رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف قاوم المصريون الحملة الفرنسية؟.. مشاهد البداية (1)

(1)

الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م... حدث تاريخى هام وضعه كبار المؤرخين كحدٍ فاصل فى تاريخ مصر بين مرحلتين مختلفتين تماما، مرحلة العصور الوسطى بظلامها الحضارى، ومرحلة العصور الحديثة! رآها البعض كحملة صليبية أوروبية جديدة ضد بلاد الشرق المسلم وقادها زعيم أوروبى حالم بتكوين إمبراطورية استعمارية جديدة وفى سبيل ذلك لجأ إلى ما أسماه لاحقا قطعة من الدجل الراقى، وهو خطابه الأول للمصريين الذى زعم فيه إسلامه وأنه جاء مخلصا للمصريين من ظلم المماليك والعثمانيين! ورآها آخرون أنها صدمة حضارية عنيفة كانت لازمة لإفاقة الأمة المصرية وإخراجها رغما عنها من حالة الاستسلام للتخلف والجهل والخرافة والظلام، وأن تلك الأمة كان لزاما عليها أن تدفع ثمن هذه الإفاقة القسرية! سقط مؤرخون كُثر فى فخ تديين التاريخ الحضارى فانحازوا لمستعمر ضد مستعمر فقط من أجل الديانة! 
غطت الأمة المصرية فى قرونٍ طويلة من الصمت والسكون الحضارى والعزلة التى فرضها عليها محتلون ساموا أبناءها القهر، حتى فوجئت تلك الأمة بأسطول فرنسا على سواحلها! ثلاث سنوات فاصلة حاسمة اكتظت بآلاف الوقائع والمشاهد المتتالية كرواية دراماتيكية لعب أدوار البطولة بها أربعة أطراف متناحرة، الغزاة الفرنسيون، المحتلون الخليط من عثمانيين ومماليك، المصريون وبلادهم التى كانت بمثابة الغنيمة التى يتصارع عليها الضباع، وأخيرا المنافسون التقليديون آنذاك للغزاة وهم الإنجليز الذين قاموا بأهم مشاهد النهاية حين سحقوا الأسطول الفرنسى وكتبوا النهاية الحزينة لأحلام بونابرت بينما فتحوا الأبواب على مصراعيها للمصريين لدخول العصور الحديثة!
تصرف كل طرف من هذه الأطراف حسب ما رآه يصب فى مصلحته، وحسبما امتلك من أسباب القوة سواء قوة لوجستية أو عسكرية أو علمية. وما يهمنا هنا هو الطرف المصرى الذى جابه موقفا مفاجئا كان أبعد ما يكون عن الاستعداد لمجابهته، فتباينت مواقفه بين الصمت المترقب، أو المداهنة الإجبارية، أو الانفلات العشوائى! بلغ هذا الطرف من التيه والشرود مرحلة يصف فيها الجبرتى ما نسميه بثورة القاهرة قائلا (وصادفتنا فتنةٌ، لم نكن بها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء!)
كان يمكن لأحداث هذه السنوات الثلاث الحاسمة أن تظل ضبابية لولا أن طرفين من الأطراف المتصارعة كانا مهتمين بفكرة التوثيق الأكاديمى والتسجيل اليومى للأحداث. جاء الفرنسيون بصحبة كوكبة من العلماء متعددى التخصصات، فقام هؤلاء ومنذ أن وطأت أقدامهم أرض مصر بتسجيل كل شىء صادفوه وقاموا بأول تعداد رسمى للسكان والممتلكات، كما تركوا سجلات للحالة التى وجدوا عليها مصر والمصريين، بدءًا من الملبس والمأكل والتعليم وصولا للعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد والطقوس الدينية، ثم نظموا كل ذلك فى واحدٍ من أعظم مؤلفات العصر الحديث وهو موسوعة وصف مصر! ثم كانت خطابات القادة والجنود لذويهم والتى تم تجميع كثيرٍ منها ونشرها فى مؤلف علمى مؤخرا. أما المصريون، فقد ناب عنهم أحد أهم متعلميهم وهو الجبرتى فى كتابة يوميات للأحداث غارقة فى كل التفصيلات حتى يصبح من يطالعها وكأنه يعايش أحداث الحملة! ندين لهذه المؤلفات الثلاثة ببالغ الفضل لأنها نقلت لنا مجتمعة صورة أقرب للحقيقة عما حدث!
