رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاقتصاد المصرى بين الحقيقة وأصحاب الهوى والإفك!

(1)

منذ يومين فقط كان هناك حدث اقتصادى مهم فى القاهرة بمشاركة رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولى، ربما لم يلتفت إليه كثيرون. حيث دشن البنك الدولى إطلاق استراتيجيته المشتركة مع مصر للفترة من 2023 وحتى 2027م. حضر الفعالية نائب رئيس البنك الدولى لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فريد بلحاج، كما حضرها ممثلو شركاء التنمية وعدد من السفراء ووزيرة التعاون الدولى. وفى كلمته قال فريد بلحاج إن مجموعة البنك الدولى لديها ثقة قوية فى مصر وتثمّن الخطوات التى تتخذها الدولة المصرية لتمكين مشاركة القطاع الخاص فى التنمية، ودورها فى استخدام الطاقة المتجددة.

تصادف ذلك مع بث حديثٍ مسجل مع أحد كبار رجال الأعمال المصريين ربما يكون تم تسجيله من دولة خارج مصر، انتقد فيها ظروف الاستثمار فى مصر، وأنه أوقف بعض نشاطه بسبب التغيير فى العملة المصرية! وأشاد بالقطع بالتسهيلات الكبرى التى تمنحها له تلك الدولة التى يتحدث من خلال إحدى قنواتها! وإنه بالفعل على وشك توقيع عقود استثمار معها لكنه رفض ذكر تفاصيل!

للوهلة الأولى وأنت تسمع الرجل تكاد تقتنع بحديثه تمامًا! لكن مع وضع ذلك الحديث وجهًا لوجه مع معلومات اقتصادية تخص أنشطته الاستثمارية فى إحدى دول أوروبا الغربية فى مجال الاستثمار العقارى السياحى تصيبك دهشة بالغة! تقول المعلومات المتاحة للجميع إنه بدأ استثماراته فى تلك الدولة الأوروبية بتقديرات مليار دولار كتكلفة، لكن الرقم قفز إلى مليار ونصف المليار، وتسبب ذلك فى خسارات كبرى له ولسنوات متوالية، والمدهش فى القصة تصريحاته لوسائل الإعلام الأوروبية التى يخفف فيها من تأثره بالخسارة ويبدى مدى تفهمه للأسباب التى أدت لخسارته! 

حين يحرر مواطنًا بسيطًا عقد إيجار لغرفة يمتلكها فى بدروم أو على سطح أحد المبانى لمدة عدة سنوات. مثلًا يمكنه ببساطة وبدون دراسات جدوى عالمية أن يضيف بندًا يزيد نسبة الإيجار بنسبة مئوية كل عام أو حتى كل شهر لو قبل المستأجر ذلك. فحين نتأمل تصريحات هذا المستثمر عن سبب خروجه المزعوم من سوق الاستثمار المصرية نكتشف عدم جديته أو مصداقيته وتناقضه مع أبسط قواعد ومبادئ دراسة الجدوى الاقتصادية لكل مشروع والتى تتم على أساس التغييرات المالية فى السوق الذى ستتم إقامة أى مشروع به! 

(2)

منذ عدة أسابيع جمعتنى مصادفة مهنية مع شخصية استشارية اقتصادية غير مصرية، وقطعًا كان جزء من الحديث عما تتم إثارته على ألسنة بعض المستثمرين شأن ذلك المستثمر المذكور. جاء حديث تلك الشخصية واضحًا جدًا...(هناك شركات دولية كبرى كثيرة ترى فى مصر استقرارًا اقتصاديًا فى السنوات القادمة رغم وجود بعض التفاصيل البيروقراطية بالفعل، لكن تلك التفاصيل هى من بقايا الجمهورية القديمة وهى فى سبيلها للتراجع وليس العكس مع تحول مصر إلى الرقمنة وتغيير قوانين الاستثمار، لكى تواكب ما يمر بمصر والعالم، كما أن وجود بقايا تلك البيروقراطية المتداعية لا يمكن بأى حال أن تكون طاردة لاستثمارات حقيقية جادة. فمصر حاليًا من دول المنطقة الآمنة للاستثمار ولهذا أنا هنا حاليًا!)

