رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عطر امرأة».. أن ترفض فيلمًا فيأتيك بالأوسكار

 

طوال ما يقرب من الخمسين عامًا كان نجم هوليوود الأشهر آل باتشينو واحدًا من أعمدة فن التمثيل فى كل من السينما والمسرح الأمريكيين، مع تصنيفه كواحد من أعظم الممثلين الأحياء على الإطلاق، ورغم ذلك لم يفز بجائزة «الأوسكار» التى كان يحلم بها مثل كل نجوم هوليوود إلا مرة واحدة ووحيدة فى عام ١٩٩٢، وعن دوره فى فيلم لم يقبل به فى البداية..

هذه حقيقة محيرة جدًا، فقبلها فاز آل باتشينو بجائزة «بافتا»، والعديد من جوائز «جولدن جلوب»، وجوائز أخرى لا حصر لها، ومع ذلك، كان هناك شىء محير جدًا بالنسبة لجائزة الأوسكار، وهو أنه على الرغم من ترشحه لها تسع مرات، إلا أنه لم يفز بها إلا مرة واحدة عن فيلم مارتن بريست «عطر امرأة»، الذى صدر قبل ما يزيد على الثلاثين عامًا من الآن، بعد مشوار طويل ملىء بترشيحات الجائزة الكبرى وعدم الفوز بها، إذ كان ترشحه الأول للجائزة عن دوره فى الجزء الثانى من ثلاثية «الأب الروحى»، أى قبلها بنحو عشرين عامًا.

وربما لا يعرف الكثيرون أن الفيلم كان المخطط فى البداية أن يقوم ببطولته النجم سيلفستر ستالونى، للاستفادة من دوره فى الجزء الأول من سلسلة «رامبو»، الذى يتضمن خدمته فى قاعدة «فورت براج» العسكرية الأمريكية، وهى ذات القاعدة التى خدم بها الكولونيل فرانك سليد قبل فقدانه بصره، ويأتى ذكرها ضمن مشاهد العشاء فى منزل أخيه، لكن ستالونى لم يقبل الدور، بل ورفضه آل باتشينو أيضًا عندما عُرض عليه لأول مرة، واضعًا فى اعتباره طابورًا طويلًا من النجوم الذين اعتذروا عنه قبله، ومنهم جاك نيكلسون الذى كان الاختيار الأول للمخرج والإنتاج، وهاريسون فورد، وداستن هوفمان، وجو بيسكى، لكنه امتثل لنصيحة وكيل أعماله على مضض، واعترف بعد ذلك بدور وكيل أعماله فى جعله يعيد النظر فى قبول الدور الذى جاءه بكل جوائز الدنيا وفى مقدمتها «أوسكار أحسن ممثل».

الطريف أن ليوناردو دى كابريو كان قد تقدم لاختبارات الأداء لدور مرافقه الشاب تشارلى سيمز الذى فاز به كريس أودونيل، ومثله عدد لا بأس به من النجوم مثل بن أفليك ومات ديمون وبريندان فريزر وكول هاوزر وراندال باتينكوف وأنتونى راب وكريس روك، وتم رفضهم جميعًا.

وقال كريس أودونيل إنه عندما طلب الإنتاج التصوير فى فندق «مانهاتن بلازا»، الذى كان يملكه دونالد ترامب، اشترطوا عليهم ظهور ترامب ورفيقته مارلا مابلز، قبل زواجهما، وتم تصوير المشهد بالفعل، حيث ظهر ترامب وزوجته المستقبلية يخرجان من سيارة ليموزين فى لحظة وصول فرانك سليد وتشارلى ونزولهما من ليموزين أخرى عند مدخل الفندق، ولكن تم قص مشهد ترامب فى النهاية.

والحقيقة أننى أحب أن أقول لمن لم يشاهد هذا الفيلم: «لقد فاتك الكثير»، ففى هذا الفيلم «عطر امرأة»، ذهب آل باتشينو إلى أبعد الحدود الممكنة فى فن التمثيل، وهو الفيلم الذى اكتسب خلوده فى الذاكرة من «مونولوج» استثنائى له فى قاعة المدرسة، قبل مشهد النهاية بقليل، ورقصة «تانجو» مذهلة لا يمكن تصور أن يؤديها غيره، ولا يجوز نسيان أىٍ من تفاصيلها، بداية من ملاحظته عطر «دونا»، الفتاة التى تجلس وحيدة فى طاولة بعيدة فى انتظار حبيبها، وصولًا إلى ذلك الحوار القصير الذى دار بينه وبينها، وحتى موسيقى الرقصة التى تحولت بين ليلة وضحاها إلى واحدة من أشهر الجمل الموسيقية حول العالم، ووصول من كانت تجلس وحيدة فى انتظاره.

