رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر مصر الباتع

لو لم تكن هناك ميزة لمسلسل «سره الباتع» سوى أنه مأخوذ عن قصة ليوسف إدريس لكفاه ذلك فخرًا.. ذلك أن الأعمال الأدبية الكبرى تظل واحدًا من أفضل منابع الدراما الحية إذا أحسن تحويلها من لغة الكلمة إلى لغة الصورة والحوار التليفزيونى.. فما بالنا إذا كان العمل لسيد القصة القصيرة فى العالم يوسف إدريس أو لنجيب مصر ومحفوظها نجيب محفوظ.. إذن نحن إزاء سنة حسنة ندعو الشركة المتحدة لتكرارها فى قادم الأعوام بحيث يكون لدينا مسلسل أو أكثر مستوحى من عمل أدبى كبير لقامة فى هذا المستوى الأدبى.. لقد عدت إلى الأعمال الكاملة للدكتور يوسف إدريس لأقرأ قصة «سره الباتع» وهى قصة قصيرة صدرت ضمن مجموعته المبكرة «حادثة شرف» التى صدرت طبعتها الأولى فى ١٩٦٢ فى مرحلة توهجه الأدبى وعطائه الغزير لفن القصة القصيرة الذى استحق عنه بحق لقب تشيكوف العرب.. فى هذه القصة التى لا تتجاوز تسع صفحات يروى كاتب القصة بضمير المتحدث علاقته بـ«السلطان حامد» أو بضريح السلطان حامد.. إن الراوى هنا يشبه يوسف إدريس فى ظروفه الشخصية.. طفلًا متعلمًا فى قرية ذات ثقافة تقليدية.. إنه يوسف إدريس نفسه الذى تركه والده فى كفالة جدته فى قرية البيروم- شرقية.. فتشرب منها فن الحكى وتراث الريف المصرى من الأساطير وقادته عبقريته المبكرة إلى فهم الشخصية المصرية والتعبير عنها كأروع ما يكون التعبير.. إن هذا الراوى المتعلم ابن الثقافة الحديثة يروى قصته مع السلطان حامد صاحب الضريح فى قريته والذى كان جده يؤمن بكراماته وينذر له النذور.. وهو يظل مشغولًا به ويسأل عنه مدرسًا عجوزًا فى القرية يمثل العلم التقليدى فيخبره بأنه لا يوجد شخص اسمه السلطان حامد ولا يحزنون، وأن الأمر كله تأليف فى تأليف.. يكبر الراوى ويعمل طبيبًا فى الإسماعيلية فى الخمسينيات وهناك يقابل سيدة غربية من هواة السفر حتى إنه يسميها «مسز ناسيونال» أو السيدة عابرة الحدود أو الدولية.. تطلعه هذه السيدة على سر السلطان حامد من خلال مخطوطة فرنسية كتبها عالم مصاحب للحملة الفرنسية هو «كليمان» ونعرف من المخطوطة أن حامد فلاح مصرى أخذ بثأر صديق له قتله الفرنسيون وأنه تحول من شخص إلى رمز أو إلى معنى.. ففى يوم محاكمته ثار الفلاحون وحرروه.. وأنه أصبح رمزًا للمقاومة.. حتى ظفر به ضابط فرنسى كان يعرف شكله وقتله.. لكن قبره تحول لمقام ورمز للمقاومة.. وكما يقول يوسف إدريس فى قصته على لسان «كليمان».. وما كادت قواتنا تتنفس الصعداء- رغم كل الاعتداءات التى حدثت- بعد مصرع السلطان حامد، حتى جاءتنا أنباء لم نكن ننتظرها.. فالفلاحون لم ينقلوا حامد من المكان الذى لقى مصرعه فيه أبدًا، ظل فى مكانه لم يلمسه أحد، وفى ظرف ثلاثة أيام كانوا قد بنوا فوقه ضريحًا ذا قبة عالية.. ووفق رواية القصة فإن توحد المصريين حول السلطان حامد يثير جنون القائد كليبر «بعد