رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات مجدى نجيب

يكبر سنة، يصغر سنة، يرسم، يكتب، يشخبط، يشاكس، هيفضل مجدى نجيب طفلنا الكبير الوسيم المبهج الشقى المتمرد المجنون صاحب «شبابيك» تلك الأغنية التى دوّخت جيلنا كله، كما سنروى عن ذلك الولد الذى سيحتفل بعيد ميلاده بعد أيام «٢٩ مايو» ومش سنة كام، لأن طفلنا لا يكبر إلا فى قلوب محبيه وعشاق فنه.

وأنا أحب مجدى نجيب بشكل شخصى ولا أفرض عليك أن تحبه معى قبل أن تتعرف عليه، فربما كنت تردد أغنياته أو قصائده الغنائية دون أن تعرف أنه مجدى نجيب صاحب «قولوا لعين الشمس، غاب القمر يا ابن عمى» للفنانة شادية، «كامل الأوصاف» لعبدالحليم «أوعدك» لسعاد محمد، «يا ريتك معايا» لهانى شاكر، والأغانى التى ذكرت لك بعضها ليس شيئًا بالنسبة لدوره فى الحركة الغنائية والشعرية والتشكيلية المصرية من الستينيات حتى اليوم، دار مجدى مع الأيام والسنين والسهرات الفنية فى بيوت الكبار، بداية من عبدالوهاب إلى بليغ والموجى وشادية وعبدالحليم وسعاد حسنى وسعاد محمد، مرورًا بجيل محمد منير وهانى شاكر من قبله.. فكما ساند تجربة منير كان من أكبر الداعمين للفنان هانى شاكر فى بداية ظهوره وكتب له: «سيبونى أحب، يا ريتك معايا» دارت السنوات وبقى مجدى قطعة السكر التى نحسد أنفسنا على وجودها.. متعه الله بالصحة والعافية، وجاء الوقت لندخل إلى صورة مجدى الشقى صاحب الحكايات النادرة المدهشة.

عن ميمى فؤاد التى أحبها العندليب 

فى صندوق الذكريات، الذى يحتفظ به مجدى، ستجد نفسك أمام مفاجآت ستظل طازجة ومثيرة، فهو يروى قصص حب سريعة عاش تفاصيلها مع عبدالحليم حافظ مثلًا، الذى أحب «ميمى فؤاد» التى كانت تعمل فى فرقة محمود شكوكو، واعترف العندليب لمجدى بأنها كانت أول قصة حب فى حياته، وأنه تعرف عليها عن طريق محمد الموجى، الذى كان معجبًا بصوتها فى البداية ثم بدأ يحذرها منه وأجبرها على الابتعاد عنه!

يقول عبدالحليم لمجدى نجيب: «كانت تأتى إلى معهد الموسيقى، وكنت أنتهز فرصة انشغال الموجى فى بروفاته وأتحدث إليها، وكانت تنبعث من صوتها الهامس نعومة راقصة مثل النسمة، وتطورت الحكاية وبدأت تسأل عن غيابى، ولاحظ الموجى لهفتها وانشغالها، فبدأ يحذرها ويأمرها بالابتعاد عنى.. وكان لا بد أن أحتج على تحريضه لها، وهذا ما جعل مناقشتنا تتحول إلى مبارزة ساخنة، وتأكدت من حب ميمى وتفضيلها لى».

ويسأل مجدى: كنت تبحث عن الحب وأنت لا تملك ثمن وجبة الطعام؟

ويجيب عبدالحليم: اللحظات الخاطفة معها كانت تسعدنى وتبعث الدفء فى قلبى. 

- ألم تخطط للزواج منها؟

لا، لم أفكر.. لكنها هى التى فكرت وبدأت ترتب أوراقها للزواج.

ويكتب مجدى نجيب باقى القصة، ففى هذه الفترة التائهة الحائرة كانت ميمى فؤاد قد بدأت الشهرة فى الوسط، لدرجة أن «صديق أحمد»، أكبر متعهد حفلات، طلب منها الانضمام لفرقته فاشترطت عليه التعاقد مع عبدالحليم، ووافق الرجل، وتعاقد مع عبدالحليم، لكنه تراجع وتم فسخ العقد، وانزعجت ميمى وظنت أن «حليم» يتهرب منها، فأصيبت بصدمة الوجع، كما يصف مجدى نجيب، فأسرعت بالسفر إلى بيروت لتعمل راقصة ومطربة فى الملاهى الليلية وحققت شهرة واسعة، وكان عبدالحليم قد بدأ هو الآخر الشهرة مع «صافينى مرة»، وكانت «ميمى» تغنى وترقص على ألحان أغنياته، واعترف العندليب لمجدى بأنهما عادا للتواصل بعد نجاحها فى بيروت وكانا يخططان للزواج لولا أن الصحف سربت أخبارهما، وأصبحت حكاية المطرب المغمور والراقصة المصرية التى تعيش فى وطن عربى شقيق هى حديث المجلات الفنية: «وكان لا بد من تكذيب هذه الأخبار» - يعترف حليم لمجدى- «كما نصحنى بعض أصدقائى من الصحفيين وتعلمت يومها كيف تقسو قلوب العشاق».

