رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ملك المقامات».. نجل الشيخ مصطفى إسماعيل: كان طفلًا مشاغبًا ودخل الكُتاب مجبرًا بعد «علقة محترمة»

نجل الشيخ مصطفى إسماعيل
نجل الشيخ مصطفى إسماعيل يتحدث للدستور

- ضابط و3 عساكر اصطحبوه فى «بوكس شرطة» ليقرأ القرآن فى حضرة الملك 

- الشيخ حسن صبح نهَره فى أول قراءة وقال له: «انزل من على الدكة يا ولد»

فى شهر الرحمات يتقرب المصريون إلى الله بالطاعات، ولعل أكرمها الاستماع إلى القرآن الكريم بأصوات عمالقة التلاوة الراحلين، وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل «١٩٠٥- ١٩٧٨م»، صاحب الصوت الواسع والموهبة الفذة فى تذوق والتحكم بالمقامات الموسيقية واختيار المناسب منها للتعبير عن جوهر الحكمة الإلهية، ببراعة نادرة يصعب أن تتكرر.

«الدستور» التقت نجله عاطف، للحديث عن رحلة «ملك المقامات» مع القرآن الكريم، وكيف برز اسمه من قارئ مغمور فى قرية ميت غزال بمركز السنطة بمحافظة الغربية، إلى قارئ القصر الملكى زمن الملك فاروق «١٩٢٠- ١٩٦٥»، والمواقف التى جمعته بالزعماء والقادة والمشاهير فى مصر والوطن العربى.

■ من اكتشف موهبة الشيخ مصطفى إسماعيل فى تلاوة القرآن الكريم؟.. وكيف وضع قدمه على أول طريق الشهرة؟

- الشيخ كان طفلًا مشاغبًا جدًا وكان يحكى لنا أنه كان «ولد شقى جدًا» وأن والده وجده كانا يضربانه بسبب عدم اجتهاده فى حفظ القرآن وحبه للعب والعوم فى ترعة القرية، وفى مرة أخبرهما شيخ الكُتّاب أنه يتمتع بصوت حسن جدًا، فحرص والده وجده على أن يلتزم فى الكُتّاب، بعد أن لقنه جده «علقة محترمة» وحرص على أن يُلحقه بالمعهد الأزهرى فى طنطا لإتمام الحفظ الصحيح، وكان المعلمون بالمعهد وزملاؤه يستدعونه للقراءة فكان يجذبهم جدًا بحسن صوته وتلاوته.

وأول طريق الشهرة كان فى عزاء حسين القصبى، عضو مجلس الشيوخ، عام ١٩٢٧، وكان عضو البرلمان ‏عن مديرية الغربية، وتوفى فى تركيا بعد رحلة علاج ودُعى للقراءة كبار المقرئين فى ذلك الوقت، فى عزاء كبير أقيم فى مدينة طنطا.

كان نجل «القصبى» صديقًا لوالدى وجاء وسأله «عندك عمة وكاكولة»؟ فأجاب والدى: «نعم» فقال له: «هتقرا فى الميتم»، وعندما صعد الدكة المخصصة لقارئ القرآن، نهَره الشيخ حسن صبح وكان من القراء المدعوين للقراءة فى العزاء، وقال له: «انزل من على الدكة يا ولد هو لعب عيال؟».. فأخبره أهل الميت أنه مدعو للقراءة، وبعد أن قرأ انبهر به الجميع، وأثنى عليه المشايخ.

وفى عزاء الزعيم الراحل سعد زغلول عام ١٩٢٧، دُعى الشيخ للقراءة وكانت أول مرة يغادر فيها حدود الغربية للتلاوة، وكل من استمع إليه سأل عن طريقة الاتصال به وعنوانه، وكان من بين الحضور فؤاد باشا سراج الدين، السياسى الشهير، وأعجب بصوت الشيخ، فاتفق معه على أن يستضيفه طوال شهر رمضان فى قصر العائلة بكفر الجرايدة التابع لمركز بيلا بمحافظة كفرالشيخ ليقضى الشهر كله هناك يقرأ القرآن على الناس.

