رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا الخرطوم.. من «القاهرة»

«أهلًا بكم ونحن بكم ونحن لكم.. إلى أن يعود صوت السودان الواحد وعلم السودان الماجد يرفرف ويهتف فى سماء أمتنا العربية ليقول للعالم: السودان هنا ولن يغيب. فى الثانى من نوفمبر من عام ١٩٥٦ استمع محبو الإذاعة إلى النداء التالى: من دمشق هنا القاهرة. حدث ذلك قبل ما يقرب من ٦٧ عامًا، بعدما انقطع إرسال الإذاعة المصرية بسبب العدوان الثلاثى. 

يومها قالت إذاعة دمشق للوطن العربى وللعالم: القاهرة هنا.. رغم القصف وطلقات الرصاص والخراب والدمار، القاهرة هنا. واليوم وبعد هذه السنوات البعيدة تقول القاهرة من أجل السودان الشقيق ومن أجل شعب السودان الجار والأخ والشريك، تقول من أجل السودان الحضارة والأصالة والحاضر والمستقبل، تقول القاهرة فى كل لحظة وفى كل حين: من القاهرة، هنا الخرطوم».

فى ثلاث دقائق ونصف خرجت على شاشة قناة «القاهرة الإخبارية» تلك الرسالة الإعلامية التى شدا بأدائها الصوت الإذاعى المثقف للزميل محمد عبدالرحمن، وتصاحبه صورة معبرة لطاقم فنى متميز فى فنون التصوير والمونتاج. وللأسف أجدنى غير متأكد بقلم من كتبت هذه الكلمات الواعية المعبرة عن محبة حقيقية بين شعبى وادى النيل، والمدركة حقيقة العلاقة التاريخية والأخوية بين شعبى مصر والسودان. 

تلك العلاقة التى ظلت راسخة رغم تغير الأنظمة واختلاف الرؤى وتعدد التوجهات. أقول إننى لست متأكدًا من هو صاحب تلك الكلمات، ذلك الذى صاغ هذه الرسالة الإعلامية بمحبة وببلاغة وبوعى سياسى، وإن كان حدسى يرجح أن كاتبها هو الصحفى المتميز خيرى حسن، فقليلة هى الأقلام القادرة على التعبير عن تلك المشاعر الإنسانية بهذه السلاسة والعذوبة والمهنية.

كنا قد كتبنا قبل أشهر قليلة سلسلة مقالات تبتهج بنافذة إعلامية وطنية ولدت لترسخ مكانة مصر الإعلامية بين الفضائيات. وبالفعل لم يخب ظننا فى القائمين على قناة القاهرة وقطاع الأخبار بالشركة المتحدة برئاسة الكاتب أحمد الطاهرى. فجاءت بدايات القناة- والتى انطلقت مع استضافة مصر قمة المناخ فى شرم الشيخ- كشأن كل جديد تتلمس خطواتها. إلى أن طرأت أحداث السودان لتنطلق القناة بأداء متوازن، غير منحازٍ إلى أى من الفريقين، وإنما كان انحيازها لشعب السودان وأمنه واستقراره. وفى مثل هذه الأحداث تتكشف المواقف وتتضح الرؤى وتنجلى حقائق الأشياء والأشخاص والمؤسسات.

انطلقت رسالة قناة القاهرة منذ انفجرت الأزمة فى السودان تنتصر للمواطن السودانى- ليس غيره- فتحركت كاميراتها إلى المناطق الحدودية بالجنوب بمراسلين أكفاء وبموفدين متميزين أمثال أحمد أبوزيد. وكذلك انطلقوا إلى حيث المطارات التى تستقبل النازحين جرّاء المأساة الإنسانية، وتحركوا وسط شوارع القاهرة والجيزة، حيث تجمعات السودانيين الموجودين فى مصر منذ سنوات وزاروهم، حيث هم فى مدارسهم وبقالاتهم ومخابزهم ومقاهيهم وحتى فى محال الجزارة السودانية.