ويختتم مجدى نجيب الحكاية بأن الفنانة ميمى فؤاد ابتعدت عن الحياة الفنية كلها وتزوجت أحد الأثرياء العرب.. «فقد وجدت فى شارع الفن الصراعات والغدر والتنكر». وكنت أظن تلك القصة شائعة قبل أن يؤكدها مجدى الذى أكد أيضًا أن محمود الشريف وأم كلثوم تم طلاقهما بأمر من قصر الملك فاروق! ولا تتوقف الإثارة عند هذا الحد، بل تصل إلى القمة، عندما يحكى مجدى نجيب عن لقائه بالموسيقار محمد عبدالوهاب وكيف خرج من عنده نادمًا! أو عندما يحكى عن تلك الليلة التى بكى فيها محمد الموجى حسرة وألمًا على مشاركته فى بطولة فيلم «رحلة غرامية» بنفس الألحان التى قدمها لعبدالحليم «صافينى مرة، على قد الشوق»، وكانت سببًا فى شهرتهما، أو تلك اللحظة التى قرر فيها عبدالرحيم منصور الزواج من الست نعيمة التى تزوجت الأبنودى! ولم أسمع عنها إلا من مجدى الذى ما زال قادرًا على إدهاشى حتى وهو يحكى عن حفل زفافه على السطوح، الذى دعا إليه الشيخ إمام ليغنى «جيفارا مات» وسط دهشة أهل العروس وجنون الجيران، الذين كانوا يتابعون الحفل على السطوح مباشرة!.. وصندوق ذكريات مجدى يحتاج لمجلدات لسرد حكاياته المبهجة والدرامية والساخرة. 

كتابة الأغانى كانت «عارًا» لغاية ما قابلت بليغ!

قبل الدخول إلى تجربة مجدى مع بليغ، دعنا نبدأ من «شبابيك» أو الشريط الغنائى الذى صدر فى الثمانينيات؛ ليغير ذوق جيل كامل كنت واحدًا من أبنائه البائسين، فمع ثورة الكاسيت التى اجتاحت مدن مصر وقراها، آنذاك، وصل إلينا «شبابيك»، كنا مجموعة من مثقفى القرية كباقى المجموعات المنتشرة فى قرى وأقاليم أخرى على أرض المحروسة الممتدة، نسمع فيروز ولا نفهم كلمات الأغانى، نلطم مع عبدالحليم ونبكى الفراق واللوعة ولا نملك حبيبات، نسمع أم كلثوم لأنها تغنى قصائد صعبة، ونناضل مع الشيخ إمام ولا نعرف إيه القصة بالضبط، ووصل إلينا «شبابيك» حيث «شجر الليمون.. وأشكى لمين.. والليلة يا سمرا.. وقد وقد..» كان الشريط - لم نكن نعرف مصطلح ألبوم- أسطورة صنعها الخيال، وشارك فى ترجمتها فنان اسمه يحيى خليل عائد من عالم الجاز؛ ليكتشف حلاوة وروعة الموسيقى المصرية عند أحمد منيب وبليغ حمدى، والكلمات لعم الشعراء فؤاد حداد وعبدالرحيم منصور ومجدى نجيب، والصوت لشاب أسمر اسمه محمد منير. وجيلى البائس الذى أحدثك عنه هو المولود فى السبعينيات أو قبلها بأشهر، حيث لا هزيمة ولا انتصار، ورثنا الناصرية بمنافعها والساداتية بكامب ديفيدها! لا شىء يخصنا أو يعبر عنا، وأخيرًا وجدنا كلمات تحترم الشعر والغناء، وموسيقى مختلفة وغريبة تتسرب إلى الروح بشجن.

