رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلامتك يا عصفور .. صنع الله إبراهيم وأنسى الحاج.. خفايا التجربة الأنثوية

 

- كتابات صنع الله إبراهيم تحتاج للوعى قبل القراءة فهو لا يكتب حدوتة وإنما يسعى لتوثيق الواقع

- فى 1968 سافر صنع الله إبراهيم إلى بيروت كان محملًا بغبار المعتقل وصرخات الألم ويوميات الشجن والحزن بعد تجربة قاسية 

يعانى الروائى الكبير صنع الله إبراهيم من وعكة صحية منذ يومين، وهو خبر ثقيل على قلبى، فمن غير مرض أو ألم، فإن صنع الله إبراهيم طفل كبير بالنسبة لى، صورته تجبرنى على التعاطف معه، لم نلتق كثيرًا، لكنه سكن مكتبتى وقلبى وعقلى وكتبت عنه فصلًا كاملًا فى كتابى «يا جميل يا اللى هنا»، إذ كان يأتينى مصاحبًا لصوت محمد فوزى وهو يردد كلمات مأمون الشناوى:

ويلك.. ويلك 

ويلك يا مشتاق

من طول ليلك والأشواق 

غريب الدار 

حزين محتار يا ولداه.

وقد عاش صنع الله تجربة غريبة ومثيرة مع الشاعر أنسى الحاج ودارت فصولها فى بيروت حول «التجربة الأنثوية»، هذا طرف منها.

 

 

 

إن تأملته ستجده عصفورًا صغير الحجم، هادئ الصوت، خفيف الحركة بعينين زائغتين يبحث عن غصن شجرة يرتكن إليه، سبح بحورًا وطلع جبالًا وعبر سهولًا وطوى رمالًا، ولم يسترح على شاطئ.

فى ١٩٦٨ سافر صنع الله إبراهيم إلى بيروت، كان محملًا بغبار المعتقل وصرخات الألم ويوميات الشجن والحزن بعد تجربة قاسية كتب عنها عملًا كاملًا بعنوان «يوميات الواحات» استمرت خمس سنوات «١٩٥٩- ١٩٦٤»، لكنه اصطدم فى بيروت مع أنسى الحاج، وتكفل صديقه وزميله بوكالة أنباء الشرق الأوسط المرحوم فتحى القشاوى باستضافته حتى عثر على عمل.

عندما خرج صنع الله من المعتقل واتجه إلى بيروت كان يبحث عن تجربة مختلفة تمامًا تضيف إليه وتتيح له التحليق بأجنحة حرة بعيدًا عن ظلام المعتقل وبرودة لياليه، كان يريد عالمًا آخر يدخل إليه، ووجد ضالته حين وقع فى يده كتاب «نساء جديدات جريئات» الذى صدر عام ١٩٦٦، والذى تتنوع مواده بين القصة والرواية والمسرحية وتدور جميعها حول الجنس فى حياة المرأة من دون ابتذال رخيص، والنصوص جميعها مكتوبة فترة الخمسينيات والستينيات، حيث كانت المرأة تسعى لدخول منظومة التغيير التى اجتاحت العالم آنذاك، ومع إلغاء الرقابة على المسرح والنشر اندفعت المبدعات فى مختلف لغات العالم إلى تغيير نمط الكتابة بعد أن أصبحت المرأة أصلب عودًا وأكثر جرأة على التعبير وتجسيد لحظات المتعة وتحليل «الفعل» برؤية تأملية تخلو من الإثارة الرخيصة، واكتشف صنع الله أن محررة الكتاب اختارت نصوصها وفق هذا المعنى لتقديم أكبر قدر من التنوع فى تجارب الكتابة عن المرأة وتعاملها مع جسدها فى مراحل المراهقة، والإحباط، والخيانة، والغدر والهوس الجنسى، كما اختارت المحررة كاتبات أمريكيات وأخريات إفريقيات لتعكس نمط الضغوط السياسية والاجتماعية التى تتعرض لها المرأة حتى فى لحظات المتعة الخاصة جدًا، فكل متغيرات العصر التى تحل بالرجل تنعكس على حالته المزاجية فى أثناء اللقاء الجنسى، وكذلك المرأة تتسع عيناها بحجم الكون حين ترى الرجل عاريًا من الداخل!

