رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ راغب مصطفى غلوش

الشيخ راغب مصطفى غلوش «١٩٣٨- ٢٠١٦» واحد من أجمل وأعذب أصوات مدرسة التلاوة المصرية، بدأ نجمه فى السطوع فى قريته برما والقرى المجاورة فى محافظة الغربية وهو فى الرابعة عشرة من عمره، بدأ مقلدًا الشيخ مصطفى إسماعيل العظيم، وقال فى حوار معه: «ووفقت لأن أجعل من وجود الشيخ مصطفى بمنطقتنا دافعًا ومثلًا أعلى فحاولت تقليده»، وغلوش هو أصغر قارئ قرآن تم اعتماده فى الإذاعة المصرية سنة ١٩٦٢، وكان عمره لا يتعدى ٢٢ سنة، وكانت لجنة الاعتماد مكونة من الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل والإذاعيين حسنى الحديدى ومحمد حسن الشجاعى. وقبل هذ الاعتماد، توجد للقارئ العظيم الذى تعلم فن التلاوة فى المعهد الأحمدى بطنطا حكاية تستحق أن تُروى، تقدم للتجنيد عام ١٩٥٨ وكان عمره ٢٠ سنة، وتم إلحاقه بمركز تدريب «الأمن المركزى» بالدراسة، وسمعه رئيس الوزراء الأسبق زكريا محيى الدين عندما كان يقرأ فى المعسكر فى إحدى المناسبات فأُعجب بصوته، وأصدر قرارًا بإلحاقه بمعهد القراءات، ليلتزم قائد وحدته بتنفيذ ذلك. كان غلوش يتردد على مسجد سيدنا الحسين القريب، وقدّم نفسه للشيخ المسئول عن المسجد وقتها، راجيًا منه أن يقرأ ولو آية واحدة فى الحسين، فقال له الشيخ بعد أن سمعه: إذا تأخر الشيخ طه الفشنى، مؤذن المسجد، يومًا فسيكون لك نصيب وتؤذن العصر وتقرأ، وذات يوم سنة ١٩٥٩ اقترب موعد الأذان وتأخر الشيخ الفشنى، فوقف غلوش بزيه العسكرى أمام الميكروفون وأطلق الأذان، ثم قرأ لمدة ربع ساعة فانقلب المسجد الهادئ إلى سرادق، وتوافد عليه الناس واستحسنوا صوته وأشادوا به وبموهبته، كان هذا اليوم هو بداية مشواره الحقيقى مع التلاوة، حيث سلّمه القائد مسجد المعسكر حتى نهاية خدمته، وبات يخرج للقراءة كلما تيسر فى الحسين، وذاع صيته فى القاهرة، وبدأ يقرأ فى السرادقات، وزامل مَثَله الأعلى مصطفى إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود خليل الحصرى وغيرهم من مشاهير القراء. كان مدير الإذاعة محمد أمين حماد، آنذاك، من رواد الحسين، أُعجب به وحدد له موعدًا فى اليوم التالى، وأحسن استقباله، وحدد له موعدًا للاختبار قبل نهاية مدة خدمته العسكرية، ويحكى غلوش: «حسب الموعد ذهبت إلى الإذاعة ليتم اختبارى أمام اللجنة ووجدت هناك حوالى ١٦٠ قارئًا، فظنوا أنى ضمن الحرس لأننى كنت أرتدى الزى العسكرى، فقلت: أنا زميل لكم وعندى امتحان مثلكم، فتعجبوا». عندما أنهى غلوش خدمته العسكرية وعاد إلى قريته «برما»، وجد الناس ينتظرونه ويستقبلونه بالأحضان، فسألهم: هو إنتو عمركم ما شفتوا عسكرى أدى الخدمة؟! فقال له مستقبلوه: تم قبولك فى الإذاعة وصورتك واسمك فى كل الجرايد بالخط العريض، «شاويش يدخل الإذاعة»، «شاويش ومقرئ»، كان اعتماد مقرئ جديد خبرًا صحفيًا، تهتم به الصحف، ويهم القراء!، بعد ذلك تم تعيينه فى مسجد أسد بن الفرات فى الدقى فى وظيفة قارئ السورة. وفى يوم قرأ فى مسجد المرسى أبوالعباس بالإسكندرية، وكان الرئيس السادات يصلى الجمعة هناك، فأُعجب به، وتاريخ السادات مع المقرئين كان حافلًا وعرف أنه كان سمّيعًا وعلى علاقة شخصية بمعظم المقرئين، أرسل له سكرتيره الخاص فوزى عبدالحافظ وطلب منه الذهاب إلى استراحة الرئيس، وهناك طلب الشيخ من السادات الانتقال للقراءة فى مسجد سيدى إبراهيم الدسوقى فى دسوق، فوافق وأصدر تعليماته للدكتور زكريا البرى، وزير الأوقاف آنذاك، بنقله، على أن يتقاسم الوقت مع قارئ المسجد المعتمد. ظل محافظًا على قراءة السورة كل يوم جمعة بمسجد إبراهيم الدسوقى فى كفرالشيخ، سنوات طويلة، رغم إقامته فى القاهرة، وكان حريصًا على ذلك بشدة. 

وصدر خلال التسعينيات قرار بمنعه من القراءة بمسجد إبراهيم الدسوقى، بعد خلافه مع محافظ كفرالشيخ الذى كان يتحدث مع معاونيه أثناء قراءة القرآن فى يوم الجمعة، وطلب منه الشيخ أن ينصت للقراءة، فلم يستجب، فما كان من الشيخ إلا أن صدّق ولم يُكمل القراءة. 

مع التقدم فى العمر وكثرة القراءة تخلص من تأثير الشيخ مصطفى عليه، وشق لنفسه طريقًا خاصًا، جمع بين عذوبة الصوت والخشوع وعدم المغالاة فى التعبير، وتسجيلاته المتأخرة كشفت عن قلبه الأخضر العامر بمحبة كتاب الله، أحبه العامة والخاصة، استضافه ملوك وأمراء العرب، وسافر إلى بلدان كثيرة حول العالم، وسجل القرآن المرتل كاملًا لإذاعة الكويت، وهذا التسجيل لم يُذع فى إذاعة القرآن الكريم، وأعتقد أن الأشقاء فى الكويت لن يتأخروا فى إهدائه إلى الإذاعة المصرية لو طلب إليهم هذا، وتوجد تسجيلات كثيرة لم تُذع فى مصر لقراء عظام، مثل محمود على البنا وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود عبدالحكم وشعبان الصياد وغيرهم، موجودة فى الإمارات والكويت والعراق وليبيا والمغرب والجزائر، ولن يعترض أحد لو طلبناها منهم.. الشيخ غلوش وحمدى الزامل والشحات أنور والطبلاوى وغيرهم من جيل الوسط فى مدرسة التلاوة المصرية، أصحاب فضل كبير علينا، والاهتمام بجمع تراثهم ونشره بين الناس مسئولية عظيمة يجب أن يتصدى لها الجميع.