وكذلك استقبل المراسلون أهل السودان الوافدين عبر معبرى قسطل وأرقين فوجدوهم مرعوبين من هول المعارك، فكان عوضهم فى دفء الاستقبال بابتسامة المحبة وبحديث الأخ المرحب. وهكذا اتسقت الرسالة الإعلامية مع التوجه الشعبى والموقف السياسى الرسمى. وازدانت القناة باستضافة المحللين المدققين والمتحدثين المتميزين والخبراء المتمرسين. أداء تميزه المهنية والاحترافية وعدم الانحياز إلا للحقيقة.

هنا تذكرت رسالة إذاعة صوت العرب القديمة الجديدة التى كان يقولها الإذاعى المؤسس أحمد سعيد بحماس صادق غير مفتعل إذ كان يقول: «أيها العرب فى جميع أنحاء العالم هذا صوت العرب الناطق بلسانكم، المكافح من أجلكم، المعبر عن وحدتكم نوافيكم به من قلب الأمة العربية المجيدة.. صوت العرب ينادى أمة العرب من قلب العروبة النابض من القاهرة». بالأمس كانت محطة إذاعية فقط هى صوت العرب، واليوم صار تساندها كتيبة متميزة فى قناة ناشئة، لكنها قوية بمن فيها من إعلاميين متميزين ومتمرسين. وهنا أدركت أن موقف مصر المساند للأشقاء، سيبقى موقفًا ثابتًا فى كل زمان، وفى وجه كل نائبة، وبكل آلية ممكنة. 

تيقنت من خلال أداء قناة «القاهرة» على مدى أسابيع الأزمة فى السودان أن موقف القناة يمثل موقفًا وطنيًا، يترجم أحد ثوابت السياسة المصرية. وبلغت بى الثقة مداها أن الإعلام الوطنى لا يسير حسب الأهواء وإنما وفقًا لاستراتيجية عمل يتحرك بها صنّاعه، استراتيجية تعلى من المصلحة الوطنية وتتبع القواعد المهنية. وهم فى هذا كله لا تستهويهم فكرة السبق إن كان مضللًا، ولا تحركهم لغة الترند وأرقامه حتى وإن كانت جذّابة ومغرية. وهو التوجه الإعلامى الذى جاء متسقًا مع الموقف السياسى للحكومة المصرية التى رحبت بالأشقاء من السودان على أرض وطنهم الثانى، وسهّلت لهم كل الإجراءات التى تؤمّنهم من الخوف.

ومنذ انطلاقها اهتمت «القاهرة الإخبارية» بالسودان، فمع نهاية يناير الماضى، وقبل اشتعال الأزمة وتطورها إلى هذا الشكل الدموى، استطلع الإعلامى جمال عنايت آراء عدد ليس بقليل من كبار السياسيين السودانيين وناقش معهم سبل استعادة الخرطوم دورها واستغلال قواها الاقتصادية لصالح شعب السودان الشقيق. 

وفى نقاش مهنى مع أحد الأصدقاء من كبار الكتّاب ذكر لى أنه كان يتمنى أن تبادر «القاهرة» بمحاورة قادة أو أحد طرفى النزاع على هواء القناة حتى تكتمل الصورة لدى المشاهد، وكان فى يقينى أن هذا ليس بعصىّ على صناع الأخبار بالقاهرة، ولكنهم اختاروا سبيل المهنية وانحازوا للحقيقة أولًا وللمواطن السودانى ضحية هذا الصراع ثانيًا، فعبّروا عن مشكلاته ونقلوا رؤيته فى القضية، وسعوا لطمأنته حيث هو فى السودان لا يزال، أو فى أى من دول الجوار، أو فى بيته الثانى بالقاهرة. ورغم ذلك، وبعد ذلك النقاش المهنى بقليل وجدت المتألقة «آية لطفى» تنفرد بحوار مع الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ليطمئن صديقى على مهنية «القاهرة» وليتأكد يقينى أنها نافذة إعلامية تمضى وبثبات نحو الهدف الصحيح.