كيف جابه المصريون هذا الحدث الجلل؟ لكى نفهم إجابة هذا التساؤل ونضع خط سير سلوك المصريين فى موضعه الصحيح العادل يلزم لنا – وقبل مشهد البدء فى الإسكندرية – أن نفتح الستار قليلا لنرى كيف آل حال المصريين إلى ما سنراه! ماذا حدث للحالة القومية المصرية سابقا وكيف تم إعادة صياغة العقل الجمعى المصرى والروح المصرية حتى صارت إلى ما صارت إليه أثناء السنوات الثلاثة!

(2)

متى عرفت مصر (الشعور الوطنى) المكون لما يسمى الوطنية المصرية المرتبطة بالأرض؟
لدينا وثائق قديمة بقدم الدولة القديمة فى الألفية الثالثة قبل الميلاد تتحدث عن الدفاع عن الحدود المصرية الشرقية، ولهذه الغاية تكون الجيش الوطنى المصرى الأول فى التاريخ.
ترسخ هذا الشعور الوطنى وتغلغل فى نفوس المصريين لمدة تربو على ثلاثة عشر قرنا، حتى الغزو الأجنبى الأول وهو الهكسوس الذى كان سببا مباشرا فى توهج مشاعر القومية المصرية ودفع حكام (واسِت) أو الأقصر لشن حرب تحرير وطنية صريحة انتهت بتحرير كامل أرض مصر وتكوين مملكة تحمى حدودها بالسيطرة على الأراضى التى تجرأت على غزوها!
أصبح الشعور الوطنى مكونا رئيسيا من الشخصية المصرية حتى بعد انهيار أعظم ممالكها فى منتصف القرن الحادى عشر ق.م
بانتهاء تلك المملكة تعرضت مصر لمدة ستة قرون ونصف لأمواج من الأطماع الخارجية لم تكن حركة التحرر الوطنى غائبة عنها وتجسدت فى مشاهد كبرى، ربما من أقواها ثورات المصريين ضد الاحتلال الفارسى التى تجسدت خلالها زعامات مصرية وطنية صريحة قادت ثورة قومية ضد الاحتلال الأجنبى!
أول ضربة للقومية المصرية أتت على أيدى أول من حكم مصر من رجال الدين أو ملوك الأسرة ٢١ والذين بدأت بهم ومعهم رحلة انهيار الدولة المصرية الوطنية!
ثم كانت الضربة الثانية الأكثر تأثيرا هو سياسة تجنيد المرتزقة فى الجيش المصرى من غير المصريين التى بدأت على استحياء نهاية الدولة الحديثة حتى أصبح الجيش المصرى جيشا من المرتزقة بالوصول إلى ما قبل غزو الإسكندر مباشرة وهو ما فتح أبواب مصر على مصراعيها لكل غازٍ وطامعٍ!
رغم تفريغ مصر من قوتها المسلحة الوطنية، فقد ظلت (المشاعر الوطنية) حاضرة بقوة فى مكون الشخصية المصرية عقلا وروحا حتى دخول المسيحيية مصر!
كانت القرون الاربعة والنصف الاولى بعد الميلاد هى الطلقة المباشرة الأولى التى أصابت (الروح القومية المصرية) الساكنة بالعقل والروح المصرية!
ففى تلك القرون انخرط المصريون بكل قوتهم الروحية فى صراعات جديدة بعيدة تماما عن فكرة القومية المصرية. كانت هذه القرون بداية لكى تحل الهوية الدينية فى العقل الجمعى المصرى بديلا عن (الوطنية). لقد أغرق البابوات – الذين كان غالبيتهم إغريق متمصرين أو مصريين متأغرقين – المصريين فى متاهات الصراعات الدينية وعرف المصريون لأول مرة فى تاريخهم العنف الدينى !
فى منتصف القرن الخامس حدث الانقسام المسيحى الكنسى الأكبر واتخذت الكنيسة المصرية إجراءات فسرها البعض أنها إجراءات قومية مصرية، لكنها أولا لم تكن سوى إجراءات انتقامية على خلفية دينية، وثانيا جاءت متأخرة جدا وبعد فوات الاوان وبعد أن تم العبث بالفعل بهوية الشخصية المصرية وطبيعتها التاريخية!
بعد الغزو العربى لمصر تم الإجهاز عمدا على كل ما من شأنه البقاء على أية مشاعر مصرية وطنية! تم ذلك عبر قائمة طويلة من من الإجراءات، منها الحقن الجينى القسرى للجسد المصرى عبر تنفيذ عملية ترانسفير قبلى بدوى منظمة وموزعة جغرافيا!
