رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الشاهد» ودور الإعلام المصرى الوطنى فى العقد الأخير

«1»
ماذا حدث فى مصر منذ 25 يناير 2011م وحتى يوم تنحى مبارك؟ ثم ماذا حدث منذ تنحيه وحتى ثورة 30 يونيو وما تبعها من فض الاعتصامات المسلحة الإرهابية؟ وأخيرًا ماذا حدث فى مصر منذ تولى الرئيس السيسى سدة الحكم وحتى اليوم؟! كل فترة من هذه الفترات الثلاث قائمة بحد ذاتها وسيكون لها موقعها المستقل فى تاريخ مصر، لأن كل فترة تحتوى من الأحداث والأسرار ما سوف يؤسس لشكل وشخصية مصر السياسية مستقبلًا، وسبر غور كل فترة سيمنح كل مَن يتولى أمرًا من أمور مصر رافدًا معلوماتيًا مهمًا يساعده فى اتخاذ قراراته مما سيجنب المصريين، لو فعلوا ذلك، الوقوع فى نفس الفخاخ أو الأخطاء أو الخطايا الوطنية.
لذلك فإجابات هذه الأسئلة الثلاثة بشكل وثائقى معلوماتى أصبحت الآن، ومعظم من شاركوا فى صناعة أو متابعة الأحداث لا يزالون على قيد الحياة، ضرورة تاريخية ووطنية ملحة. كما أصبح فى أهميته يتجاوز فكرة التوثيق التاريخى الذى يقوم به المختصون بشكل روتينى إلى تحوله لسلاح وجوبى من الأسلحة التى تحتاجها مصر الآن وغدًا. 
فلقد انتهى الإرهاب المسلح فى مصر بدماء أبنائها، لكن الكيان الشيطانى لا يزال على قيد الحياة ولن ييأس من محاولة تغيير الجلد والتزلف إلى المصريين كالأفعى الناعمة، وهناك مَن يحملون فى رءوسهم نفس الفكر الضال ويكتمونه إلى حين! ولن يأتى هذا الحين على مصر أبدًا إن استطاع المصريون، مؤسسات ونخبًا، أن يخلدوا بالتوثيق كل ما كان فكرًا وأحداثًا ووجوهًا. هذا ما يخص الفترتين الأولى والثانية، أى منذ اندلاع أحداث 25 يناير وحتى تولى السيسى حكم مصر.

«2»
أما توثيق ما جرى فى مصر فى سنوات الجمهورية الجديدة وحتى الآن، فتنبع أهميته من ناحيتين، الأولى منهما ألا ينسى المصريون، أما الثانية، فهى إعلان الإعلام الوطنى عدم خضوعه لمحاولات الهجوم والابتزاز السمج باتهامه بموالاة السلطة، أو ما يتم تمريره بأن توثيق ما أنجزته الدولة المصرية هو «تطبيل» لنظام الحكم القائم وذلك فى محاولة لإثناء الإعلام الوطنى عن القيام بما يتوجب عليه القيام به، للأسف سقط بعض المصريين فى الفخ وانساقوا لنفس «السوفت وير الشعبى» الذى كان سائدًا أيام دولة مبارك الذى تقوم الآن منظومة القوى المعادية للدولة المصرية بالإلحاح عليه عبر السوشيال ميديا. والذى يروج لأكذوبة أن أى قناة إعلامية، صحفية أو تليفزيونية، تقوم بتوثيق ونشر وإذاعة إنجازات الجمهورية الجديدة فى مختلف المجالات إنما هى قناة موالية منتفعة وموالية للسلطة، هذا الطرح السمج ممنهج ومقصود منه أولًا تشكيك المصريين فيما يتم نشره مما يتحقق بالفعل على الأرض، أى تشكيك المصريين فيما قدروا على إنجازه بالفعل، ومن ثم نشر حالة من الإحباط بينهم، وثانيًا تشكيك المصريين فى مصداقية ما دشنته الجمهورية الجديدة من وسائل إعلامية إخبارية ووثائقية أصبحت تنافس ما كان سائدًا من وسائل إعلام غير مصرية مما قد ساعد فى اللحظات الحرجة على تضليل المصريين وتم استخدامه كسلاح معنوى سلبى صريح ضد مصر.

