رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دور الثقافة فى حماية المجتمع

الحديث عن الثقافة ودورها فى حماية المجتمع وتقدمه يتوارى كلما ارتفع صوت الشعبويين، الذين يعتبرون المثقفين والمبدعين مجرد أشخاص منفصلين عن المجتمع ويقولون كلامًا «كبيرًا» لا يعنى أحدًا، ولكننا فى مرحلة من التاريخ يجب الإصغاء فيها إلى أصحاب الأصوات العاقلة التى تعرف قدر الثقافة وتعرف قدر مصر والتحديات التى تحاصرها، وأن نتعامل مع المثقف أو المبدع على أنه «رأسمال» يجب أن نستثمر وجوده وخبراته وقراءاته فى بعث النهضة الثقافية المصرية من جديد، التى لو تحققت، لتحققت النهضة فى كل المجالات. 

فى بدايات القرن العشرين كان يُنظر إلى مصر على أنها معلم الشرق، وسلمت الأجيال المتتالية الرسالة إلى بعضها، ونبغ شعراء وروائيون وتشكيليون ومسرحيون وسينمائيون ونقاد ومغنون ومقرئو قرآن، يشكلون حتى الآن عزوتنا التى نتباهى بوجودهم، رغم رحيل معظمهم، وفى اعتقادى أن هزيمة يونيو ضربت الوجدان المبدع فى مقتل، ولكنه تعافى بعد النصر المبين فى أكتوبر، وما إن بدأ يتألق ويواصل مسيرته التى بدأت مع جيل رواد النهضة، تم إطلاق الفكر السلفى والإخوانى، ليؤسس لذائقة صحراوية جافة أخذت فى طريقها مساحات خضراء من التسامح والرقة والعذوبة تميز بها المصريون طوال حياتهم، وتم وضع منتجى الثقافة فى مكان ناءٍ، يتم استدعاؤهم فى المواسم، ومع هذا لم يتوقف الإنتاج رغم الظروف الصعبة، وعدم وجود عائد أو مكانة فى المجتمع، كأن الجميع اتفق على المقاومة بمزيد من الإبداع.

الأحد الماضى فى الأهرام تحدث زميلنا محمود القيعى مع أربعة من رموز الثقافة المصرية المخلصين والموهوبين فى الوقت نفسه حول الموضوع، الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، أستاذى وصديقى، أكد أن الثقافة ليست فقط نشاطًا مهنيًا فحسب، بل هى عمل بين المنتج والمتلقى، إذا لم يقم المتلقى بدوره أو لم يتمكن من أن يقوم بدوره، فطبيعى أن تتراجع الثقافة، وهو يستغرب التراجع الذى وصلنا إليه «لأن هناك مؤسسسات قديمة وجديدة عملها هو النهوض بالثقافة ودعمها وتنميتها، والمحافظة عليها، ونشرها والدفاع عنها، وإنه برغم أننا نمتلك وزارة الثقافة، ودور النشر، والفرق المسرحية، واستديوهات السينما، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالى، والصحف، وأجهزة الاتصال والإعلام الأخرى، فإن الثقافة الآن ليست فى أحسن أحوالها، وأن هناك أمرًا آخر يدعو للاستغراب، وهو أن المصريين لم يفقدوا شيئًا من طاقتهم الثقافية»، يوجد مفهوم موسع وآخر محدود للثقافة، الأول يشمل كل ما فى الحياة من تعليم، مشرب، مأكل، زواج، طلاق، صداقة، محبة، فالحياة هى الثقافة، أما المفهوم الموجز فيعنى الفكر والإبداع، ويتساءل الناقد الكبير الدكتور محمد عبدالمطلب: «ما الذى يجعل ثقافة تعيش وأخرى تنقرض؟» ويجيب: «الثقافة تعيش عندما تجد مثقفين يفهمون معناها، ويتعاملون بها تعاملًا صحيحًا»، وأقول لأستاذى العزيز: يوجد مثقفون بالفعل ولكنهم مكبلون ولا أحد يهتم بمنجزهم، ويشاهدون بأسى دولًا لا تملك جزءًا ضئيلًا مما تمتلكه مصر من مبدعين، ولكنها تنفق ببذخ فى شراء الذمم بالجوائز والسفريات والمجلات والمهرجانات، لكى تظهر رعايتها للثقافة والإيمان بها. 

عبدالمطلب استعار مقولة الدكتور عبدالقادر القط «أحترم التراث ولكن لا أسكن فيه، وأحترم الوافد ولكن لا أذوب فيه» لكى يقدم وصفته الصادقة للنهوض بالثقافة المصرية، التى تتلخص فى الاستفادة من الوافد على ألا نذوب فيه، والنظر فى تراثنا القديم كله، ونأخذ منه ما ظل محتفظًا بشرط الثقافة، لأن الحداثة وضعت مبدأً مؤسفًا، وهو الدعوة إلى التخلص من القديم، ثم جاءت ما بعد الحداثة وقالت إن علينا أن ننهى هذا القديم تمامًا، وهو ما أدى إلى تغريب مجتمعنا بشكل كامل، ووجه الدعوة إلى وزارة الثقافة لاستعادة الحالة التى بدأت بها النهضة المصرية، وتمكين المثقفين الذين جمعوا بين الوافد الغربى والتراث القومى، ويخلص إلى أنه إذا فعلنا ذلك، يمكن للثقافة المصرية أن تستعيد ريادتها وتأثيرها مرة أخرى. 

وأكد أيضًا الدكتور سعيد توفيق والدكتور محمد بدوى أهمية دور الدولة وأهمية وضع استراتيجية للنهوض، ويرى الأول أن انقطاع مسار الوعى التاريخى ظاهرة تهدد بفقدان الهوية، مشيرًا إلى أننا نعايشها فى حياتنا اليومية حينما نلاحظ أن معظم الشباب يجهلون تاريخهم البعيد والقريب، فلا يعرفون شيئًا عن اللحظات المهمة والشخصيات البارزة التى أسهمت فى صنع هذا التاريخ، ولا يتذوقون شيئًا من أعمال الأدباء والفنانين العظام الذين شكلوا الوجدان المصرى، بل العربى، فى مرحلة تاريخية ليست بعيدة العهد، ويرى الثانى: أن هجمة الإخوان والسلفيين منذ الثمانينيات والتسعينيات أحدثت نوعًا من تديين المجتمع، ولم يعد الفنان قادرًا على الكتابة النقدية، لوجود محرمات ونظرة متدنية إلى الفن، وتحريمه تارة، وتجريمه تارة أخرى. 

مناقشة هذا الموضوع فى وسائل الإعلام ضرورية، وأعتقد أنه سيكون محورًا مهمًا على طاولة الحوار الوطنى فى الفترة المقبلة، مصر غنية بمبدعيها ومثقفيها، وإذا تعرَّف المواطن العادى عليهم.. لا شك أنه سيطمئن على مستقبل بلده.