وفى الجلسات كنا نتفلسف حول معانى كلمات عبدالرحيم منصور، وهل كان الشاعر يقصد فلسطين بشجر الليمون الدبلان على أرضه؟ أم يصف حال المحب والعاشق بعد فراق الأحباب! وهل كان الشاعر «مجدى نجيب» معتقلًا خلف القضبان ويرى العالم من شباك الزنزانة حين كتب «شبابيك»، أم أن خيال الشعر والثقافة بشكل عام تصنع كل هذا الجمال لنرى الحياة من قريتنا الفقيرة ونطل من النوافذ والشبابيك على رائحة الحرية!

عندما قابلته للمرة الأولى كنت مثل الطفل الذى لا يصدق أن بإمكانه ملامسة النجوم التى عبرت فوق رأسه من سنين فى ليالى القرية البعيدة، كان مجدى نجيب شريكًا ليحيى خليل وعبدالرحيم منصور فى ظهور نجمة شاركتنى مرحلة مفصلية فى عمرى وفى إدراكى وثقافتى، وها هو أمامى بعد عشرين عامًا من شبابيك! ها هو أمامى يحكى من ورا الشبابيك عن حياته ومسيرته كأنما يكتب سيرة ذاتية فنية، فأول أغنية يكتبها كانت «قولوا لعين الشمس» وكان رافضًا تمامًا الفكرة من أولها إلى آخرها، فعندما عرض عليه بليغ لأول مرة كتابة أغنية شعر بالصدمة: «لم أكن أتصور أن أترك الشعر والرسم والصحافة والإخراج الفنى، وأنضم إلى قافلة كتاب الأغانى؛ لأننى كنت مقتنعًا أن تأليف الأغانى نوع من العار بالنسبة للشاعر، لأنه بالضرورة سيتنازل عن بعض الأشياء التى قد تضره كمبدع»، لكن بليغ لم يتوقف عن الإلحاح حتى جمعتهما جلسة فى معهد الموسيقى بحضور عبدالرحيم منصور قال له بليغ:

- اسمع المزيكا دى.. أنا شايف إنك تقدر تكتب عليها كلمات مناسبة.. اسمع.

ثم أخذ بليغ يعزف على أوتار عوده.. وكأنه يريد تحفيز مجدى أو تعذيبه، «وكانت الموسيقى التى أسمعنى إياها تفيض بكم هائل من الشجن الجميل الذى جذبنى، لكننى ترددت، ولاحظ بليغ ترددى فقال بابتسامة لئيمة: 

حاول تجرب فلن تخسر شيئًا.

ودخلت التحدى الكبير واستهوتنى فكرة استلهام التراث، فقد فعلها (لوركا) شاعر إسبانيا الكبير وجمع أغانى الغجر.

كتبت الكلمات على اللحن وكانت تجربة غاية فى الصعوبة، وكان مولد (قولوا لعين الشمس ما تحماشى) التى غنتها شادية عام ١٩٦٦ وحققت نجاحًا كبيرًا، وكان أجرى الذى حصلت عليه خمسة جنيهات قبل خصم الضرائب».

ولا تنتهى حكايات مجدى عن بليغ حمدى فى سيرته الفنية التى سجلها فى كتابه صندوق الذكريات زمن الفن الجميل، فقد اقتربا كثيرًا وسهرا طويلًا وتبادلا الخصام والوئام والغضب أحيانًا.

عبدالرحيم.. وحكاية الست نعيمة!

لم أصادف حبًا وإخلاصًا للشاعر عبدالرحيم منصور مثل الذى يحمله مجدى نجيب فى قلبه لصاحب «الرقص ع الحصا» الذى يحتل نصف الذكريات تقريبًا بداية من اكتشاف لويس جريس له إلى أن جاء القاهرة: «كان عبدالرحيم يمثل روحى الثانية، فهو أقرب الأصدقاء وأحبهم إلى نفسى، أستشعر قلقه فأخرجه من دوامته ويحس بشكواى.. وحقق لى شكلًا بديعًا للإنسان الجميل الذى حافظ على بكارة روحه».

العلاقة بدأت من ديوان عبدالرحيم منصور الأول «الرقص ع الحصا» الذى أهداه إلى أمه بنت الشيخ إسماعيل الخلاوى، وكان مجدى نجيب يصمم الغلاف عندما قرأ القصائد لفت نظره الإهداء، وعرف منه أن أمه هى جذور تلك الشجرة من الكتابة، فقد كانت تغنى مواويل الحزن والفراق أمام الفرن، وكلما تذكرها بكى مثل طفل، كان إحساسه باليتم يسيطر عليه، ومع ذلك عندما جاء القاهرة ورغم صغر سنه أطلق على نفسه لقب «الأب».