مصر تتعرض أحيانًا لعمليات ابتزاز اقتصادية واستثمارية من جانب بعض الكيانات الاقتصادية- مصرية وغير مصرية- للفوز بصفقات، أو ضمان الحصول على مكاسب ربما تراها مصر أنها غير منطقية أو غير عادلة. فمصر دولة لا تمتلك مصادر دخل سهلة، لكنها بالعامية المصرية (دولة شقيانة)  وعبئُها ثقيل، ولا يمكنها نثر هدايا استثمارية للبعض دون ضبط وتوافق مع أهدافها بتعظيم الاستفادة الاقتصادية من مواردها. فالآن هناك دول جوار لا تتردد فى إنفاق أرقام أكثر بكثير من مردودها فى سبيل (خطف) مستثمرين أو موهوبين فى كل المجالات ومنها المجال الاقتصادى. وهى تفعل ذلك فى سبيل الوصول لأهدافها السياسية- التى أراها مشروعة تمامًا- التى وضعتها لنفسها من الانتقال من عهد إلى عهد جديد كلية ومناقض للعهد القديم ومعادٍ له أحيانًا. وفى سبيل ذلك فهى ترى أن ضخ أموالٍ فى غير موضعها الآن لا يضيرها مقارنة بما تطمح لتحقيقه بعد عقدٍ من الزمن مثلًا!

(3)

أما مصر فهى أولًا لا تحتاج إلى ما يشبه استقطاع جزء من مواردها لهبتها دون وجه حق كرشاوى استثمارية لبعض أباطرة المال والأعمال الذين قبلوا الخسارة فى ضباب وثليج أوروبا بينما يحاولون ابتزاز مصر!

وثانيًا فإن مصر تحتاج بشكل واضح إلى الاستفادة القصوى من كل مواردها لكى تفى بمتطلباتها كأكبر دول المنطقة سكانًا وتعرضًا للضغوط الخارجية! أى أن مصر لا تملك رفاهية المنح الاقتصادى من مقدراتها دون حصولها على ما يقابل ذلك بشكل عادل سواء من عوائد مالية مباشرة أو توفير فرص عمل لمواطنيها! 

(4)

يقع كثيرٌ منا كأفراد مصريين غير متخصصين فى أكثر من عملية خلط فى محاولة فهم المشهد الاقتصادى والمالى، وأول ما نقع فيه هو الخلط بين موقف الاقتصاد المصرى الكُلى وموقف مصر على خريطة الاستثمار العالمى من جهة، وبين مفردات المشهد المحلى من تغير فى الأسعار وانخفاض سعر العملة المصرية. فالموقف الاقتصادى المصرى يمكن معرفته من مشاهد اقتصادية دولية مثل مشهد فعالية البنك الدولى ومثل مراجعة بيانات وخريطة المؤسسات والمشاريع الدولية والمصرية الخاصة التى تعمل فى مصر فى السنوات العشر الأخيرة، ومدى ثقة المؤسسات والكيانات الدولية المالية والاقتصادية فى استقرار مصر الاقتصادى وقدرة مصر على تنفيذ برامجها التنموية والإنتاجية والوفاء بالتزاماتها الدولية.

ومثل تبنى القيادة السياسية لفكرة تحديث القوانين الاستثمارية لكى تواكب العصر والتغييرات الكبرى فى العالم، ولكى تحقق لمصر أهدافها فى تنشيط الاستثمار وتعظيم الاستفادة من الموارد المصرية، ومثل أننا أصبحنا نطالع وبشكل روتينى من وقتٍ لآخر أخبار بدء نشاط براند عالمى لأية سلعة فى مصر، ومثل قيام الدولة المصرية بإحياء صناعات كنا نشعر بألم كبير لانهيارها ونتمنى عودة الهيبة الاقتصادية العالمية لها مثل صناعة الغزل والنسيج وصناعات القطن طويل التيلة، وصناعات الأثاث الخشبى، وغيرها مما تم بالفعل إنجازه فى السنوات الماضية!

