رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كأنه نسْمَة خصُوصى جايّه للمساكين

ذكرى يوم ٣٠ يونيو كل عام تحتم علينا كل مرة التذكير بمجموعة من المشاهد المفزعة التى حدثت أمام أعيننا: حصار المحكمة الدستورية لكى لا تحكم ببطلان مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور، الإعلان الدستورى الذى يؤسس لديكتاتورية تخرج الشعب المصرى من التاريخ، أخونة الدولة والإطاحة بالكفاءات، أحداث الاتحادية، استضافة قتلة السادات فى الاحتفال بذكرى أكتوبر المجيدة فى استاد القاهرة وفى القصر الرئاسى، المعالجة الفجة والعبيطة لأزمة سد النهضة، مباركة قتل الشيعة فى الجيزة، حصار مدينة الإنتاج الإعلامى. عشرات المشاهد التى كانت توحى بأن مصر التى نعرفها تضيع أمام أعيننا، مصر التاريخ والحضارة والثقافة والعمارة والدبلوماسية والأزهر والكنيسة والجامعة والأوبرا والغناء والمسرح والسينما، نجح المصريون بكل طوائفهم وخلفهم جيشهم الوطنى النبيل فى إزاحة التراب الكثيف الذى غطى وجه مصر طوال عام كامل، لعب المثقفون دورًا عظيمًا فى اعتصام وزارة الثقافة الذى كان له عظيم الأثر فى التنبيه إلى خطورة استمرار هؤلاء فى الحكم، سبقه تصديهم لدستورهم المعيب الذى أطاح بمدنية الدولة، انحاز عدد غير قليل من الإعلاميين إلى الحق، الذين تعاطفوا مع الجماعة الإرهابية هم الذين ارتبطت مصالحهم المالية معهم، والذين عطلت لهم ثورة يونيو حنفية التمويل الأجنبى، هى ذكرى عظيمة لا شك، صوّت المصريون فيها بأجسادهم وأصواتهم فى الشوارع، لم تشهد البشرية مشهدًا مماثلًا فى تاريخها، شعب بأكمله ينزل ليستعيد هويته ويدافع عن مستقبله، أمواج البشر بثت الطمأنينة فى النفوس، أنت وسط الناس لست بمفردك فى مواجهة الظلام والجشع والغلظة، الابتسامات ظهرت أخيرًا، والنصر المبين لوّح فى الأفق، الخصومات التى ذرعها حكام المصادفة اختفت، الذين راهنوا ورتبوا من أجل استمرارهم فى الحكم كانت صدمتهم عنيفة، كأنهم لا يعرفون من هم المصريون؟، عربيًا شعر الذين يقدرون منزلة مصر بالزهو، كتب الشاعر السورى أدونيس فى الحياة اللندنية «لحظة القاهرة»: «للمرة الأولى فى التاريخ العربى الحديث يتجسد فى الشارع، على الأرض عمليًا الانشقاق بين نظريتين، الأولى تلك التى تتخذ من الماضى مرجعية مطلقة، وتصر على العودة إليه، والثانية تلك التى تريد على العكس أن يكون الماضى أفق استبصار واعتبار، وتريد أن تتفهم الحاضر العربى والكونى، وأن تبنى عالمًا جديدًا وتؤسس لكتابة تاريخ جديد»، لقد انتصر أهل الثورة والتحرير على أهل الجزية والتكفير، وكتب الشاعر العراقى الكبير الراحل سعدى يوسف «مصر العروبة.. عراق العجم» والتى بسببها أحرق المتشددون كتبه فى مشهد مقبض، وتجلى الخال الحبيب عبدالرحمن الأبنودى، رحمة الله عليه، وعدد كبير من الشعراء فى امتداح الحدث العظيم، صدمة أمريكا وإسرائيل وعملائهما كانت كبيرة، وأطلقوا كلابهما المسعورة على جنودنا البواسل، أوباما الذى تحالف مع تيارات الإسلام السياسى، كان أول المرحبين رسميًا بوصول الجماعة الإرهابية إلى الحكم، وذكر البيت الأبيض وقتها أن واشنطن تتوقع من الرئيس المنتخب ألا ينجرف نحو المغالاة، وراحت وفود وجاءت وفود، وكان المطلب الرئيسى تأمين إسرائيل، ٣٠ يونيو أفسدت عليهم كل شىء، فلا شرق أوسط كبير ولا يحزنون، لم تفهم أمريكا وصبيتها ما حدث، لم تصفه بالانقلاب، كما فعل الآخرون بقنواتهم وأموالهم، ولكنها بعد أن بسطت الدولة المصرية سيطرتها على الشارع، ألغت مناورات النجم الساطع، وتراجعت عن تسليم مصر أسلحة كان متفقًا عليها، وقامت بتعليق بعض القروض، فى الوقت نفسه أصدرت لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس بيانًا اعتبر أن الإخوان فشلوا فى فهم الديمقراطية، تأكد الأمريكان أن الشعب المصرى وبمساندة جيشه نجح ولن يقبل الابتزاز وأنه فى طريقه إلى حماية تاريخه، ما دفع وزير الخارجية الأمريكية وقتذاك «جون كيرى» إلى التصريح فى أوائل أغسطس ٢٠١٣ بالقول «إن ما حدث ليس انقلابًا كما يراه البعض، وإن الجيش حمى البلاد من الانزلاق إلى الفوضى»، ٢٢ مليون مصرى فى الشوارع غيّروا التاريخ الحديث، وأفسدوا حلم الخلافة العثمانلى، الضريبة التى دفعها المصريون لم تكن قليلة، لأنها فقدت شهداء سيتذكرهم التاريخ بإجلال واحترام، من الجيش والشرطة والمواطنين الأبرياء ضحايا الإرهاب، ويرن فى أذنى صوت أستاذى وصديقى الأبنودى وهو يقرأ لى على الهاتف هذه القصيدة فور كتابتها: أول كلامى أصلّى ع النبى العربى.. نبى ما كان يكره إلا ريحة الخايْنين.. وَافْتَّح كِتابَ مصر واقرا القصة بالعربى.. وما جرى فيها فى يونيو فى يوم تلاتين.. يتمطّع الضىّ ع الخُضرة فى ساعة عصر.. كان مين قِدِر والاَّ يقدر يِتْنِى راية مصر.. حلم الغزاة اللى داير من قرون وسنين؟!.. ومصر اهِه لسّه عايشة ولسّه بِتعافِر.. وعَزْمَها المر.. صبَّرها على الغازْيين.