ثم عدم تنفذ وصية النبى (صلى الله عليه وسلم)، فلم يتخذ الغزاة العربُ من المصريين أجنادا بل تم استبعادهم تماما خوفا من الروح القومية المصرية!
بعد سنوات عمرو بن العاص القليلة الحكيمة فى حكم مصر سار من بعده على غير سيرته فحكموا المصريين بالعنف والاستعلاء والدم والنار أحيانا وقابلوا ثورات المصريين بدموية شديدة!
بعد حوالى قرن ونص قرن من الغزو تم إخماد ثورات المصريين وبدأت رحلة طويلة من غرس فكرة الهوية الدينية فى العقل المصرى الجمعى بديلا عن أية هوية أخرى وبدأ معها غرس فكرة الاستعلاء بالدين!
تحول كثيرٌ من المصريين للديانة الجديدة وانهمكوا فى تيه القفهاء وتفسيراتهم عبر القرون وتم انتزاعهم تماما من أية عباءات وطنية أو قومية يمكنها أن تناطح أية سلطة ترتكن على فكرة الحاكم المسلم!
أصبح هناك وفى المرتبة الاولى مسلم وغير مسلم، ولم يعد هناك مصرى! 
وكانت مظالم الحكام من أمويين لعباسيين لفاطميين لأيوبيين لمماليك لعثمانيين ومماليك -بخلاف المغامرين الذين حاولوا الاستقلال بولاية مصر- لا ينظر لها المصريون نظرة وطنية أو يطلق على هؤلاء ألقاب مستعمرين، إنما كانت غاية آمال المصريين أن يكون الحاكم المسلم صالحا عادلا! 
لم يعد يأنف المصريون منذ تلك القرون الأولى بعد الغزو العربى من فكرة الحاكم الأجنبى طالما كان مسلما! 
لقد تم تغيير المفاهيم العقلية وتوجيه المشاعر وجهة أخرى، جعلت أيا من هؤلاء الحكام ومهما كانت مظالمه هو أقرب للمصرى المسلم من المصرى المسيحى كما سنرى فى موضعه من تناول أحداث الحملة!
لذلك فالأمة المصرية لم تكن قبيلة هبطت وادى النيل، وكانت تحنى رأسها للمحتل ثم تمضغه على مهل! هذه المقولة افتئاتٌ على تاريخ هذه الأمة، التى كان لها تاريخها الوطنى الطويل الذى رفض الرضوخ لأى حكم أجنبى قبل أن تفقد قوتها العسكرية الوطنية فاُجبرت بالقوة على الرضوخ!

(3)

فحين دخلت قوات الاحتلال الفرنسى مصر عام ١٧٩٨م لم تكن هناك أمة مصرية على قيد الحياة حتى تنتفض ضد المحتل الجديد!
هذا ما سجله الجبرتى فى مشهد الغزو الأول فيما يشبه فضيحة تاريخية!
وصل الأسطول الانجليزى الى الاسكندرية باحثا عن نظيره الفرنسى قبل وصول الأخير بعشرة أيام كاملة. حدث لقاء بين الإنجليز وحكام الاسكندرية وأعيانها وعرفوا خبر المحتل القادم فردوا بعنف بأن هذه الارض ملك لسلطان المسلمين، وبعثوا لحكام القاهرة  - عثمانيين ومماليك- فسخر هؤلاء من الفرنسيس قائلين إنهم سيسحقونهم بسنابك خيولهم!
عرف الجميع – مصريون وغير مصريين – الخبر قبل حدوثه بأيام ولم يحرك أحدٌ ساكنا وجاء الفرنسيون ورآهم المصريون عصرا وذهبوا لبيوتهم ليناموا حتى استيقظوا صباحا وجنود الحملة فوق رؤوسهم!
إن أى اعتقاد مصرى معاصر عن حوار بين فلاحين مصريين أو طلاب أزهر أو علماء أزهر عن تنظيم مقاومة شعبية ضد الاحتلال هو محض خيال كامل!
إن أى اعتقاد مصرى معاصر عن زعامةٍ لمصريات فى مقاومة الحملة  هو ليس فقط مجرد خيال، إنما ترويجه يُعد تواطؤا مع الذين أجرموا فى حق المصريات فوصلن إلى الحال الذى كشفته الحملة!
وإن أى تخيل مصرى معاصر عن خطب عصماء ألقاها فلاح مصرى فى جموع الفلاحين عن تنظيم مقاومة وطنية ضد المحتل للبلاد هو أضغاث أحلام!