الحال معى كان مختلفًا - يقول مجدى نجيب- فكنت أباه وأخاه الأكبر، وكنت أخشى على ضياعه فى القاهرة التى لا ترحم النازحين، وأعلنت حمايتى له، وخصوصًا بعد زواجه من الست نعيمة محركة العرائس التى تزوجها قبله الشاعر بلدياته عبدالرحمن الأبنودى. 

وهنا يتوقف مجدى نجيب ليروى حكاية غاية فى الغرابة عن الست نعيمة التى لم أسمع عنها من غيره، والتى لم يذكر سوى اسمها فقط، ولو كنت أعرفها قبل ذلك لطالبت بتمثال لها فى المسرح القومى على الأقل، فهى نموذج فريد كما يحكى مجدى فى صندوق ذكرياته:

«.. كانت الست نعيمة تغطى الكل بحنانها، وكنت أنا وعبدالرحيم ويحيى الطاهر عبدالله والشاعر أمل دنقل والكاتب المسرحى على سالم نزورها كثيرًا؛ لنستريح بعد أن ينهكنا تعب المشاوير؛ فيحتضننا سكنها المكون من صالة صغيرة وحجرة نوم.. كانت لا تبخل علينا بوجبات تقدمها بحنان الأم من مرتبها الضئيل، وكان أغلب زوارها يحلمون بالزواج منها بعد طلاقها من الأبنودى، وقد استطاع عبدالرحيم تحقيق هذا الحلم لنفسه». ويحكى مجدى نجيب جوانب متعددة من الدراما المؤلمة فى حياة عبدالرحيم منصور، الذى عاش حزينًا حتى آخر لحظات عمره: كان يستطيع إخفاء حزنه متحملًا معاناته اليومية فى كسب لقمة العيش، ينفض وجعه المتوارث ويكتب «لو سألوك» و«بكرة يا حبيبى» للفنانة وردة، و«جرحتنى عيونه السودا.. وعطاشى.. وقضينا الليالى» لعفاف راضى.. و«باعشق البحر وسكة العاشقين» لنجاة، و«يا طير الشوق، وحبيبى يا متغرب» لفايزة أحمد، وكان النصيب الأكبر من شعره الغنائى لمحمد منير.

هكذا صنعنا نجومية محمد منير فى عصر عبدالحليم

روح عبدالرحيم منصور تستحضر «شبابيك» ومحمد منير من جديد، ففى إحدى الليالى - يتذكر مجدى نجيب- جاء عبدالرحيم منصور وفى يده شاب أسمر التقاطيع، بشوش الوجه نحيف العود، يُحسن الإنصات، كان على وشك التخرج مصورًا فوتوغرافيًا فى كلية الفنون التطبيقية، كنت وقتها أعمل مع ناقدنا الكبير رجاء النقاش فى عدد خاص عن «العروبة» فى مجلة المصور، وكانت إحدى قصائدى التى ستنشر فيه عن القدس، وقرأها عبدالرحيم وهتف: لن يغنيها غير ولدى هذا.. إنه سيعجبك. تأملتُ ولد عبدالرحيم، وكان فى براءة حبة السمسم وفرحت بابتسامته المتوجسة الخجولة ويحتاج من يقف معه فى مشواره، وتحمسنا وانضم إلينا عدد كبير من الفنانين والمثقفين والموسيقيين هانى شنودة فى مرحلة ويحيى خليل وقبل الجميع كان حماس الملحن أحمد منيب، الذى يعتبر رائدًا فى الأغنية الجديدة، وهو الذى عبر بها من خندق اللوعة التقليدية التى كانت مستقرة حتى منتصف السبعينيات إلى أحضان الناس، خاصة شباب الجامعات والمثقفين واختار الألحان النوبية والموضوعات المختلفة، وغنى محمد منير من ألحانه شجر الليمون بكلمات عبدالرحيم منصور، الذى كان قد كتب لمنير أول ألبوم غنائى «علمونى»، ثم بعده ألبوم «بنتولد» وتوالى النجاح، وبعدها بدأ التعامل بيننا وقدمت له «شبابيك، سؤال، يا مراكبى، باعتب عليكى، أول لمسة، ممكن»، وكان من حظ محمد منير أن يولد بتجربته الجديدة فى عصر غول الرومانسية «عبدالحليم حافظ»، فبدأ الغناء بالدف وآلات الإيقاع بمصاحبة عود الملحن أحمد منيب.. ونجحت التجربة بصرف النظر عن توابعها.

ولا تنتهى حكايات مجدى نجيب مهما طال الليل، كل سنة وإنت طيب يا جميل.. وتعيش وتحكى.