رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"لغز الفتى عداس".. "الدستور" تنشر فصلًا من كتاب أشرف عبدالشافي الجديد

أشرف عبد الشافي
أشرف عبد الشافي

تنشر “الدستور” فصلًا من كتاب أشرف عبدالشافي الجديد، "اسمي أشرف" بعنوان "لغز الفتى عداس".

ويقول أشرف عبدالشافي: 

"اسمى أشرف كما تعلمون، وكنت صغيراً جداً حين رسمت صورة للرسول صلى الله عليه وسلم فى خيالى، وهو يرتكن بظهره إلى سور حديقة، ويبكى بكاءً يتقطع له القلب وتنتفض معه الروح ، كان وحيداً هناك فى الطائف التى ذهب إليها محزونا فقذفوه بالطوب والحجارة، بكى نبى الله، إذ أخذه على نفسه الحنان، فهو منذ ولد حتى هذا اليوم ـ يوم الطائف ـ أى طوال ثمان وأربعين عاما يعيش بين الناس فى مهرجان حافل بالمحبة والحفاوة والاحترام، وهاهو اليوم يلقى الذى يلقاه من سفهاء ثقيف الذين لاحقوه فأدمى الصخر قدميه الشريفتين فآوى إلى بستان وأسند ظهره لشجرة وبسط كفيه إلى السماء يناجى ربه محزونا متضرعا مبتهلاً كما لم يبتهل بشر من قبل :

" اللهم أشكو إليك ضعف قوتى 

وقلة حيلتى وهوانى على الناس 

يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين 

وأنت ربى ،إلى من تكلنى .. 

إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمرى 

إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى 

لك العتبى حتى ترضى .."

رسم خيالى الصغير صورته على هذه الحال من الحسرة والألم حتى هلّ نور “عدّاس”، حاملاً بين كفيه عنقود عنب أرسله به صاحبى الحديقة “عتبة وشيبة ”، وهنا ارتسمت ملامح “عدّاس” أمام عينى؛ فرأيته هو ينحنى على النبى يقبله ويضمه ويبكى معه، فهذا الرجل ليس كالرجال؛ إنه نبى، وما فى قلب الفتى “عدّاس”" شك فى تلك الحقيقة التى لمسها وشعر بها تسرى فى بدنه فراح يقبل يديه ويجفف دموعه ويرفع التراب عن ثوبه.

 عدّاس الغلام النصرانى كان بالنسبة لى فى هذه اللحظة أهم من مساندة عشرات الصحابة فيما بعد، فلولاه لانفطر قلب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحيداً هناك وظلت مرارة القسوة فى حلقه، غلام فقير أجير ينتصر لنبى الرحمة، يقول ابن هشام فى السيرة النبوية إن عدّاس أضاء وجهه فور أن تقدم إلى النبى وشعر بتعاطف كبير مع الرجل المهيب الذى يبكى رافضا الانتقام الإلهى بضم الجبلين على الطائف وأهلها، عطايا الله كلها تجسدت فى هذا الغلام المسكين ،عدّاس لم يقبل يدىّ النبى ويتعفر بردائه فقط لكنه أعطاه بشارة جديدة كان النبى فى أشد الحاجة إليها ، فهو ليس محزونا مما فعل سفهاء الطائف فقط ، لكنه خارج من أزمة عاصفة ، أزمة أوجعت قلبه واستمرت تتوالى أهوالها فى عام كامل من الحزن هو الأكثر درامية ومأساوية فى تاريخ الأنبياء، فقدّ فيه أغلى ما يملك من سند ومحبة ودفء وحماية، وفقدت فيه قريش صوابها ولم تخجل من ملاحقته واقتراف إهانات صغيرة وهابطة ضد هذا الذى كانت تتحدث عن فضائله وتتعامل معه قريش كلها كأميرها وسيدها رغم حداثة سنه ،هاهى ذى تغرى به سفهائها فيلقون عليه التراب والروث وتنحنى ابنته فاطمة باكية وتميط عنه الأذى فيجفف دمعها فى صبر:" لا تحزنى يا بُنيه فإن الله مانع أباك".

ويتوحش قساة القلوب وينادى مناد بينهم بمقاطعة بنى هاشم وعزلهم عن الحياة وصبّ العذاب والأذى على كل من يؤمن برسالة محمد، وتأوهت الصحراء لجسد بلال بن رباح العارى على صهد رمالها وصخورها ، “واصبر لحكم ربك” فيأمر أصحابه  بالهجرة إلى الحبشة راضيا أن يبقى وحده صابراً محتملاً مفكراً فى مخرج للدعوة ، فكانت الطائف التى أدمعت قلبه ولم يجد فيها بعد كل هذا الضيق سوى انفراجة (عدّاس) فى وجهه الكريم.

تقدم عدّاس بطبق العنب والبشارة الكبرى والأهم : (.. فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده ، قال : بسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس فى وجهه ، ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن أهل أى البلاد أنت يا عداس ، وما دينك ؟ قال : نصرانى ، وأنا رجل من أهل نينوى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ، فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخى ، كان نبيا وأنا نبى ، فأكبّ عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.).

تلك اللحظة وهذا المشهد كشفا عن نوع من البشر يدخرهم الغيب من أتباع عيسى عليه السلام :" ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل الله تفيض أعينهم من الدمع..) 

هكذا تروى كتب السيرة وينقل عنها خالد محمد خالد فى “عشرة أيام فى حياة النبى”، وعشرات من الكتب تحدثت عن الواقعة ، لكن أحداً لم يقل لنا أين ذهب عدّاس بعد ذلك ؟!، وهل بحث النبى عنه فيما بعد ؟ هل تجاهلت كتب السيرة تتبع سيرته ؟!،مسكين هذا الفتى ، صحيح  أن المصادر جميعها تؤكد أن  الغلام عاد إلى صاحبى الحديقة وقال لهما إنه قبلّ يدى الرجل وقدميه لمّا رأى فى وجهه من خير، وقال لهما إنه أخبره بما لا يعلم إلا الأنبياء، فقالا له : ويحك يا عداس ، لا ، يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه.) ، لكن سيرة عدّاس اختفت بعد ذلك، ورأيت أن أبعث إليه بتحية تقدير وإجلال .