أن أدرك أن مقتل حامد لم يغير شيئًا، كل ما حدث أن حامد بعد أن كان اسمًا تتناقله الأفواه.. أصبح حقيقة لها مكان وفوقها قبة عالية».. وهكذا ينبش كليبر قبره ويمزق جثته ويوزعها فى أنحاء متفرقة من الدلتا.. لكن المفاجأة أن كل جزء من السلطان حامد يثمر ضريحًا مستقلًا.. يتحول السلطان حامد إلى أسطورة وكأنه أوزوريس جديد.. أوزوريس هو إله المصريين القديم الذى مزق أخوه ست جسده إلى أشلاء لكن زوجته إيزيس تجمع أشلاء الجسد من جديد.. هذا هو ما أراد يوسف إدريس أن يقوله لنا.. إنه يكتب عن السلطان حامد الذى هو الفلاح المصرى بعين مثقف فرنسى.. يرينا إدريس ما لا نراه فى أنفسنا من مواطن القوة.. يرينا أن قوتنا فى وحدتنا ويكتب على لسان العالم الفرنسى كليرمونت «إنهم ليسوا شعبًا.. إنهم كتلة.. وكتلتهم كانت قد التفت تمامًا حول حامد.. حتى غدا الجنرال- مهما يكن الجنرال- قزمًا إلى جواره.. تنتهى القصة بانجذاب المثقف الفرنسى ابن الحضارة الغربية لهذه الطاقة الروحية الفريدة للمصريين.. فهو يترك كل شىء ليصبح مريدًا من مريدى السلطان حامد الذى يملك قوة الروح فى مواجهة قوة المادة التى عبرت عنها الحضارة الفرنسية والتى يعبر عنها قائلًا «ما فائدة البنادق والرصاص؟ ما فائدة القتل فى قوم يحيون قتلاهم وموتاهم؟.. فى قوم يخلقون من الميت الواحد مئات الأحياء.. ويخلقون لكل حى بعد هذا آلاف الأحياء.. انتهت اقتباساتى من رائعة يوسف إدريس التى لا غنى عن قراءتها كاملة «هى متاحة مجانًا على شبكة الإنترنت».. ولا بد أن أختم بتحية الشركة المتحدة على حماسها لإنتاج عمل مأخوذ عن هذه القصة الرائعة ليس فقط لمستواها الفنى الرفيع.. ولكن لمضمونها الوطنى والحضارى وإشارتها لسر عبقرية المصريين وقوة الروح المصرية.. إنها قصة تختصر قصة المصريين من عهد إيزيس وأوزوريس وحتى اليوم.. مرورًا بقصص الأولياء والصالحين الذين لم يكونوا سوى مقاومين للاحتلال حولتهم شجاعتهم لأولياء.. تمامًا مثل السلطان حامد.. منهم مثلًا السيد أحمد البدوى الذى أرهقت شجاعته جنود الحملة الصليبية التاسعة على دمياط.. وخلدها المصريون بشعار «الله.. الله يا بدوى جاب الأسرى».. لأنه تخصص فى عبور نهر النيل للجانب الآخر والعودة بالأسرى الفرنسيين.. ومثل السيد البدوى يوجد آلاف الأولياء الذين توحد حولهم المصريون.. بعضهم جسد وبعضهم فكرة.. بعضهم حقيقة ملموسة وبعضهم رمز من رموز الوجدان.. بعضهم اسم وبعضهم معنى.. ولكن الأكيد أن كل هؤلاء هم أعمدة البنيان المصرى.. وحراس المحروسة وحماتها.. تحية للشركة المتحدة على إقدامها على إنتاج عمل مأخوذ عن هذه القصة الرائعة فنيًا ووطنيًا وحضاريًا ووجدانيًا.. وأطلب منها تكرار التجربة فى كل عام إذا تيسر.. فنحن فى حاجة لكى نعرف سر مصر الباتع.. والباتع هو طويل الرقبة أو قوى المفاصل وشديدها.. وسر مصر باتع بكل تأكيد وعنقها طويل يطاول السماء ولن ينحنى أبدًا بإذن الله.