة. كان منتشيًا ومسحورًا لا يصدق ما رأى، ومن شدة السعادة، اعترف بالسر لأمه وخاله، وأكل «علقة ساخنة» على التزويغ ودخول السينما، إلا أنه تحمل الضرب هذه المرة دون بكاء.

وفى اليوم التالى، نشر اكتشاف السينما بين أصدقائه، ولم يصدق أغلبهم ما روى، فقررت الشلة بالكامل أن تمشى وراءه وتجرب تلك المتعة، وذهب إلى السينما ذاتها، وفوجئ بعرض فيلمى شابلن ولينكولن مرة أخرى، وكان يمنّى نفسه بمشاهدة فيلمين آخرين.

وانسابت أمامه أسرار السينمات.. عرف دار عرض أخرى فى شارع عمادالدين، وكانت رخيصة ودرجة ثانية، وسجّل فى تلك الأثناء ملحوظة صارت تجسيدًا للسينما التى قدّمها لاحقًا. يروى فى مذكراته: «اكتشفت السينما فى صفوف (الترسو) حيث كان يجلس إلى جوارى النشالون وجامعو أعقاب السجائر والفاشلون فى الدراسة، وقد أزعج ذلك أسرتى التى حاولت بشتى الوسائل الوقوف فى وجه اندفاعى الجنونى ناحية السينما، لجأوا إلى الضرب والحرمان من المصروف، لكنهم لم يفلحوا، فحين حرمونى من المصروف كنت أدخل السينما بقرش المواصلات وأعود سيرًا على الأقدام وعندما استسلموا من اليأس وافقوا على أن أدخل السينما مرة واحدة فى الأسبوع بدلًا من مرتين على أن لا أجلس فى (الترسو) خوفًا على أخلاقى من الفساد، وتظاهرت بالقبول، ولكننى ظللت أشاهد السينما مرتين فى (الترسو)». 

منذ عُمر العاشرة، اختلط حلم السينما بالواقع، ليصوغ حياة أخرى للطفل الذى صار مخرجًا عظيمًا وجعله يرى الحياة بعين أخرى، كان يهرب إليها من كوابيس الفقر والحرمان واليُتم التى عاشها.. فكانت المنقذ الوحيد له من أحزانه أولًا، ثم من التشرّد والمستقبل الغامض حين كبر، وحولت مساره من شاب ضائع وطائش إلى «مخرج أسطورى» عاش اسمه حتى اليوم محفوفًا بالثناء والتقدير.