وإن كنت لم تدرك ما «عطر امرأة» عندما شاهدته أو كنت لم تشاهده بعد؟ فدعنى أقل لك إنه باختصار شديد نظرة شديدة العمق إلى كيفية تعاملنا مع المآسى غير المتوقعة، تلك التى تحل بنا طوال الحياة، والتى تأتى فى غير موعدها، وهو عن الأضرار التى قد تضربنا من عدم القبول بتلك المآسى المفاجئة ومصاحبتها، أو ما قد تتعرض له صحتنا العقلية بسبب ذلك الرفض.

يتناول الفيلم كيفية تعامل البشر مع نكسات القلب وانكساراته المؤلمة، خصوصًا تلك التى لا يكون سببها الجانب الرومانسى أو العاطفى، ولكنها تنجح فى تحطيمه أكثر من أى شىء، ويقدم فيه آل باتشينو أداءً غير اعتيادى لرجل قوى، مثقل بتغير جوهرى يقلب حياته «فقدان البصر»، ولكنه يجب أن يتقبله ويتعامل معه، وما يحدث له عندما يحاول أن يقاوم ذلك التغير أو الحمل الذى ألقته عليه الحياة، ولا يمكنه التحكم فيه.

يتتبع الفيلم قصة تشارلى سيمز، الشاب الذى ينتظم فى الدراسة بمدرسة مرموقة، عن طريق منحة دراسية، ويتطلع للالتحاق بالجامعة بمنحة أخرى، ولكى يتمكن من شراء تذكرة رحلة لقضاء إجازات رأس السنة مع أهله، يتولى مهمة رعاية الكولونيل المتقاعد فرانك سليد، وهو من قدامى المحاربين الحاصلين على جوائز عالية، فقد بصره إثر انفجار قنبلة يدوية خلال تباهيه أمام جنود أصغر سنًا، ولأنه غير قادر على التعامل مع طريقة حياته الجديدة، يصاب بالاكتئاب، ويلجأ إلى إدمان الكحول، والتعامل بعنف وسخرية وصلف مع كل من يوقعه سوء حظه فى طريقه.

عندما يذهب تشارلى لأول لقاء له مع سليد تقول له ابنة أخيه التى يقيم معها، وتريد أن يرافقه خلال رحلتها لقضاء إجازة أعياد رأس السنة مع عائلة زوجها، إنه سوف يتأقلم معه بسرعة، وسوف يكون أجره عن مرافقته تلك مالًا سهلًا، لكنها لا تعرف ما يدور فى ذهن عمها، ولا ما يخطط له، لا تدرى أن الكولونيل المتقاعد يمر بمرحلة شديدة السواد من حياته، يصعب فيها التعايش معه، لدرجة تصل إلى الاستحالة، فترة ينوى فيها الانتحار بعد رحلة إلى مدينة نيويورك يحقق فيها أحلامه المؤجلة كلها، أو يغتنم فيها لحظات من الفرح الأخير.

ما لم تكن تعرفه أن عمها، الكولونيل المتقاعد فرانك سليد، لديه خطة خاصة جدًا لعطلة عيد الشكر، تشمل السفر، وقضاء وقت ممتع مع أحب المخلوقات إليه «النساء»، وتناول كل ما يمكنه من طعام جيد ونبيذ فاخر، وتدخين السيجار الكوبى المخصوص، واقتناص كل ما تمنحه له الحياة من مبهجات، رقصة تانجو مع فتاة صغيرة، وقيادة السيارة التى طالما كان مفتونًا بها «فيرارى»، استئجار سيارة «ليموزين» مع سائقها طوال فترة وجوده فى المدينة.

ومع استمرار الفيلم، يحاول سليد الانتحار، ويحاول تشارلى إقناعه بأنه لا يزال لديه الكثير ليعيش من أجله، بينما هو غارق فى مواجهة أزمة ربما تؤدى إلى فقدانه منحته الدراسية، ولكنه يترك الأمر فى يد زميله الثرى المعرض لعقاب أقل بمراحل كثيرة.

هكذا.. طوال الفيلم نرى سليد وهو يعانى من مرارة الغضب من نفسه لدوره فى فقدان بصره، بينما يكافح الشاب تشارلى سيمز فى التفكير فيما يجب أن يفعله حيال الموقف فى مدرسته، ما يضعنا أمام قصة حول رجلين فى مرحلتين مختلفتين من الحياة، يعلمان بعضهما البعض دروسًا فى كيفية التعامل مع منغصات الحياة، والقدرة على النجاة والبقاء والاستمتاع بما نملك وعدم التفريط فيه.