مصر مرشحة اقتصاديًا لتبوؤ مكان متقدم فى السنوات القادمة. هذه حقيقة يعرفها رجال الأعمال قبل أن نعرفها نحن العامة! لكن بعضهم أحيانًا يريد أن يطبق المبدأ القبيح.. رأس المال لا وطن له! وفى سبيل الحصول على أقصى عائد فكل شىء مباح بدءًا من مساومة الإدارة المصرية بما يحصل عليه البعض من هذه الدولة أو تلك، وانتهاء حتى بترويج معلومات غير صحيحة مثلما كان يردده أيضًا أحد أفراد نفس عائلة رجل الأعمال منتقدًا النشاط الاقتصادى للمؤسسة العسكرية الذى تمارسه جميع المؤسسات العسكرية، لكن بشكل ربما يختلف من دولة لأخرى، كل دولة تحاول أن تبقى على مؤسستها العسكرية قوية ولها مواردها الخاصة!

(5)

أما قصة العملة المصرية وما يترتب على تحريكها من وقتٍ لآخر من تغير فى الأسعار، فهذا هو عنوانٌ رئيسى تقع أسفله عوامل كثيرة وخريطة بالغة التعقيد يجب على الإدارة الاقتصادية أن تقوم بشرحها بشكل مبسط للمصريين حتى يدركوا مدى أهمية دورهم كطرف أصيل فى هذه الخريطة المعقدة، وكيف لهم أن يقوموا بأدوارٍ أكثر فعالية فى تغييرها. 

أحيانا كثيرة تكون القضية بالغة العدالة والمنطقية، لكن يلزمها من يجيد تقديمها لهيئة المحلفين، وهيئة المحلفين هنا هم المصريون. فعلى المسئولين عن الملف الاقتصادى فى الحكومة المصرية أن ينتقوا من يجيد تبسيط هذه المفردات للمصريين حتى يتسنى تحقيق هدفين رئيسيين، الأول منهما تحصين الشارع المصرى من هذا السيل المتدفق من محاولات هدم الثقة فى الاقتصاد المصرى، وبالتالى فى استقرار الدولة المصرية، والثانى أن يقوم المصريون بشكل فردى بدورهم الوجوبى فى تغيير مفردات المشهد المحلى المتعلق بتحريك سعر الجنيه وما يترتب على هذا التحريك.

وليس المقصود هنا أية محاولة لتقديم أوهام للناس، بل على العكس تقديم الحقائق التى يأتى على رأسها أنه لا علاقة لسعر العملة المحلية بقوة أو ضعف الاقتصاد ذاته! فالعملة آلت إلى ما آلت إليه بسبب تراكم عوامل كثيرة، أولها أن ما يعتقده المصريون عن سعر عملتهم منذ ثلاثة عشر عامًا لم يكن إلا وهمًا! وكانت الدولة المصرية تدفع ثمن بقاء هذا الوهم معظم مواردها ضاربة عرض الحائط بما تحاول إدراكه مصر الآن من تحديث بنية أساسية وتوفير فرص عمل وتحديث التعليم والصحة والعقل!

ثانيًا أن الجزء الأكبر مما يحدث فى قصة العملة المصرية كان بناء على تبنى الإدارة المصرية أجرأ وأهم وأفضل قراراتها وهى خطة الإصلاح الاقتصادى منذ سنوات!

ثالثًا ومهما تكن قوة اقتصاد أى دولة فلن يحدد العملة إلا إنتاج الدولة مجتمعة مقارنة مع استهلاكها، ولن تبدأ عملتها رحلة صعودها إلا حين يكون الفارق بالإيجاب لصالح الإنتاج، ولن يتحقق ذلك فى مصر مع حقيقة وجود خمسة وثلاثين مليونًا من صغار السن خارج منظومة العمل لأنهم تلاميذ. هذا تشوه فى خارطة سوق العمل والإنتاج لن يستقيم إلا حين يعدلها المصريون بأنفسهم فى السنوات القليلة القادمة.