بعد هزيمة عسكر المماليك هزيمة مخزية مثيرة للسخرية وورود الخبر لأهالى القاهرة، لم يفكر أحدٌ فى تنظيم أى مقاومة، بل إنهم – أعيانا وعلماءً وعامة – اجتمعوا وقرروا الهروب من القاهرة ليلا!
خرجوا ليلا بأسرهم وممتلكاتهم تاركين القاهرة لمحتليها قبل أن يصلوها! وأفاض الجبرتى فى وصف الموكب الحزين ليلا وتندر على ارتفاع ثمن البغلة العرجاء أضعافا!
واكتملت المأساة بمجرد وصول الموكب أطراف الصحراء، حيث كان البدو فى انتظارهم لنهبهم حتى وصل الأمر لنهب ملابس الرجال والنساء! عاد الجميع منكس الرأس منتظرا مصيره!
دخل نابليون القاهرة بسهولة سجلتها يوميات الجبرتى وكتابات وخطابات جنود وقادة الحملة!
أرسل فى طلب الأعيان والعلماء لتنظيم شؤون الناس فخافوا من الذهاب إليه وأرسلوا أقلهم مكانا، ولما سألهم عن كبار العلماء والأعيان قالوا إنهم خافوا وذُكر عمر مكرم بالاسم أنه خاف واختفى!.
أخبرهم بونابرت – ولم يكن كاذبا – أن أعداء الفرنسيين هم المماليك والعثمانيون الذين جعلوا من أمة عريقة مثل المصريين على هذه الحال! وأنه يود تنظيم ديوان يتولاه كبارهم لتنظيم شئون الناس ولاطفهم فى القول وتودد إليهم فنزلوا من عنده مسرورين! هذا ما ذكره الجبرتى نصا!
(4)
تعايش المصريون مع (المحتلين الفرنسيين) تعايشا كاملا فى سلام لعدة أشهر وتوادوا وتم تبادل الزيارات بين كبارهم وكبار الفرنسيين ومشهد المقاومة الوحيد الذى تم تسجيله هو مشهد قيام أحد الشيوخ بإلقاء علامة الجوكار على الأرض بعد أن أهداها إليهم بونابرت واتفقوا أن يلبسوها بعيدا عن العامة!
لم تكن هناك مقاومة وطنية أو زعماء وطنيين سريين طوال تلك الأشهر ولم يستخدم المصريون أية مفردات عن (محتلين)، إنما تم استخدام مصطلح (الكفار) للفرنسيين، ومصطلح أهل الإسلام للعثمانيين والمماليك!
بل إن الفرنسيين شاركوا المصريين بعض الاحتفالات الدينية، ومنحوا أموالا لزعماء دينيين لإقامة تلك الاحتفالات!
قدم الجبرتى دون أن يقصد وصفا رائعا لسيادة هذه المشاعر وطغيانها على المصريين فى مشهدين، الثانى هو الأهم لأنه جاء بعد خروج الحملة مباشرة. حيث أفرد الجبرتى أكثر من عشر صفحات لوصف مظاهر احتفال المسلمين من مصريين ومماليك وعثمانيين بخروج الفرنسيس الكفرة!
المشهد الأول سجله كتاب وصف مصر عن لقاء جنود الحملة فى أيامها الأولى بفلاح مصرى ودار حوار معه استنكر فيه قدوم الفرنسيس بدون إذن السلطان، ولما أخبره القائد الفرنسى أنهم استأذنوا السلطان رحب بهم وسألهم عن أحوال سلطان المسلمين!
بقيت حقيقة أخيرة عمن أعاد بعث الروح القومية المصرية بعد قرون طويلة من محاولات الاغتيال العمدى لها. 
فلا طلاب الأزهر ولا علماؤه ولا الزعامة الشعبية التى ظهرت أثناء وبعد الحملة هم من قاموا بذلك!
إنما الذى قام بذلك هو الألبانى محمد على باشا – بقصد أو دون قصد – حين أعاد تجنيد المصريين فى جيش بلادهم، وحين أعاد عقول المصريين للعمل عبر مشروعه التعليمى والنهضوى الأعظم منذ غزو العرب لمصر، وحين انتشل المصريين من الغيبوبة التى كانوا غارقين بها والتى سأعرض لها لاحقا!
فى الحلقة القادمة سنرى كيف كان حال مصر والمصريين وقت دخول الفرنسسين، وسنرى إن كانت ثورة القاهرة الأولى حقا ثورة أم أن الجبرتى وصفها بوصفٍ آخر تماما!