«3»
أعود للفترات الثلاث السابق الإشارة إليها وأقول: هل نجح الإعلام الوطنى فى توثيق تلك الفترات حتى الآن؟
«الشاهد» هو الاسم الذى تم اختياره لهذا البرنامج الوثائقى الذى يقدمه الإعلامى د. محمد الباز، الذى أعتبره واحدًا من أهم خطوات التوثيق المنشود، قبله كنا على موعد مع عدة خطوات عملاقة بدأت بتدشين قنوات إخبارية وطنية، كانت درتها قناتى «القاهرة الإخبارية» و«الوثائقية»، وأخيرًا «إكسترا لايف»، بجوار تلك القنوات الوثائقية المباشرة كانت هناك حزمة من الأعمال الدرامية التى تقوم بدور يفوق أحيانًا دور القنوات الإخبارية فى مجتمع يعشق الأعمال الدرامية والسينمائية.
ما تيسر لى متابعته من حلقات «الشاهد» أدهشنى وسرنى كثيرًا. هو برنامج يقوم على توثيق شهادات شخصيات مصرية مهمة أسهمت فى صناعة كثير من المشاهد التى كان يشاهدها المصريون فى تلك الأيام الحرجة من تاريخ مصر المعاصر، من 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2013م، دونما يحيطون بكواليس كل مشهد ومقدماته وما تلاه أو ترتب عليه من نتائج سلبية أو إيجابية.
كما لا أخفى تقديرى لقرار استضافة المخرج خالد يوسف، لأن خالد يوسف، وبغض النظر عن أى تفاصيل لاحقة، كان أحد الأسماء الفاعلة فى كثير من مشاهد الأيام الثمانية عشر الحاسمة فيما مرت به مصر فى عدة سنوات لاحقة، كما كان من الأسماء الفاعلة فى مواجهة حكم الجماعة الإرهابية، فهو يملك كثيرًا من كواليس المشاهد الغامضة التى رآها المصريون. ولم يتحرج فى شهادته من تقديم حقيقة تاريخية مهمة، وهى أن النخبة السياسية والفكرية المصرية وقعت فى فخ خديعة الإخوان، ومنحوا تلك الجماعة فرصة ذهبية لتقدم الصفوف بعد أن أعلنت الجماعة الإرهابية صراحة عن رفضها تحدى نظام مبارك، ومشهد القرضاوى فى إلقاء خطبة الجمعة فى ميدان التحرير كان من المهم أن يعرف المصريون خلفياته وكواليسه التى أفصح عنها خالد يوسف وأنهم جميعًا، باستثناء الممثل أحمد عيد، قد منحوا الإخوان هذه المنحة الكبرى.

«4»
يمكن وضع ما أنتجته قناة «الوثائقية» بجوار حلقات برنامج «الشاهد» كوثيقة تاريخية لما حدث فى مصر- يمكن لمن يريد المعرفة من العوام أو العاملين بالشأن العام الرجوع إليها فى أى وقت. لقد قطع الإعلام الوطنى شوطًا كبيرًا ومهمًا فى مهمته الكبرى.
والمحصلة النهائية أن مصر الآن تمتلك منابر إعلامية إخبارية وتوثيقية وبرامج مسجلة بالفعل على قدر كبير من المصداقية والمهنية قامت كحائط صد ضد ما تعرضت له مصر من موجات تضليل فى السنوات التى تلت ثورة يونيو، هذه الحقيقة أصابت إعلام الضلال المعادى لمصر والمصريين بنوبات هجوم هستيرية.
فى هذا العالم الإعلام لم يعد رفاهية أو حتى مصدرًا للمعلومات، بل أصبح سلاحًا يمكنه خوض حروب نيابة عن جيوش، ويمكنه توجيه شعوب توجيهًا معينًا، ولقد كانت لمصر تجربة مريرة حين لم يكن لإعلامها تلك القوة وتلك المصداقية، فكان يتم العبث بالمصريين وهم فى الشوارع عبر إذاعة خبر كاذب فى هذه القناة أو تلك الصحيفة، لقد استوعبت مصر الدرس جيدًا وقررت ألا تتجرع الكأس مرتين.

