رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

و الذكرُ للإنسان عمر ثانِ

 منذ رحل رجل من أقرب وأصدق وأخلص من عرفت، ومع متابعتي لردود الأفعال على رحيله المفاجئ يرِد على خاطري بيت الشعر الذي نظمه أمير الشعراء أحمد شوقي ويقول فيه: وارْفَعْ لنفسِك بعدَ موتكَ ذكرَها فالذِّكْرُ للإنسان عُمرٌ ثانٍ.

فقبل نحو شهرين تدهورت الحالة الصحية لصديقي النائب محمود بكر عضو مجلس الشيوخ، ومنذ ذلك الحين أتابع باهتمام ما يكتبه كثير من محبيه على صفحات التواصل الاجتماعي يناجون الله أن يكتب له الشفاء.

فلما أتي أمر الله واختاره إلى جواره، منتصف الأسبوع، تغيرت صيغة الدعاء- بل وتضاعف عدد الداعين- فصاروا يدعون له بالرحمة والمغفرة.

    ولقربي من الرجل لسنوات كثيرة مضت، ربما بلغت اليوم نحو 15 عامًا أراني قادر على تفهم سر كل هذا الحب الذي يتحدث به الناس عنه. فهو- كما عرفته ولا أزكيه على خالقه- متسامح، مجامل، جابر للخواطر، ساعٍ في قضاء حوائج البسطاء والمعوزين، حسن الخُلق، دائم الابتسام، صبور حتى على المسيئين، يحتفي بالموهوبين، و يقدّر المتميزين، وينتصر للمظلومين.

   منذ باغتنا نبأ مرضه المفاجئ لم أتمكن من رؤيته إلا مرة واحدة في إحدى ليالي العشر الأوائل من رمضان. يومها، لم أُطل المكوث معه- على غير عادتنا- مراعاة لآداب زيارة المريض ولأتركه مع أشقائه وأبنائه، ورغم أن لقائي به لم يدم أكثر من نحو عشر دقائق إلا أنه استوعبني كعادته وسألني عن أحوالي التي لم أكن أخفيها عنه أبدا، ولكنني في تلك المرة لم أفتح الكلام في شيء كان يعرف أنه ينغصّني، فبادر هو بالسؤال وهنا صارحته بإيجاز وبتجميل للكلام حتى لا يبتئس لأجلي. وغادرت على وعد بلقاء في الإفطار الجماعي لأبناء الصعيد الذي شغل نفسه بتنظيمه وهو على ذلك الحال بالمستشفى، فقلت له لا تشغل نفسك كثيرا بهذا الأمر وأنت في هذه الحالة ونحن نكفيك فقال: "مايصحش".

    تلك هي الكلمة الفاصلة في مسيرة حياة صديقي الذي رحل فجأة فحرّك مشاعرنا حزنا لأجله: ما يصح وما لا يصح . أمر يسميه أولاد البلد الواجب والأصول . وهكذا كان محمود بكري رجل يعرف الواجب ويؤديه على أحسن ما يكون، و يقدّر الأصول ويراعيها. ومع هذا كان فيه من طباع أهل الصعيد ما لا يسمح لأحد أن يتجاوزه أبدا. فأنت صديقي إلى أن تتجاوز وساعتها الزم حدك، إما بالعرف والتقاليد أو بسيف القانون.

    رغم علمنا بما يجب على النائب أن يقوم به من اهتمام بالنواحي التشريعية وليس الخدمية لأبناء دائرته، ورغم إدراكنا أن دور نائب الشيوخ يختلف عن دور نائب النواب، إلا أن النائب محمود بكري كان له رأي آخر. فهو يرى أن الناس "غلابة" وفي أمّس الحاجة لمن يواسيهم في بؤسهم ويراعي مصالحهم، و طالما أن الله مكّنه من خدمتهم فلا ينبغي أن يتخلّى عنهم. وهكذا كان من المعتاد أن نتابعه وقد نزل إلى عزب حلوان وقراها ودروبها وأزقتها وحواريها ليوصّل دعمًا أو معونة جمعها لمحتاجين.

    وقد أسعدني بأن أكون في صحبة بعض مساعي الخير والقوافل الطبية التي اعتاد أن ينظمها، فرأيت كيف يحبه ناس مصر الحقيقيون، وكيف يتواضع لفقيرهم بذات القدر الذي يتعامل به مع عمد البلاد وأعيانها. كان انحياز أخي محمود بكري للغلابة اختياره الأول . حتى حين أزف الرحيل، فقد أوصى بأن يدفن في بلدته بجنوب مصر حيث يرقد والداه.

     وفي الجنازة تابع الجميع دموع الحشود الصادقة ودعاء الناس له بظهر الغيب. وقد ورد فيما رواه الإمام البخاري عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قُولهُ: (مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ. ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ) . ولم تكن تلك الدموع التي ذرفت ولا هذه الجموع التي ودعت إلا رمزًا يدل على مدى خيرية الرجل ومقدار محبة الناس له.

     ومهنيًا، كان الرجل يفرح بكل من يستشعر فيه الموهبة. أذكر في بدايات معرفتي به أن فزت بجائزتين من إحدى دورات مهرجان القاهرة الدولي للإعلام وحين تسلمت الجائزتين تناسى قواعد البروتوكول وترك مقعده متقدمًا نحوي مقبّلًا ومعانقًا ومبديًا فرحته بنجاح مهني لصديق جديد، فكان ذلك الموقف الإنساني فارقًا جدًا في تقدير علاقتي به بعد ذلك.

   كما كان- رحمه الله- موضع تقدير صناع القرار الإعلامي، فصار يستشار في أمور تخص المهنة وكان بدوره يستعين برؤى من يأتمنهم وتعلموا منه التجرد لصالح الوطن دون وضع الحسابات الشخصية في دائرة الاهتمام حين يتعلق الأمر بالصالح الوطني. وقد كانت له مؤخرًا تجربة إعلامية أخلص لها تمامًا وبذل فيها جهدًا كبيرًا وحشد لها خيرة العقول كضيوف وصناع محتوى، لكنها لم تر النور بعد، وأرجو أن يعاد النظر في عرضها برؤيته التي وضعها وأشرف على تنفيذها؛ لأنه كان يعمل فيها بإخلاص شديد، وكأن هذا البرنامج هو رسالته الأخيرة التي يتركها للناس من بعده، وفي الأمر تفاصيل كثيرة لا مجال لسردها الآن.
    أما عن قناعاته السياسية فقد كان الرجل عروبيًا رغم انتكاسة الفكرة وتراجع عدد المؤمنين بالفكر القومي. كما كان وطنيا حتى النهاية، فحين تعرض الوطن لفترة اختبار حقيقية هددت استقراره انحاز بكل قوة للوطن، لا غير، فجمع المخلصين وشكّل تيارًا من صفوة الرجال قدموا الأفكار وجابوا القرى والمدن وسعوا لتصحيح المفاهيم وشاركوا مع غيرهم في تثبيت أركان الدولة الوطنية، حتى تجاوز الوطن أزمته وعاد سليمًا معافى.
    رحل أخي وصديقي وأستاذي في الصحافة التليفزيونية وترك مكانًا شاغرًا يصعب أن يملأه أحد، لأنه من الصعب أن نجد إنسانًا في مثل شخصيته وأخلاقه ومهنيته.. نسأل الله له الرحمة والرضوان، وأن يسكنه سبحانه فراديس الجنان. ويا أشقاء وأبناء محمود بكري اسعدوا فقد ترك الرجل لكم رغم رحيله سيرة طيبة ستظل أطول بقاء وأبقى أثرًا من العمر ذاته.