شعر صنع الله بأنه عثر على الكنز المفقود، ورأى أن تقديم هذا الكتاب للقارئ العربى يفتح أمامه عالمًا آخر ليعرف أن المرأة ليست قطعة من اللحم الساخن أو البارد، وأنها قادرة على استيعاب كل ما يدور حولها فى العالم، وأن الجنس بالنسبة لها لم يصبح مجرد احتياج بيولوجى شهوانى لإشباع رغبتها بقدر ما هو بحث عن دفء ومحبة تتآلف معها وتعيشها، وكان الكتاب واحدًا من كتب قليلة حملها صنع الله معه إلى بيروت، حيث نزل فى ضيافة زميله بوكالة أنباء الشرق الأوسط المرحوم فتحى القشاوى الذى أحسن استقباله، إلا أن صنع الله بدأ يشعر بحاجته إلى المال حتى لا يكون عبئًا على مضيفه، وتفاءل عندما عرف أن الشاعر الكبير أنسى الحاج يرأس تحرير مجلة «الحسناء». يقول صنع الله إن الافتتاحيات التى كان أنسى الحاج يكتبها بأسلوب رشيق يتعمد إلهاب خيال المراهقات شجعه على اختيار مجلة الحسناء لنشر فصول من الكتاب، وبالفعل رحب الشاعر الكبير بالأمر، واختار عددًا من النصوص، وبدأ «صنع الله» فى ترجمتها لكن «أنسى الحاج» لم يلبث أن اعتذر عن عدم النشر وقال لصنع الله: «أنت تكتب لنا دعارة..»، وتوقف النشر، يقول صنع الله لكننى لم أتخل عن مواصلة الترجمة وكأنى فى رحلة لدراسة وفهم سلوك المرأة. وبعد كل هذه السنوات عاد صنع الله إبراهيم وأكمل ترجمة نصوص الكتاب وقرر نشرها فى كتاب عن دار الثقافة الجديدة ظهر منتصف التسعينيات بعنوان «التجربة الأنثوية.. مختارات من الأدب النسائى العالمى» واختفى الكتاب، ولم تعد طباعته منذ ذلك الوقت، لذا يُسقطه البعض من مؤلفات صنع الله إبراهيم رغم أهميته البالغة التى أشار إليها صاحب «اللجنة، وذات، وأمريكانلى، ونجمة أغسطس» فى مقدمته الطويلة التى يعترف فيها بأنه تردد كثيرًا قبل الإقدام على نشر هذا الكتاب الذى يتعرض لقضايا حساسة، فالشغل الشاغل للمثقفين العرب، آنذاك، كما يقول صنع الله، كان مواجهة القوى الإمبريالية من ناحية، والتخلف والرجعية من ناحية أخرى، ما دفع بالكثير من القضايا إلى مرتبة ثانوية، ومنها قضايا بالغة الأهمية مثل تلك المتعلقة بوضع المرأة، حيث انشغلنا جميعًا بقوى الظلام والردة، وتراجعنا أمام جحافلهم ولم نجرؤ على مناقشة القضايا التى انتهى منها العالم والتى تنقل البشر من درجات الشهوانية إلى مرحلة التفكير والتأمل. 

كتابات صنع الله إبراهيم تحتاج للوعى قبل القراءة، فهو لا يكتب حدوتة وإنما يسعى لتوثيق الواقع فى خيوط فنية قد تبدو جافة وعسيرة لمن يتعرف على كتاباته للمرة الأولى، فالخلفيات السياسية والاجتماعية هى التى تحرك الأحداث وترسم مصائر الأبطال، وفى أشهر رواياته كما فى غيرها هناك فاسدون وقتلة ودراما بائسة لأبطال ينحدرون مثل حجر صغير من فوق جبل كبير يسكنه أباطرة المال والسياسة وأصحاب شركات توظيف الأموال، حيث تجارة الأديان وتهجين المواطنين وتغيير سلوكياتهم ومصائرهم، لكنك فى التجربة الأنثوية لن تحتاج إلى ذهن متيقظ، تحتاج فقط إلى التخلص من الشهوانية وتأمل الجسد فى انفعالاته وغضبه ورضاه، فالكتاب يستعرض تجارب نسائية مكتوبة بشكل شخصى وتعبر عن مراحل مختلفة فى حياة المرأة وتاريخها الجنسى، فها هى ترتبط برجل فى الثالثة والثمانين، وعندما يسألونها عن السبب تجيب بطلة رواية «الحب بالشخص الثالث والثمانين» لجويس ألبرت: «.. كنت فى حاجة لبارنى، أحيانًا تحتاج النساء للذهاب إلى الفراش مع رجل لتتمكنّ من الانفصال قليلًا ونسيان رجل آخر..»! 