وكنت أنا من يستقبل اتصالات الناس وأتفق معهم، وذات مرة ورد اتصال من القاهرة وطلبه جماعة من الناس ليقرأ فى عزاء، لكن والدى رفض لأنه لم يكن يفضل مغادرة الغربية، وقال لمحدثه: «أنا ما اعرفش حاجة فى مصر»، وطلب أجرًا كبيرًا كنوع من التعجيز، لكن فوجئ بقبول طلبه وقد طلب ٣٠ جنيهًا وكان رقمًا كبيرًا. 

وحين بدأ الشيخ يخرج للمحافظات للقراءة، اشترى سيارة ماركة «باكارد» الأمريكية وكانت تُباع فى مزاد لمقتنيات الملك، كما نصحه أصدقاؤه بالاشتراك فى رابطة «تضامن القراء»، التى كان يرأسها الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، ونائبه الشيخ محمد الصيفى، وفى أحد احتفالات الرابطة بمسجد سيدنا الحسين فى القاهرة، قرأ من سورة الفجر، وكانت الإذاعة المصرية تنقل الحفل، وقرأ نصف ساعة، وأصيب السمّيعة بحالة جنون وخرجوا وراءه من المسجد فى حشود كبيرة.

■ كيف وصل الشيخ مصطفى إسماعيل لقصر الملك فاروق وأصبح قارئًا للقصر الملكى؟

- بعد أن ذاع صيت الشيخ فوجئنا فى أحد الأيام بفتاة من القرية تطرق باب بيتنا لتخبرنا أن ضابطًا و٣ عساكر يسألون عن الشيخ، وبالفعل وصل الضابط إلى منزلنا وسألنى: هل هذا منزل الشيخ مصطفى إسماعيل؟ فأجبت: نعم، فسألنى مرة أخرى هل هو مقرئ؟، فقلت: نعم، فقال لى نحن نبحث عنه منذ ٣ أيام.

واصطحبوه وسط حالة ذهول، وأخذوه إلى مدير طنطا، ووقتها كان يطلق على المحافظ اسم مدير، ومنها إلى قصر عابدين، وحكى لى والدى أنه حين دخل القصر وجد جمعًا من الناس فى انتظاره، وأن من رحب به هو مراد باشا محسن، ناظر الخاصة الملكية، وطلب منه القراءة، وحين سمع الملك فاروق صوته هبط من الطابق الأعلى، وسأل مراد باشا عن القارئ ومكان إقامته فأخبره أنه من طنطا، فقال له الملك «لا عاوزينه هنا»، وبالفعل حجزوا له غرفة فى لوكاندة شبرد، القريبة من القصر.

والمرة الثانية التى قرأ فيها للإذاعة كانت فى عزاء الملك أحمد فؤاد الأول، والد الملك فاروق، بحضور كل القناصل والسفراء حتى المندوب السامى البريطانى، وكانت فرحة عارمة فى قريتنا كاملة.

■ خلال لقاءاته المتعددة بالملك فاروق.. هل حدث أى موقف طريف حكاه لك الشيخ؟

- هناك موقف طريف لم ينسه الشيخ ولا الملك فاروق، كان فى إحدى الليالى وكانت ليلة القدر، وكان الملك يسلم على والدى وقال له عدة أشياء فرد والدى على الملك فاروق قائلًا: «شكرًا يا بيه»، فضحك الملك فاروق قائلًا: «الشيخ مصطفى أنعم علينا بالبكوية».

■ عاصر الشيخ مصطفى إسماعيل العديد من الحكام، من كان أقربهم لقلبه؟

- كان يحب الرئيس الراحل أنور السادات والزعيم جمال عبدالناصر، وكان الرئيس السادات يحاكيه ويقلده أثناء حبسه وقت أن كان متهمًا بالمشاركة فى اغتيال أمين عثمان عام ١٩٤٤، ففى أحد البرامج المذاعة على الهواء، اتصل أحد الجماهير وسألته المذيعة عن طلبه فقال أريد أن أستمع للشيخ مصطفى إسماعيل، فأخبرته المذيعة أن البرنامج برنامج للأغانى، وقالت له أن يرسل إهداءً على الهواء بدلًا من الأغنية فقال لها «هعمل إهداء للرئيس السادات وأقول له بأمارة لما كنا بنقلد الشيخ مصطفى إسماعيل أنا وأنت فى السجن، وأنا اسمى محمد عبدالرحيم».