(6)

حين يعرف المصريون هذه الحقائق مع غيرها، فساعتها سيعلمون بالتبعية عِظم الدور الذى يمكنهم القيام به فى قصة العملة المصرية، وربما تغير المشهد بنسبة كبيرة. وهذه ليست مبالغة، ويمكنها أن تأتى بنتيجة سريعة فيما يخص الموازنة بين الإنتاج والاستهلاك، فنحن المصريين من الشعوب المستهلكة لمنتجات كثيرة مستوردة وكثيرٌ منها مرتبط بالثقافة العامة مثل عدد السيارات الخاصة التى يتم استيرادها كل عام، وأجهزة الاتصالات كل عام أيضًا. وهناك أيضًا عزوف كثيرٍ من الأفراد والكيانات الصغيرة من العاملين بقطاع السياحة عن التعامل مع البنوك الوطنية لتغيير العملة مما يساهم دائمًا فى خلق سوق سوداء، ويحرم مجمل دخل مصر من تلك العملات الأجنبية التى تصب فى خزائن عدد محدود جدًا من الأفراد!

ومن جملة الإدراك المنشود الذى يمكنه تغيير المشهد الداخلى للعملة المصرية، هو إدراك خطورة نسبة النمو السكانى والمساهمة فى حصاره والسيطرة عليه.

كل هذه المفردات- المتعلقة بقيمة العملة المحلية-  يمكن أن يرتبك فى فهمها بشكلٍ صحيح رجل الشارع العادى الذى يحدد- كما هو فى العالم كله- مواقفه حسب تأثره الشخصى وتأثر دخله الشهرى مع أى تحريك للعملة المحلية، لكن من المستحيل أن يرتبك فى فهمها أو يخلط بينها وبين تقييم الاقتصاد المصرى الكلى أية كيانات اقتصادية عملاقة أو رجال أعمال لهم استثمارات كبرى داخل وخارج مصر، وأية محاولة لأن يظهر أحدهم وكأنه لا يدرك تلك الفروق هى محاولة ساذجة لإخفاء معطيات وأفكار ومصالح ربما يتوهم أن المجتمع المحلى لا يدركها، وهذه سذاجة بالغة فى عصرٍ تنتشر المعلومات والبيانات بكل أنواعها بمجرد إعلانها انتشارًا مخيفًا.

الجميع يعلم أن مصر من وقتٍ لآخر- مثل الآن- تتعرض لضغوط إعلامية فى شكل بث معلومات مغلوطة عن اقتصادها لإثارة حالة من الهلع ربما تفيد بعض أصحاب المصالح فى الحصول على صفقات أو الحصول على موقف أفضل فى مفاوضات اقتصادية موجودة بالفعل مع مصر.

(7)

إن وجود آلية رسمية إعلامية مستدامة لتقديم وتبسيط المفاهيم الاقتصادية للعامة، سوف يقضى بلا شك على هذا السيل من الأخبار المغلوطة أو أحاديث الإفك التى تعكف على بثها كيانات وأفراد ومؤسسات لأسباب محددة! ويمكن أن يكون ذلك مثلًا على غرار مقاطع مسلسل الإمام الشافعى التى يتم بثها مرارًا وتكرارًا.

حين تولى الرئيس السيسى منصبه قضى على أكبر ما كان المصريون يتعرضون عليه من مشاهد (النصب السياسى)! فقد اعتاد المصريون فى  عقود سابقة على رؤية مشاهد وضع حجر الأساس لمشاريع لا حصر لها، لكنهم لم يعلموا فى كثير من الأحوال مصائر غالبيتها! ثم فوجئ المصريون بأن الرئيس السيسى لا يقوم بوضع حجر أساس لأى مشروع، بل يقوم بافتتاح المشروع بعد أن يكون حقيقة واقعة. هذا التقليد الجديد ربما تكون بعض بقايا بيروقراطية مصرية عتيقة لم تدركه حق إدراكه ولم تفرق بين عدم الإعلان عن مشروع إنتاجى أو خدمى قبل وجوده كحقيقة واقعة لتبنى جذور الثقة مجددًا مع المصريين، وبين أن توضح لهؤلاء المصريين مقدمًا، تفاصيل أية قرارات أو أوضاع اقتصادية لن يفهمها رجل الشارع أو يفهم دوافعها أو نتائجها بمفرده. يتركونه نهبًا لسيل من الأكاذيب الموجهة إليه تحديدًا، وتصبح كل أكذوبة ككرة الثلج فى التعاظم حتى يصدقها بعض الناس ويرددوها ويعتبروها من الحقائق والمسلمات! وكان يكفى لتفاديها أو حتى تحجيمها وجود تلك الآلية الإعلامية المبسطة المتلفزة.