«5»
إن ما يخص الإنجازات المصرية بعد تولى الرئيس السيسى مقاليد الحكم وكيفية تعاطى الإعلام المصرى الوطنى معها، فهو قصة تدعو إلى الفخر والطمأنينة أن مصر تسير على الطريق الصحيح إنجازًا وإعلامًا. 
بالأرقام والبيانات الإحصائية يمكن اعتبار ما أنجزته الجمهورية الجديدة إعجازًا حقيقيًا ليس مقارنة بسقف طموحات المصريين غير الواقعية أحيانًا، وإنما مقارنة بما كانت عليه مصر وما كانت تواجهه. 
وقيام الإعلام المصرى بتقديم صورة واقعية لتلك الحقيقة يحسب له لا عليه، عدم الوقوع فى فخ الاستجابة للابتزاز ومحاولة نفى اتهام الموالاة للدولة هو ثبات انفعالى إعلامى يحسب للقائمين عليه. من آنٍ لآخر وفى توقيتات معينة مثل ذكرى ثورة يونيو أو فض الاعتصامات الإرهابية أو إخفاق طبيعى فى ملف ما تنشط خلايا الإعلام المضلل وتسرب سيلًا من المعلومات الخاطئة بموازاة اتهام الإعلام المصرى الوطنى بالتطبيل وعدم نقل الحقائق. 
وهو اتهام كاذب بشكل فج وصريح. لأن متابعة الأداء الإعلامى فى السنوات الماضية تكشف أن غالبية البرامج المذاعة على تلك القنوات المتهمة هى التى طرحت قضايا وأوجه قصور فى أداء حكومى أو محلى هنا أو هناك، وأن الدولة المصرية قد دأبت على التعاطى مع كل ما يتم طرحه لدرجة أن رئيس الدولة بنفسه قد تواصل أحيانًا وتفاعل مع ما يتم طرحه.
طرح أى قضية ومناقشتها بشكل موضوعى هادئ يشكل الصورة المثالية لبناء إعلام موضوعى حقيقى وقوى. أما صورة برامج التوك الشو الزاعقة وموجاتها التى ضربت مصر فى السنوات الحرجة فهى برامج إثارة هدفها جذب المشاهدين بغض النظر عن المصداقية أو الحقيقة وبغض النظر عما يترتب عليها من اضطراب أو أحيانًا فوضى.
البعض يتشوق لهذه النوعية من البرامج التى تكال فيها الاتهامات المرسلة للدولة دون تحديد المسؤليات بشكل موضوعى. فهذا النوع من الإعلام ينافق مشاهديه ولا يقترب من مساحة تحميل هؤلاء المشاهدين مسؤلياتهم الوطنية أو الأخلاقية.
فعلى سبيل المثال يمكن الصراخ كثيرًا بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، دون التجرؤ على تحديد مسئولية كل الأطراف عن هذه الأحوال. 
فحين يقدم الإعلام الوطنى بيانات عن مساحات عملاقة من الصحراء تم استصلاحها، نسمع أصواتًا متهكمة ومقزمة للإنجاز وأنه غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتى من محاصيل بعينها دون التجرؤ على ذكر أن الشعوب التى تستمرئ الانفجار السكانى هى من اتخذت قرارها بعدم الوصول لهذا الاكتفاء الذاتى.
من المفارقات المحزنة، أنهم طوال العقود الماضية كانوا يتغنون بالعلماء الذين لا يجدون قناة شرعية لخدمة بلادهم، حتى إذا حانت الفرصة الحقيقية فى حوار وطنى شامل مفتوح للجميع ويملك الصلاحيات أشاح بعض أصحاب هذه الأصوات بوجوههم عنه وصمتوا أو اتهموه بأنه مسرحية.
سقط البعض فى فخ التقام بيانات ومعلومات مضللة ولم يقم بجهد بحثى لجمع المعلومات الحقيقية، أو حتى تحمل مشقة النزول للأرض ومتابعة ما يجرى.

«6»
فى النهاية إننى أوجه تحية واجبة للقائمين على مؤسسات الإعلام الوطنى فى السنوات الأخيرة لعدة أسباب:
أولها هو الثبات الانفعالى المؤسسى والفردى، وعدم التراجع عن القيام بدورهم التوعوى بموضوعية ومصداقية، وعدم اللهث خلف نوعية إعلام الإثارة ومنافقة المشاهدين.
وثانيها هو الوصول لمرحلة متقدمة فى مهمة إتمام توثيق الأحداث الحاسمة التى مرت بها مصر.
وثالثها توفير مصادر ملعوماتية يومية، لمن يريد أن يعرف، عما يتم فى مصر.
ورابعها هو الانضباط والاتزان فى تناول القضايا الشائكة التى تجد بين الحين والآخر والتى تتعلق أحيانًا بثوابت العلاقات المصرية بدول أخرى سواء كانت دولًا شقيقة أو غيرها، وعدم الاندفاع أو التسبب فى خلق مشاهد يثبت فيما بعد سوء تقديرها، وهو ما كان يحدث سابقًا والمثال الأشهر فى إعلام دولة مبارك كان مباراة كرة قدم بين مصر وإحدى الدول الشقيقة.
يمكننا القول الآن: لقد أصبح لمصر إعلامها القوى الموضوعى الذى لا يمكن الطعن فى مصداقيته. 
وهو ما يثير موجات الهجوم ضد هذا الإعلام من منصات مجهولة، لكنها بكل أسف تجد من المصريين مَن يقعون فى فخها كل مرة.