وهناك الأنثى التى لا تجد نفسها إلا فى إقامة علاقة جنسية مع رجل!، لا تجيد فعل شىء فى الحياة سوى إيقاع الذكور فى أنوثتها كما فى «يوميات زوجة غير مخلصة» للأيرلندية «أدنا أوبريان»، فالبطلة تجهل نفسها ولا تعرف سوى قدرتها على ممارسة المتعة بعيدًا عن العيون، تستمتع باختلاس الوقت وبأن أحدًا لا يكشف سرها وهى تصطاد فريستها: «كان الحب دائمًا يوجه حياتى، أعرف أن هناك مغامرات ليس أبطالها من الرجال، وليست حسية، لكن لا شأن لى بها، ليست لى، أريد دائمًا أن أحب، فالقبر هو البديل، العقل بالتأكيد يتدخل ويحدثنى عن الهدف من الحياة، وعن الأمومة والمسئولية، لا بد أن أعترف بأن الكثير من الآباء والأمهات جادون، وبالرغم من ذلك فإن الكثير من الأطفال تعساء!».

وهكذا وبتلك المقولة غرقت فى المتعة واستمتعت بالخيانة مع رجل آخر واستمرت فى علاقتها معه حتى انقطع عنها فجأة، فحاولـــــت الوصول إليه فلم تجد لديها معلومات عنه سوى موعد خروج ابنه من المدرسة، حيث كان يخبرها بأنه ذاهب لانتظاره فى الثالثة عصر كل يوم، لكنها لم تجده هناك، فتتأكد من أنه تركها بلا عودة ومن فشلها حتى فى هذا الفعل الذى تصفه بالقذارة، فتتوقف قليلًا لتتأمل ما حدث فتقول: «جرحت نفسى على حافة علبة كمثرى الصفيح، وتركت الجرح يتعفن، وبذلك رفعت من شأن نفسى فى عيون عائلتى وحقرت من نفسى فى عينى.. كم أنا كئيبة»، فتبحث عن السعادة من جديد فتجدها فى كوب شاى باللبن تتناوله فى البلكونة مع صغيرها الذى يصبح عالمها الممتع الجديد: «تناولنا أنا وجيرمى الحلوى والشاى وضحكنا، لا أريد أن يكون الأمس مثل الغد، أريد أن أعيش من أجل اللحظة، من أجل التجربة الخاصة التى لا تتكرر، قد تكون ضحكًا، حبًا، ألمًا، لذة، أو أى شىء.. أريد أن أكون حرة». 

المجتمعات بشكل عام لا تقبل بوجود الساقطات وتحتقرهن، لكن السقوط له معانٍ كثيرة، رواية «أهلًا بك» للكاتبة الأمريكية هارييت سومز التى كتبتها ١٩٦٦ تعكس تلك الفكرة من خلال فتاة ليل تعيش حياتها كما ينبغى لمحترفة مثلها تتنقل بين الرجال وتخرج من علاقة لتدخل أخرى، لكنها تدخل تجربة «الإجهاض» بعد أن تكتشف أن الألم الذى تشكو منه ليس ارتباكًا فى المعدة بل هو «جنين» فى أحشائها!، وتروى بالتفصيل تلك التجربة القاسية المؤلمة التى تدخلها مرة أخرى فى خطأ ندمت عليه كثيرًا، لكنها فى المرة الثالثة التى حملت فيها رفضت الإجهاض وضغوط المتسكعين فى الشوارع ونظرات الأصدقاء وراحت تتأمل ما يحدث داخلها: «كيف يمكن لامرأة أن تصور لكم، أيها الرجال الأغبياء، متلبدو الحس، متابعة العنكبوت الدقيق وهو يبنى من جديد نسيجه الذى حطمته الأمطار؟»، كانت تقصد هذا المعنى بالحرف، لذا قررت الاحتفاظ بذلك الكائن الذى أصبح جزءًا منها منذ استقبلته فى أحشائها برضا تام وبعد علاقة عاطفية أنكرها طرفها الثانى وتملص منها، ترفض كل الضغوط للتخلص منه وتتخذه صديقها ورفيق رحلتها الجديدة وتحكى له عما جرى: «فى الليلة التى أخبرت جيمى بأمرك، قال: ليس منى!، وتصايحنا واشتبكنا وصرختُ، وكنت أنت طوال ذلك الرعب تبنى نفسك داخلى هادئًا وادعًا كسمكة مشغولًا بنفسك.. أنت تبحر فى قنوات دمائى ملاحًا صغيرًا ونحن الآن، أنا وأنت، أنت وأنا أتعلم كيف أحب».