■ من الألقاب المعروفة عن الشيخ «ملك المقامات» فى دولة التلاوة فكيف تعلمها؟

- سأفاجئك حين أقول إنه لم يدرسها أكاديميًا، وتعلمها بالفطرة والممارسة، المقام هو اتجاه لحنى معين يستخدمه القارئ فى تلاوة القرآن، والمقامات منها ٧ رئيسية و٧٦ فرعية، فكان يستمع ويقرأ بطريقته، وله مساحة صوت واسعة وحس فنى، واستطاع من خلاله توظيف المقامات فى موضعها.

■ هل ورث أى من أبنائه موهبته فى تلاوة القرآن؟

- نحن أبناء الشيخ ٣ رجال و٣ سيدات أشقاء، لم يرث أحد منه حب التلاوة غيرى، كنت أحب أن أقرأ وتعلمت المقامات على يد الشيخ عبدالفتاح القاضى، ولكن لم أستمر فى هذا الطريق، بسبب سفرى لألمانيا والإقامة فيها والانشغال بحياتى وعملى.

■ وكيف كان يتصرف الشيخ فى بيته ومع أسرته؟

- الشيخ مصطفى إسماعيل كان ثائرًا ويصعب إرضاؤه ولم يكن يعجب بشىء بسهولة، وحتى تسجيلاته التى كان يرسلها له الأحباب لم تكن تعجبه وكان يسألنى مستنكرًا: «هو أنا قلت كده؟».

وكان متميزًا متفردًا لا يشبه أحدًا ولا يحب تقليد أحد «حتى مكانش يعرف يقلد نفسه»، لو قرأ وهاج السمّيعة وطلبوا منه الإعادة بنفس القراءة كان يغيرها ولم يستطع تقليدها أو تكرارها حرفيًا.

■ هل تنبأ والدك بوفاته كما يُشاع؟

- نعم وأنا أيضًا تنبأت بذلك، وشعرت بدنو أجله رغم وجودى فى ألمانيا، كنا فى شهر ديسمبر ١٩٧٨، وقتها كانت تحتفل الدول الأوروبية بالكريسماس، وحين خرجت من الحمام كانت زوجتى الألمانية تسألنى: هل كنت تكلم نفسك؟ فقلت لها: نعم.. لا أعلم لماذا تصورت أن والدى توفى ويحاولون الاتصال بى للحضور.

وبسبب احتفالات رأس السنة لم أتمكن من الحصول على تذكرة طيران بسهولة، وبعدها تلقيت اتصالًا من أخى يخبرنى بأن والدى أصيب بانفجار فى المخ وسقط، ونقلوه إلى المستشفى الميرى بالإسكندرية. 

ودبرت تذكرة عن طريق أحد مسئولى المطار، وحين وصلت مصر أخبرنى الطبيب أن الشيخ قارب على الرحيل بسبب سريان الدم فى النخاع وأنه استنفد كل الوسائل لإنعاشه.

قبل أن يتوفى والدى كان يقرأ فى مسجد البحر بدمياط برفقة الرئيس السادات، وكان معه سائقه الخاص محرم، وكان السائق قد حكى لى أن الشيخ فى طريق العودة كان يقول له «الواد عاطف ابنى دايمًا يقول لى قول الأذان قبل ما تقرأ فى أى مناسبة علشان تمشى صوتك»، وبالفعل بدأ الشيخ يؤذن ثم تلا القرآن، وفجأة توقف وسأل محرم السائق «هو أنا كنت بقول إيه؟» فأخبره محرم أنه لا يحفظ القرآن فقال له الشيخ «قُل أى كلمة»، وكانت بداية فقدانه الإدراك.

وعرفت من المقربين أن الوالد بعد عودته من القراءة فى مسجد البحر طلب من السائق أن يغطى السيارة بالغطاء المشمع رغم أنه كان لا يحب تغطيتها أبدًا، وحين تعجب السائق قال له الشيخ «أنا خلاص مش طالع»، ثم استدعى الخادمة وزوجها وظل يوصيهما على المنزل حتى ظنا أنه مسافر.