حتى الصغيرات يمكن لهن اكتشاف عالم الرجال الحقيقى مهما كان مظهرهم وتكوينهم الجسمانى، وفى رواية «أنا الغريبة الجميلة» تقدم الكاتبة الأمريكية روزالين دريسكلر فتاة تذهب إلى المخيم وهى تحلم بعائلة ثرية تتبناها وتتخلص من هذه الحياة، وهناك تلتقى رجلًا ضخم الجثة يعيش الحياة كما يهوى ومشهور وسط الجميع بقواه الجسمانية وجرأته فى العلاقات النسائية، وبملاحظات صغيرة تكتشف الفتاة الصغيرة أن كل هذا الظاهر أكاذيب، وأنه ليس شريرًا كما يظن الناس، وأنه ضعيف وتافه ووضيع فى أحيان كثيرة، وأنه عاش الحياة بلا هدف: مات تشارلى!، أهذا ما كبر من أجله ليكون جثة مراهقة؟!، لن يضطر إلى أن يثبت أنه قوى الشكيمة.. الموتى لا يرفعون إصبعًا أو قدمًا..».

وهناك نساء قد يمارسن الجنس لاكتشاف حجم الغيرة فى عيون المتلصصات، إهانة نظراتهن بإهانة أكاذيبهن عن العفة والشرف، وقد تجد إحداهن متعتها فى تأمل جسد الرجل بعد اللقاء، تونى موريسون الحاصلة على نوبل قدمت فى روايتها «سولا» نموذجًا لامرأة فائقة الجمال تعود إلى بلدتها بعد غياب، وربما تكون مفاجأة للبعض أن الروائى الكبير صنع الله إبراهيم كان أول كاتب عربى يترجم مقاطع من هذه الرواية قبل حصول مؤلفتها على نوبل، وذلك ضمن كتاب التجربة الأنثوية الذى صدر فى الثمانينيات.

كانت «سولا» بطلة الرواية تعرف بأنها منبوذة من الجيران، وأن القبيحات والعوانس يجدن متعة فى مضغ سيرتها وتعرف هى حجم علاقاتهن السرية، لذا لم تكن «سولا» تهتم بقليل أو كثير بلغطهن، فقط تسحب رجلًا إلى سريرها ويمضى بعدها: «وإذ ينفصل عنها جسد رفيقها تتطلع إليه فى عجب محاولة أن تتذكر اسمه، بينما ينظر إليها من علٍ مبتسمًا فى إدراك حنون لحالة المتعة التى يعتقد أنه أوصلها إليها!، وتنتظر هى بنفاد صبر أن يتحول عنها..»، كانت تذهب للمتعة كلما تيسَّر لها ذلك حيث يمكنها البكاء، فهو المكان الوحيد الذى تتخلص فيه من التعاسة ولو لدقائق، الرجال قتلة وخونة ومجرد عضلات حيوانية شبقة، هكذا تراهم بطلة الرواية، مثلما ترى العالم كله كذبة كبرى، لكنها تقع فى غرام جارها «جاكس» لم تكن تهتم بشأنه لأنه لم يغرز عينيه فى جسدها ولم يتفحصها كباقى الرجال، كان جاكس لطيفًا فى علاقته بوالدته وتعلم منها كيف يراعى مشاعر الأخريات ولم تكن رقته مع النساء إلا عادة اكتسبها من أمه التى كانت تمارس السحر ولا تبالى بأحد ولم تترك أمرها بيد شخص آخر، تمامًا مثلها، وربما تعلق «جاكس» بها أيضًا لنفس السبب، متعتها الحقيقية كانت فى حديثها معه، كانت لهما محاوراتهما، لم يتعال عليها، أو يحط من شأنها، ولم يكتف بأسئلة صبيانية عن حياتها، كان يصغى أكثر مما يتكلم وكانت تجد نفسها أصلب عودًا وأكثر قدرة على الشعور بالوجود، لكن أجاكس يختفى وتكتشف أن اسمه «ألبرت» وأنه الرجل الوحيد الذى حرصت على معرفة اسمه.